الموضوع:- حديث الحل – ادلة البراءة - الأصول العملية.
كان الكلامُ في اصالةِ
الحلِ باعتبار أنّها دليلٌ من أدلةِ البراءة ومرَّ بنا أنَّ الحديث الشريف وهو
(كلُ شيءٍ لكَ حلالٌ حتّى تعرفَ أنّهُ حرامٌ بعينه[1])
قد وردَ بثلاث طرق مرَّ ذِكرُها، وإستُشكل على دلالة الحديث بعدة اشكالات:
الاشكال الاول:- انّ هذا المتن لم يرد
بصورة مستقلة، والمقصود من هذا الاشكال وهو أنّ هذا المتن لم يرد بصورة مستقلة هو
أنّ هذا المتن لم يجعل بالذات، فان هذا المتن في الحقيقة أثر مشترك منتزع من
أمارات موضوعية أخرى تشتركُ في أثرٍ معينٍ وهو الحلية الظاهرية مثل قاعدة السوق وقاعدة
الاقرار وقاعدة اليد،فهذه الحلية ليست مجعولة إبتداءً وتأسيساً،ولذا جماعة من
الاعلام حتى في الفقه لم يلتزموا بقاعدة اسمها اصالة الحل فقالوا ليس لدينا قاعدة
مستقلة مؤسسة مجعولة بأسم قاعدة الحل وما ورد
(كل شيء
لك حلال حتى تعرف الحرام بعينة) هذا وارد بعنوان أثر مشترك لقواعد وأمارات
موضوعية،فأصلا لا يوجد جعل مستقل بأسم قاعدة الحل فكيف تكون دليلا على البراءة
وليس الحال كما في قاعدة الطهارة
(كلُ شيءٍ لك طاهرٌ
حتى تعلمَ أنّه نجسٌ) فإنها مجعولة بجعل مستقل، اذن فالمجعول هي قواعد أخرى
وهذه القواعد خُذ بها في إثبات الحلية الظاهرية واعمل بها حتى يستبين لك غير ذلك
أي تعلم بعلم وجداني بمخالفة هذه الأمارات للواقع ولو بتوسط آليات العصر الحديثة
او تقوم البينة وتشهد بغير مفاد هذه الأمارات، ولذا غيرُ واحد من الاعلام
المعاصرين
ونحن ايضا تبنيناه ان جملة من
الأمارات الموضوعية مثل قاعدة الفراش والمراءة مصدقة في قولها ويد المسلم وقواعد
أخرى اذا تبين بالعلوم العصرية الحديثة ــ بنحو العلم لا بنحو الظن ــ مثل
الفحوصات الهندسة الوراثية المسمى بالدي ان أي ان هذا الولد ليس لأبيه من الفراش
فلا يُعول على قاعدة الفراش،واللطيف ان الرواية تقول
(حتى
يستبين لك غير ذلك) أي يحصل لك العلم، او
(تقوم
به البينة) والبينة أمارةٌ تتلوا العلم ولكن العلم مقدم، فإذاً هذا الحديث
الشريف ليس بصدد إنشاء وتأسيس قاعدة مفادها اصالة الحل بل هذا الحديث في صدد دفع
الوسوسة عن العمل بأمارات موضوعية فهو يأمر بالأخذ بهذه القواعد الموضوعية ولا
غاية للأخذ بها الا العلم الوجداني بالخلاف او تقوم البينة التي هي اقوى منها واما
اذا لم تحصل هذه الغاية فلا وسوسة بالأخذ بها فرواية مسعد بن صدقة في هذا الصدد.
واما صحيحة عبدالله ابن سنان فلعلها مقطعة من نفس المتن الذي ورد في موثقة مسعدة
او ومن رواية عبدالله ابن سليمان خصوصا ان الراوي عن عبدالله ابن سليمان هو
عبدالله ابن سنان وفي رواية عبدالله ابن سليمان تطبيقها على الجبن، وهذا البيان
الذي في رواية عبدالله ابن سليمان من ان الامارات الموضوعية يعمل بها إستفيد منه
نكات كثيرة في الشبهات الموضوعية في الابواب الفقهية سنذكره في الاشكال الثاني.
الاشكال الثاني:-
لو سلمنا أنها
قاعدة مؤسسة ولكنها قاعدة في الشبهة الموضوعية لا صلة لها بالشبهة الحكمية والحال
أنّ كلامنا في البراءة أي في الشبهة الحكمية والقرينة على انها في الشبهة
الموضوعية نفس رواية عبدالله ابن سليمان ففيها
(كل شيء
يكون فيه حرام وحلال[2]) فهذه شبهة موضوعية
خارجية لانه يوجد علم إجمالي بالحرمة والحلية فهذه الرواية بصدد بيان ان الامارات
الموضوعية سواء كانت أصالة الحل او قواعد أخرى فإنك ايها المكلف الموسوس لا تظنن
أنّ العلم ألاجمالي بالحرمة في الموضوعات مانع عن جريان الامارات الموضوعية
الظاهرية المحللة في بعض الاطراف المبتلى بها مع كون البعض الآخر غير مبتلى به،
وهذه ضابطة موضوعية دقيقة عمل بها الفقهاء كافة في الابواب الفقهية وهذه الرواية
بصدد بيان هذه الضابطة في الشبهة الموضوعية فمثلا انت تعلم ان شخص يقامر او يبيع
الخمر او يبيع الخنزير او امواله من السرقات او غيرها من المحرمات ولكن لديه مصادر
محللة أخرى فاذا أراد ان يعطيك هدية او يستضيفك في بيته فلا يحرم عليك اخذها وذلك
لانه ليست كل امواله محل ابتلاء بل بعض امواله فهنا لا مانع من جريان قاعدة اليد
لان اليد امارة على الملكية نعم لو قال لك ادخل الدكان وخذ ما شئت وكنت تعلم ان
بعضها مغصوب فهنا لا يحوز الاخذ منها وذلك لان المفروض ان كل امواله صارت هنا محل
ابتلاء اما لو اعطاك هو بنفسه فيجوز لان بعضا امواله هنا صارت محل الابتلاء والبعض
الاخر ليس محلا للابتلاء فالعلم الاجمالي غير منجز بل المنجز بعض اطرافه فتجري فيه
قاعدة موضوعية بلا معارض فروايات اصالة الحل في صدد دفع هذه الوسوسة وهو ان مجرد
وجود علم اجمالي في بعض اطرافه محل ابتلاء وبعضها ليس محل ابتلاء هذا العلم
الاجمالي في الشبهات الموضوعية ليس مانعا عن جريان الاصول والامارات الموضوعية في
طرف الابتلاء، اذن هذا محصل الرواية واين هذا من جريان اصالة الحل في الشبهة
الحكمية؟
وقد مر بنا ان النراقي
وصاحب الكفاية ولعل جملة من القدماء يعتبرون ان اصالة الحل ليس فقط قاعدة مؤسسة
وفي الشبهة الحكمية بل يقولون ان
(كل شيء لك حلال حتى
تعرف انه حرام بعينه) ثلاث قواعد فلاحظوا الفرق بين القول بانها ليست قاعدة
اصلا وانما هي عنوان مشير الى قواعد اخرى وبين من يقول انها ثلاث قواعد وليس فقط
ثلاث قواعد بل دليل اجتهادي اولي لانه عندما يقول
(كل
شيء لك حلال) يعني كل شيء بعنوانه الاولي حلال أي حلية واقعية فلاحظوا
البون الواسع في الاستظهار مثل
﴿خلق لكم ما في
الارض جميعا﴾[3]فهو اباحة واقعية الا ما
خرج بالدليل فكذا
(كل شيء لك حلال) و(كل شيء لك طاهر) اصلا
هي قاعدة اجتهادية لحلية واقعية وطهارة واقعية فهذه القاعدة الاولى والقاعدة
الثانية ان قوله
(حتى تعلم) هو جعل لحلية ظاهرية
ففي الصدر لم يأخذ العلم وفي الذيل اخذ العلم فهو دليل على حلية ظاهرية او طهارة
ظاهرية والقاعدة الثالثة تستفاد من لفظة
(حتى) فحتى
تعني استمرار ويعني استصحاب ففرق بين ان يقول لك
(كل
شيء حلال ما لم تعلم انه حرام) وبين اني يقول لك ( كل شيء لك حلال حتى تعلم
انه حرام) فحتى تعني الاستمرار والاستمرار يعني الاستصحاب ولذلك النراقي وصاحب
الكفاية جعلا تركيب اصالة الحل وتركيب اصالة الطهارة من ادلة الاستصحاب القوية
فلاحظوا ان قوله
(كل شيء لك حلال) او (كل شيء لك طاهر)
فان الطهارة والحلية رُتبت على شيئية الشيء بعنوانه الاولي وهذا يعني حلية واقعية
وطهارة واقعية فهو دليل اجتهادي فهذا الصدر ليس في صدد بيان الحكم الظاهري اصلا
فلاحظوا البحث الفقهي كيف يميز بين القواعد الظاهرية والادلة الاجتهادية على
الاحكام الواقعية،ويستظهر من لفظة
(تعلم) انه
هناك شيء ظاهري في البين أي اما حلية ظاهري او طهارة ظاهرية ويستفاد من
(حتى) الاستصحاب،اذن إستفاد الملا احمد النراقي من
تركيب واحد ثلاث قواعد وتبعه على ذلك صاحب الكفاية وكما سياتي أنّ الميرزا علي
الإيراني في الحاشية على المكاسب توسع في نفس هذه القواعد فدقق في هذا المطلب،ففي
هذا المنهج لم يستشكل الاعلام عليه أي من جملة واحدة يستنبط الفقيه ثلاثة جمل ــ
بغض النظر عن تماميته في خصوص هذا المثال ــ فظاهر التركيب جملة واحدة ومفاد واحد
ولكن بالتدقيق يُفَكِك الفقيه الجملة الواحدة الى ثلاث جمل وثلاث جمل تعني ثلاث
قواعد وثلاث مفادات وهي متباينة فيما بينها فواحدة دليل اجتهادي وواحدة اصل محرز
وواحدة اصل تنزيلي وهي ذات رتب متباينة فالأصل التنزيلي رتبته متأخرة عن الاصل
المحرز وهو الاستصحاب والدليل الاجتهادي متقدم على الاصل المحرز.
اما الآن هذا النمط من
التعمق يعتبروه استحسان او هلوسه عند المتاخرين بينما مثل هذه الاستنباطات
الموزونة ضمن تراكيب موزونة عند القدماء ممارسة وهذا مذكور في علم البلاغة لذلك
ورد عن اهل البيت صلوات الله عليهم في الآية الواحدة وفي الجملة الواحدة بل في
الكلمة الواحد انه لعل كلمة نزلت في مورد وكلمة ثانية نزلت في مورد آخر وكلمة نزلت
في مورد ثالث وهلم جرا مع اننا نحسب ان سبب النزول لابد ان يكون موردا واحدا،
وجواب الاشكالين سياتي.