الموضوع: علاقة عالم الاعتبار والاحكام العقلية
كنّا في بحث العلاقة بين عالم الاعتبار والأحكام العقلية التكوينية وكنّا في ذكر الفرق بين النظرية الثانية والنظرية الثالثة
وذكرنا ثلاث نقاط مشتركة بينهما وذكرنا أيضا نقاط امتياز بين النظريتين
وإجمالا معنى الاعتبار في النظرية الثالثة هو في نفس الوجود الفرضي في المعنى الاعتباري اما نفس المعنى الاعتباري ماهية فهو مقتبس من الواقع وعلاقته ايضا بالمبدأ التكويني الذي انطلق والغاية وماتحته من ملاكات أيضا علاقة تكوينية في الجملة
مثلا الطهارة لها صلة بالطهارة التكوينية وكذا النجاسة والقذارة وكذا الملكية والزوجية فتحكي الواقع في الجملة لا بالجملة فمنشأ الاعتبار هو وجوده الفرضي بلحاظ كلية تواجد الملاك أو تواجد الماهية في الطبيعة
ونقطة اخرى بالنسبة للنقطة الثالثة وهي بلحاظ أصل وجود الماهية فليست اعتبارية لذلك ذهب جماعة من الاصوليين الى ان الحكم الشرعي ينقسم الى تكليفي ووضعي وجماعة من الاصوليين ذهبوا الى ان الحكم الوضعي ليس اعتباري تشرعي بل هو حكم تكويني أي ان الطهارة تعكس الطاهرة الواقعية وكذا الزوجية وغير ذلك فذهبوا الى ان الحكم الوضعي له واقعية
وهذا يمثل نقطة اضافية على ماتقدم من فوارق النقطة الثانية عن الثالثة من ان الماهية في النظرية الثالثة في الجملة حتى تواجدها في الواقع ليس اعتباري بل هو تكويني حقيقي
وأيضا نوضح نقطة قد تكون مجملة في النظرية الثالثة وهي ان الماهيات الاعتبارية في النظرية الثالثة والمراد من الماهيات هو الماهيات التي وجودها فرضي سواء كانت تكليف أو حكم وضعي فهذه الماهيات حكايتها في الجملة واقعية كما مرّ
فان أدق معاني الوجوب هو ضرورة الفعل فالحكاية في الجملة واقعية فمنشأ الاعتبارية في النظرية الثالثة ان الكلية غير منطبقة دائما وإنما غالبا
فعند النظرية الثالثة ان السبب في قيام نظام الاعتبار عن نظام التكوين هو انه في نظام الاعتبار حكاية عن غالبية افراد الطبيعة وليست حكاية عن ديمومة كلية لكل افراد الطبيعة
وهذا مجمل النظرية الثالثة وهي نظرية دقيقة ومتطورة جدا وهي حصيلة جهود علماء الامامية في علم الاصول
ولكن حصل لنا تطوير للنظرية الثالثة بنحو النظرية الرابعة في الاعتبار وان هذا الإعتبار القانوني أو الأدبي في الحقيقة ضوابطة لاتختلف عن الاعتبار العقلي الفلسفي الكلامي الذي يعدونه اعتباراً نفس أمريا
وان التمييز بينهما غير دقيق بل هما من سنخ واحد
وذلك فان تعريفهم للفلسفة حيث اتفقت عليه كلماتهم سواء المشاء او الاشراق او الحكمة المتعالية فقالوا في تعريف الفلسفة الذي هو ميزان البحث العقلي أي ميزان الموازين للبحث العقلي وقاعدة القواعد للبحث العقلي هو: معرفة الحقائق بقدر الجهد البشري
ولكن نتسائل هنا ونقول هل الحقيقة هي بقدر جهد وقدرة البشر أو هي فوق ذلك؟
ومن المسلم ان سعة الحقيقة هي فوق قدرة البشر وليست الحقيقة ضيقة بحدود جهد البشر بدليل أن الجهد والقدرة البشرية عبر الاجيال في البحث العقلي والمعرفي قد تطور وتوسع
فالعلوم العقلية الباحثة عن المعرفة هي حدود أجمالية وليست حدود تفصيلية وهذا المقدار من الإجمال يُظهر ان حدود الواقع غير دقيقة لديهم ولكن هذا لايمنعهم من الاعتراف بأن هذه القضايا حقيقية إجمالا وهذه المعارف تكوينية عقلية إجمالا ويسعون نحوها
وهذا شاهد كبير على كون الاعتبارات العقلية النفس الأمرية ليس بالضرورة ان تكون تفصيلية بل اجمالية ابهامية بحسب قدرة البشر لايزعزع نفس أمريتها في حين هي قاصرة عن الوحي قطعا
وشاهد آخر وهو ماذكره الكثير من الفلاسفة منهم ابن سينا في برهان الشفاء وبرهان الاشارات وفي الكليات الخمس والشفاء وكثير من الكتب وقد اعترف الكل بصحة كلام ابن سينا من ان اقتناص الذهن البشري لماهيات الاشياء هو اقتناص مبهم وليس اقتناصا دقيقا وتفصيليا ومع ذلك لم يسبب ذلك أن تكون تلك القضايا اعتبارية فرضية خيالية وسبب تسميتهم هي منطبقة على الاعتبار القانوني كما سنبينه
الشاهد الثالث هناك فصل مستقل عقدة ابن سينا في الهيات الشفاء وقد أبصم عليه كل من أتى بعده بل حتى من قبله وهو فصل طويل فقال ان المعرفة الكاملة وهي المعرفة اللمية بالأشياء هي من نصيب الأنبياء والمرسلين فقط وليست من نصيب عموم الفلاسفة ولا المتكلمين ولا العرفاء بل هي من نصيب الانبياء فقط كما قلنا وذلك لأن الاحاطة بالاشياء لميّاً إنما يتسنى لأحدٍ من البشر اذا كانت لديه إحاطة بالعلل وليست للبشر هذه الاحاطة غير الانبياء
والذي يلزم من هذه الدعوى هو ان البراهين التي تقام في الفلسفة هي براهين إنية وليست براهين لمية والبراهين الإنية التي هي من نصيب البشر غير الانبياء درجتها أقل وأنزل من البراهين اللمية التي هي من نصيب الأنبياء فقط دون بقية البشر
والعلامة الطباطبائي كان كفوءا في الإجابة عن هذه الشبهات بسبب العارضة الاصولية القوية في فلسفة الدين وفلسفة التشريع التي تجرعها من بحوث الفقه وبحوث علم اصول الفقه لذا إن بحوثه في تفسيره الميزان ليست مدينة لبحوثه العقلية البحت كثيرا ما بل مدينة لتضلعه في فلسفات التشريع التي يتمكن منها الانسان بواسطة علم اصول الفقه
وفائدة اخرى مهمة جدا وهي مرتبطة ببحث حجية العلم والقطع وهي ان الحجج التعبدية ليس يعني عدم العلم وعدم الفهم بتاتا في الحجج الشرعية بل الحجة التعبدية يعني الحجة الظنية المبهمة التي درجة الادراك فيها ضعيفة وليس يعني عدم العلم وعدم الإدراك
ومن ثم فالعلم فيه تعبد أكثر وليس بمعنى ألاّ علم أصلاً