الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/05/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - تعدد ماهيات القمار والأحكام - المكاسب المحرمة.

كان الكلام في أنَّ القمار يتضن أربع ماهيات الماهية، الأولى هي المشارطة المالية أو التملك لأحد العوضين بمخاطرة مالية، فإذاً كل تملك مالي فيه مخاطرة فإذاً فيه ماهية قمارية وإن استبدلت الألفاظ كما مرَّ أو عجنت بماهيات اخرى، ولماهية الثانية في القمار هي اللعب بالآلات القمارية بغض النظر عن المشارطة المالية وإنما نفس اللعب والمغالبة أو العب بالآلات، والماهية الثالثة في القمار هي المغالبة والتحدي نفس المغالبة والتحدي فراهنه يعين غالبه وتحداه ومر بنا أنه لعل اشتقاق القمار من المغامرة التي هي المعنى الأول أي أنَّ الغين أبدلت إلى القاف كما هو في بعض اللهجات في اللغة العربية، فإذاً معنى المغالبة يعني التحدي هذه هي الماهية الثالثة في القمار، فإذاً ولو لم تكن الآلة قمارية إذا وصل اللعب فهيا إلى درجة التحدي فحينئذٍ يكون هذا نفس ماهية القمار، والشاهد أنه نركز هذه النقطة الصناعية المهمة وهي أنه قد مرَّ بنا في حرمة لغيبة وحرمة الغناء أنَّ الأدلة الواردة في حرمة الغناء أو الغيبة مثلاً دالة على أن منشأ حرمة الغيبة ثلاث أو أربع حرمات فوقية مثل إيذاء المؤمن وعورة المؤمن وإشاعة الفاحشة، فمر بنا هذا التساؤل وهو أنه هل الغيبة أيضاً له حرمة أو هي تطبيق للحرمات الثلاث أو الأربع أو الخمسة وقد مرَّ بنا أنَّ الأصح أنه جعل آخر ولا يتنافى أنه من مصاديق الحرمات الأربع أو الخمس فيكون مجمعاً ولكن مع ذلك حرمة الغيبة مجعولة بجعل خاص، وهذا شبيه القوانين الدستورية فإن القوانين الدستورية هي قوانين وكذلك قوانين البرلمان يه قوانين مع أنها تطبيقات لقوانين الدستور، كما في القوانين الادارية فهي تطبيقات لقوانين البرلمان ولكنها هي تقنين بنفسه وكذلك القوانين البلدية فإنها قوانين تُنشأ وتستصدر مع أنها تطبيقات، فكون تطبيق القانون لا ينافي أنه مجعول، وهذا بحث نفيس جداً وهو من أصول القانون وقد مر بنا في بحث حرمة الغيبة وبحث حرمة العناء، وهنا في المقام الأمر هكذا فإنه إذا كان القمار متضمناً لأربع ماهيات وهذه الماهيات أدلة حرمة القمار دالة على أن من احد اسباب حرمة القمار هو اللعب المجوني أو الهو المجوني، ومن الواضح أنه يوجد فرق بين الماهيتين بين اللهو المجوني واللعب المجوني، فاللهو المجوني هو لهو وإن لم يكن لعباً وإن كان يتداخل اللهو واللعب كثيراً ولكن يمكن أن يكون لهواً من دون لعب ولنه لهو مجوني، مثلاً الصيد فهو ليس لعباً ولكنه لهو كجوني إذا لم يكن لحاجة ولغرض، فإنَّ الاصطياد لا للتجارة ولا للحاجة وإنما للنزوة فهو لهو مجونين، فليس كل الصيد مجونياً ولكن يمكن أن يكون لهواً مجونياً لأجل غريزة السبعية أو الفتك، فهو لهو مجوني ولنه ليس لعباً، ويمكن ان يكون اللعب مجونياً ويمكن أن يكون ليس مجونياً، فلاحظ أن المجون يمكن أن يوصل غليه من طريق اللهو ويمكن أن يوصل إليه من طريق اللعب، فاللعب المجوني هو لعب بزيادة وهو أن يشتد هذا اللعب إلى أن يحرك نزوات الانسان ويحرك القوى الغضبية فيه فيستشيط القوة الغضبية أو يستشيط القوة الشهوية في اللعب، فلهو مجوني ولعب مجوني، فالقمار من الماهيات المتضمنة فيه هو هذا الهو المجوني واللعب المجوني والتحدي - أربع ماهيات - ففي القمار إذاً كما نخوض في الأدلة بعد قليل أن أدلة تحريم القمار القرآنية أو الروائية دالة على هذه الماهيات وكأنما منشأ الحرمة فيه وجعل الحرمة فيه في هذه الماهيات الأربع، حينئذٍ هذه الماهيات الأربع اينما سرت يحرم ذلك وليس حرمة أحدها معلقة على وجود الأخرى وإنما هي ماهيات في نفسها محرّمة، وقد مرَّ بنا هذا التصوير في الغيبة فإن الغيبة هي مجمع الحرمات مع أن حرمة الغيبة جعلت بتقنين وجعل خاص وهذا لا مانع منه، وحينئذٍ هذه الماهيات الموجودة في مجمع حرمة الغيبة إذا انفردت كل منها عن الأخرى فالحرمة سوف تبقى، وهذه نكتة لطيفة وهي التحليل الماهوي ومنشأ الحكم في فعل معين يثمر أن يقف الباحث على سعة دائرة هذه الماهية، ولذلك الفقهاء في المسائل المستحدثة في القمار جملة من المعاملات التي ظاهرها ليست قماراً ولكن أغراض البشر التي بعضها أغراض مالية فاسدة يقحمون الماهيات الفاسدة مقمصة بماهيات صحيحة كي يغفل عن فساد الماهية الفاسدة وهذا باب واسع يرتكبه البشر دائماً.

ولنذهب أولاً إلى الآيات الكريمة الواردة في حرمة القمار لنرى إلى أنه كم ماهية تشير إليها الآيات في حرمة القمار وتحرّمها الآيات: -

الآية الأولى: - قوله تعالى: - ﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾[1] فهنا الميسر هو القمار، سمي الميسر ميسراً كما مرَّ بنا كون الفائدة المالية فيه تقتنى من دون جهد فهو من خلال لعبة قمارية معينة يمتلك كذا من الثراء المالي فسمي ميسر بهذا اللحاظ، وأيضاً الأزلام بمعنى أنه عنوان آخر دال على حرمة القمار لأن الأزلام فسر بعدة تفسيرات منها أنه نوع اقتراع أي اخراج نصيب المقترعين فبالتالي هذا أيضاً نوع من القمار، وما الفرق بين القرعة التي في القمار مع القرعة التي في الاستخارة؟ القرعة التي في الاستخارة هي اولاً توجه إلى الله تعالى بينما القرعة في القمار توجه إلى الشيطان وإلى التملك المزيف وإلى الوثن، ومن باب الشيء بالشيء يذكر أنه سوف يمر علينا في الروايات أنه يسمّى الشطرنج أو الألعاب القمارية وثنٌ، ومن أحد وجوه إطلاق الوثنية على الآلات القمارية أنَّ فيها توجه لغير الله تعالى كالأوثان، وكذا موجود هذا في الآيات الكريمة مثل قوله تعالى ﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ﴾[2] والأوثان أطلق على الآلات القمارية وبالذات الشطرنج، لأنَّ الشطرنج اشماله كأشكال الأصنام يعني ملك ووزير وفيل وما شاكل ذلك فأشكالها اشكال أصنام، فهي صنمية جملة من الأمم السابقة قبل الاسلام، فهي وثنية بهذا المعنى لأنه يوجد فيها توجه إلى غير الله تعالى، لأنَّ هذا المقامر يستنجد لكي يقع له الحظ يتوجه إلى الشيطان وليس إلى الله تعالى، يعين شيطنة الشيطان لا تختص بالشهويات وإنما ايضاً تشمل انواع اجتناء المال من غير حلّه، فإنَّ هذا نوع من نسك الشيطانية، فإذاً هناك فرق بين الاقتراع الموجود في الاستخارة العبادية والاقتراع في الآلات القمارية فإن الاقتراع في الآلات القمارية فيه توجه إلى غير الله بخلافه في الاقتراع الذي في الاستخارة.

فإذاً موضعين في الآية الكريمة يمكن الاستفادة منهما لحرمة القمار أحدهما عنوان الميسر والآخر الأزلام، بل الأنصاب له عدة تفسيرات وإن فسرّ بأنه ما ذبح لأجل الأصنام وما شابه ذلك ولكن بعض التفسيرات له أنه المراهنة في الأنصبة يعين نصيب كل من المتراهنين، فالآية الكريمة كأنما شاهد على تعدد ماهية القمار من جهة المشارطة المالية وهي الميسر ويسر التملك لمالي ومن جهة القرعة وهي الماهية الخامس للقمار وهي القرعة للتوجه إلى غير الله وهي مطلق القرعة كما مرَّ بنا فإذا توجه بالقرعة إلى الحظ والبخت غير الله عزَّ وجل، وهو شبيه التنجيم المحرم لا التنجيم غير المحرم، فإذا كانت هكذا فهو نوع توجه إلى غير الله استنزال أو طلب للرزق من غير باب الله تعالى فتصير وثنية في الرزق وهو نوع من النسك والتنسك مع الشيطان أو للشيطان ولكن في غير مجال الشهوات وفي غير مجال العقائد وإنما في مجال المال، فالشيطنة والعبادة الشيطانية لها أبواب عديدة وليس باباً واحداً.

ثم إنَّ هذه الآية الكريمة تشير إلى عدَّة ماهيات فهي قالت ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلهكم تفلحون ﴾[3] ، ثم قالت ﴿ إنما يريد الشيطان أو يوقع بينكم العداوة في البغضاء ﴾[4] فإنَّ إيقاع العداوة والبغضاء هي من المحرّمات الكبرى بين المسلمين أو بين المؤمنين، وطبعاً لا يستثمر مستثمر خطأً فإنَّ المخالفة المذهبية فإنَّ ذاك أمرٌ آخر ولكن كلامنا في العداوة والبغضاء لمرامٍ غير دينية - المقصود - وإنما دنيوية وما شابه ذلك، فإيقاع العداوة والبغضاء للدواعي الدنيوية أو ما شاكل بين المؤمنين أو بين المسلمين هي من المحرمات الكبرى.

فإذاً أحد الماهيات المحرمة في الخمر والميسر هي اشتداد العداوة والبغضاء في القمار أو في الألعاب التي هي أحد الماهيات، فهذه الماهية بالتالي محرَّمة فاين ما توجد فهي ماهية محرمة، وقد نقلت لكم أنَّ جملة من الأعلام حتى القدماء كلهم، فكل القدماء عندهم أنَّ اللعب المراهني بغير آلات القمار من دون مالٍ بدرجة مجونية محرم مسلّم عندهم، فعندهم الألعاب من دون مشارطة مالية وإنما إذا كانت بدرجة مجونية ومغالبة هي حرام عندهم وسننقل كلامهم كالعلامة الحلي، وقد جمعنا كلام جملة منهم حيث ذهبوا إلى الحرمة ليس فقط الشيخ محمد أمين زين الدين من المعاصرين الذي نقلنا كلامهم أو بعض أعلام الاحساء، وإنما جملة من القدماء صرحوا بأنَّ اللعب من دون آلات قمارية ومن دون مشارطة مالية أيضاً هو محرم إذا وصل إلى درجة المجون يعني اشتداد العداوة والبغضاء والتحدي والمغالبة، فلاحظ العداوة كم هي محرَّمة بين المؤمنين، ﴿ رحماء بينهم ﴾ فهذه رحماء بينهم يعني أنَّ العداوة محرمة وقطيعة المؤمن للمؤمن بداعي دنيوي فضلا عن الرحم، فالعداوة ليس أمراً محللاً بني المؤمنين، والآن من أحلّ المحللات التي تستحلُّ الآن هي العداوة بين المؤمنين والحال أنها محرمة وكبيرة من الكبائر، وحتى بين المسلمين إذا كان المقصود داعٍ دنيوي،﴿إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء﴾[5] فهذه من المحرمات الكبيرة التي يستدل بها القرآن الكريم لتحريم القمار، إنما حرم الخمر فعداوة المؤمن للمؤمن كشرب الخمر، ﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾، ولذلك ورد أن ( اصلاح ذات البين خير من عامة الصلاة والصيام )، شبيه تفسير لام هابيل ﴿ لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني اخاف رب العاملين ﴾[6] فالعداوة محرمة، لا أنه لا يدافع وإنما لا يحمل العداوة لأن العداوة بين المؤمنين غير محللة ومن يبتلي بها توجب سكر الانسان في العداوة، فهي من المحرمات الكبيرة جداً، فنحن لسنا نملك ولاءاتنا وإنما يملكها اله ورسوله، ولذلك من أعظم الزيارات هي زيارة عشوراء فإنَّ في زيارة عاشوراء هي ناموس عظيم، ففي زيارة عاشوراء تأكيد شديد أنك أيها المؤمن أن ولائك وتبريك ليس بيدك وإنما ميزانه الله ورسوله، فإنَّ اصطفافاك وعدم اصطفافك ليس بهواك وميلك بل بالله ورسوله وأهل بيته، فلاحظ هنا هذه الآية الكريمة ﴿ إنما يريد الشيطان أو يوقع بينكم العداوة والبغضاء ﴾[7] ربطها بزيارة عاشوراء، فلاحظ أنها ماهية واحدة فزيارة عاشوراء تتحدث عن نفس هذه الماهية الموجودة، ألم تقل ( عدو لمن عاداكم ) وليس تقل ( عدو لمن عاداني )، وهي تقول ( ولي لمن والاكم ) وليس ( ولي لمن والاني )، فإنَّ المحور هو أنتم وليس أنا، فلاحظ هذه الزيارة كم هي عظيمة، وفي كل يوم يقف الباحث على معادلة من معادلة زيارة عاشوراء فيها بند عجيب، فحرمة الخمر بهذه الحرمة الكبيرة والقمار هذه الحرمة الكبيرة منشأ عظيم وبنية عظيمة ومستند عظيم في التشريع الاسلامي القرآني ومن أصول التشريع هو، لأنَّ العداوة محرمة بين المؤمنين، فكيف نحن نستهين ونستصغر بأصول التشريع؟!! يعني الخمر حسب هذا المنطق في القرآن الكريم حرمته دون حرمة العداوة والقمار حرمته دون حرمة العداوة بين المؤمنين والمسلمين، فأين نحن من منظومة تشريع القرآن الكريم والحال أننا نتعاطى هذه المحرمات وكأنها ليست شيئاً والحال أنها محرمات كبيرة محورية والمدار هو الله ورسوله وأهل البيت وليست المحورية هي ولياً لمن والاني وعدواً لمن عاداني، كلا أبداً، ولو أنه عندي نفرة دنيوية من هذا الشخص ولكن ليس يحل لي أن أعاديه، وشخص عنده معه منفعة مادية دنيوية ولكن لا يحل لي أن أواليه، ولماذا؟ لأني لا أملك الموالاة والمعاداة وإنما الذي يملكها الله، فلم يقل إنما وليكم أنفسكم وأنانيتكم وإنما وليكم الله، أكبر شيء سيحاسب عليه الانسان هو الولاية، وما هي الولاية؟ يعني لا تجعل الولاية للأنانية وإنما اجعل الولاية لله وللرسول ولذي القربى، فأصل التشريع أو فقه المقاصد - ما شئت فعبر - في تحريم الخمر والميسر والأنصاب وحتى الأزلام وحرمة الوثنية سببها العداوة، فإنَّ الوثنين بالدقة ليسوا ملحدين وإنما هم مشركون فهو يؤمنون بألوهية الإله ولكن موالاتهم جعلوها لغير الله، يعني جعل الموالاة لغير الله هي وثنية جديدة وهذا حسب بيانات أهل البيت عليهم السلام، فهم يعبدون وثناً فمن جعل ولايته لغير الله ورسوله وأهل البيت عليهم السلام فقد عبد الوثن، وهذا وارد في الكثير من الروايات، ومن أين تقولوا بذلك يا أهل البيت؟، هو الآية الكريمة ﴿ يا ايها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾[8] منشأ تحريم الأزلام مع الأنصاب والأزلام قطعاً فيها الأوثان في كلام كافة المفسرين فمنشأ تحريم الأوثان أنك جعلت الولاء والعداوة ليس الله ورسوله والأئمة وإنما جعلت الولاء والعداوة منشأ آخر واصطفافات أخرى، ﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون﴾[9]


[1] السورة مائده، الأية 90.
[2] السورة حج، الأية 30.
[3] السورة مائده، الأية 90.
[4] السورة مائده، الأية 91.
[5] السورة مائده، الأية 91.
[6] السورة مائده، الأية 28.
[7] السورة مائده، الأية 91.
[8] السورة مائده، الأية 90.
[9] السورة مائده، الأية 91.