الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/05/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - المدارية على واقعية الماهيات - المكاسب المحرمة.

مرَّ بنا بحث القمار وتعاريفه اللغوية، ومرَّ أنَّ القمار يشتمل على أقل تقدير أربع ماهيات ماهية المغالبة المالية أي المشارطة المالية أي تملك مال معلَّق على أمرٍ غير معلوم، فهو نوع من المخاطرة فهو يبذل العوض ولا يعلم أنَّ المعوّض سيسلم له أو لا يسلم فالمعوّض يتملك معلقاً على أمر غير معلوم الحصول، فهذه الماهية هي أحد ماهيات حقيقة القمار، ومرَّ بنا أنَّ في المعاملات المدار ليس على ألفاظ المعاملات، وهذا بحث ناموسي في المعاملات وهو أن المعاملة أو أيّ معاملة أو أيّ إيقاع إنشائي لا تدور مدار الألفاظ، نعم اللفظ مهم ولكن ليس هو كل شيء وإنما الكل في الكل هو الماهية، العقود تابعة للقصود يعني الماهية - أي المعنى المقصود - وهذا بحث مهم جداً، ولذلك مرَّ بنا مراراً الفقهاء شخّصوا أنَّ الودائع البنكية ليست وديعة وإنما هي قروض مع أنَّ لفظة قرض ليست موجودة في البين، نعم إذا أراد زبن مراجع للبنك ويأخذ مالاً فالبنك يقول هذا قرض، أما من شطارة البنك الزبون إذا أعطى البنك مالاً فالبنك لا يقول هذا قرض وإنما يقول هذه وديعة وليست قرضاً، يعني يتعالى البنك أن يكون مقترضاً والزبون مقرضاً وإنما صاحب الفضل هنا هو البنك لأنه يُستودَع ويجعل المال في وديعة وأمان عنده، ولكن الفقهاء لم يغتروا بلفظ الوديعة والودائع وقالوا بأنَّ هذه الماهية من دفع الزبون المال للبنك هو قرض لأنَّ الشخص يُملِّك البنك عنان رقبة المال، فهي ليست وديعة مثل الجواهر، نعم البنوك قد تكون صندوق أمانات ولكن هذا بحثٌ آخر كأن تعطيه الجواهر ويرجع لك الجوهرة بعينها أو تعطيه جهازاً معيناً ثميناً ثم يرجعه لك فيما بعد بعينه وكأنما البنك صندوقٌ كبير للحفظ فهذا نعم هو وديعة، فالنبك عنده خدمات ودعية، لكن حينما تعطي البنك مالاً فهنا أنت ملّكته رقبة المال ولذلك لا تشترط أن يرجع لك نفس الأوراق أو أن لا يتصرّف فيها تصرّف المالك، والحال البنك يتصرّف في هذه النقود تصرف المالك فهو يشتري بها ويبيع بها ويعطيها إلى شخص آخر، فإذاً هي ليست وديعة نعم لفظها وديعة ولكن وقاعها ليست وديعة، فلو أفلس البنك ذهبت أموال الزبائن فلو كانت وديعة فالمفروض أنه لا يتصرّف فيها، فإذاً هذا قرض وليست وديعة، خلافاً للشيخ محمد امين زين الدين فإنه يصرّ في فتواه على أنها وديعة، ولكن الكل يقول هي ليست وديعة وإنما هي قرض، فالماهية التي يريدها الطرفان أنَّ عين هذا المال - النقد - يعطي زمام رقبة هذا النقد للبنك فيتصرف فيه فيبيعه ويشتريه وينقله فإذاً هذه ليست وديعة، هذه هي الماهية هكذا وإن تخيل الانسان في فكره أنها وديعة، فإنَّ غفلة القاصد ليست مداراً، وإنما المدار على ماهية المعاملات واقع ماهية المعاملات وليست غفلة أو تخيلات القاصد، فلابد أن يعرف واقع الماهية ما هو وهذا بحث ناموسي في المعاملات يعين هو ميزان أكبر في المعاملات والايقاعات، ولك أن تقول هو ميزان أكبر في كل عالم الانشائيات حتى في النذر مع أنه عبادي وإيقاع و العهد أو اليمين فهو يدور مدار واقع الماهية لا تخيل القاصد عن الماهية ولا الألفاظ، لأنَّ هوية المعاملات والايقاعات بواقع الماهية جنس وفصل وجنس الجنس وفصل الفصل وهلم جرا، وليست تدور مدار الألفاظ ولا تخيلات القاصد أو دواعيه، فإذا كانت الماهية الأولى في القمار هي المخاطرة حيث هو يبذل المال ولكنه لا يعلم أن أصل المعوض يسلم أو لا يسلم فهنا سيكون قماراً وإن ادخلت هذه الماهية كمعجون في ماهيات معاملات أخرى، غاية الأمر يصير تركيب بين الماهيات والتركيب بين الماهيات المعاملية لا يزعزع ولا يعدم وجود لماهية الباطلة، شبيه القرض الربوي فإن القرض الربوي هو أن القرض موجود وزيادة عليه شرط ربوي وهي فائدة التأخير فهل أصل ماهية القرض صحيحة أو باطلة؟ أصل ماهية القرض صحيحة فالذي ينبطل هو ماهية الربا، ولو في هذه المسألة علماء الامامية وحتى غيرهم انقسموا فريقين وإن كان الأكثر عندهم أن القر لا ينبطل والذي ينبطل هو الزيادة الربوية - أي مشارطة الزيادة الربوية للتأخير - فهنا حصل القرض الربوي، وتوجد آيات كثيرة في رجحان القرض والاقراض، فالقرض مشروع فإن الله تعالى أحل البيع وأحل القرض وأحل الهدية والخيرايات والوقف فكل هذا احلّه الله تعالى وحرّم الربا فهو حرّم هذه الماهية ولا يحرّم ما انضمَّ إلى هذه الماهية، والكثير يسأل أنَّ القرض إذا صار ربوياً فهل كل المال حرام؟ كلا يصير كل المال حراماً، لا سمح الله لو اقترض مقترض بقصد جدي أن يعطي رباً للمقرض فهذا اشتراط ربوي وكلاهما ارتكب حراماً في المشارطة ثم في الوفاء بالمشارطة إثم آخر، ولكن هل يحرم القرض؟ كلا لا يحرم لا تكليفاً ولا وضعاً، لأنَّ ماهية القرض في نفسها صحيحة وضعاً وتكليفاً وإنما الضميمة الماهوية للقرض هي حرام وضعاً وتكليفاً.

فإذاً لاحظ كيف أن الفقهاء يفككون الماهية الركبة إلى ماهيات ويعطون كل ماهية حكمها وضعاً وتكليفاً، وأنا لا أريد الخوض في القرض واستعرض النظرية الأخرى فإنَّ المحقق الحلي يقول إنَّ أصل القرض الربوي باطل من رأسٍ ليس فقط الربا وهذا ما ذكره في الشرائع، ولو أنَّ هذ غير صحيح، وقد ذكرنا أنَّ الفقهاء في القرض الربوي فريقان والأكثر منهم على أنه يصح القرض ويبطل الربا وكذلك رأي السيد الخوئي أما المحقق الحلي فقد ذهب إلى القول الآخر، والمحقق الحلي وغيره من الأعلام ذهبوا إلى بطلان أصل القرض الربوي لا أنهم لا يفككون احكام الماهيات كلا بل هم يفككون أيضاً ولكنهم بنوا على أنَّ القرض الربوي ليس قرضاً بضميمة الربا وإنما بنوا على أنه قرضٌ عوضُ ربا أما كيف فهذا لا نريد الخول فيه، وهذا ليس بصحيح ولكنهم بنوا عليه، كأن يعطيه مائة دينار فهذه المائة عوضها مائتي دينار، فهو ليس قرضاً بضميمة ربا، ونحن لا نريد الدخول في هذه التفاصيل لأنَّ أصل الشاهد هو أنَّ الفقهاء في بحوث المعاملات والايقاعات المهم عندهم ماهية العقد واقع الماهية التفت إليها القاصد أو غفل عنها، وهذا بحث معاملي مهم وهو أهم حتى من القمار، ولماذا نتوقف ونذكر كم ماهية في القمار؟ لأنه أينما ذهبت هذه الماهية نقلو هذه ماهية سرطانية محرمة في المال فنحن ندور مدار الماهية وإن استبدلت الأسماء والألفاظ، فإن هذا البحث الموضوعي من الأهمية بمكان، ونذكر مثالاً آخر وهو أنه لو قال الواقف أوقف هذه الأرض مدرسة أو مستشفى، ثم توفي القواف فالان هذه الأرض كي تكون مكتبة أو مدرسة أو متشفى لا جدوى لها في هذه المنطقة أبداً وإنما تكون معطلة اصلاً إلى أن يعلم الله فهل يسوغ إبقاء هذا الوقف على هذا النمط لأنَّ ( الوقوف على ما أوقفها أهلها )؟ كلا وإنما يستبدل هذا الوقف إلى ما هو أصلح، ولماذا؟ ذكر الشيخ الأنصاري كلاماً للشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيره في النصف الثاني من كتاب البيع في المكاسب فإنهم ذكروا وجهاً للاستبدال، وهو أنهم قالوا لأنَّ الواقف قصد الماهية الجنسية، أي أنه قصد أن يكون هذا مشروعاً خيرياً يدرُّ عليه بالثواب وخدمة الناس وقصد المستشفى، فهو قصد ماهيتين وقد امتنعت ماهية واحدة منهما فلماذا تمتنع الماهية الأخرى؟!! ولذلك فتوى الفقهاء على أن يستبدل الوقف إلى الأقرب فالأقرب، وهذا تخريج صناعي بامتياز، وقد نقل الشيخ الأنصاري تحقيقات رائعة للشيخ جعفر كاشف الغطاء والتخريج الصناعي لهذه المسألة، فهل بناءك أن كل ما يقصده المتكلم إلا أن تأتي ألفاظه؟!! وإلا فالشخص يعطي ماله للبنك يقول للبنك أودعتك هذا المال فهذه وديعة فمن أين تؤولون أيها الفقهاء أن هذا قرض وليس وديعة؟!! ولكن نقول إنَّ المدار على حقائق المعاني وإن غفل عنها القاصد، ولو قيل: - إنَّ هذه هلوسة واستحسان وتلاعب ذوقي، ولكن نقول: - إنك لا تعرف موازين الماني ولقواعد لا ان الفقهاء يهلوسون أو يستحسنون أو يستذوقون، وإنما العقود أو الايقاعات تدور مدار واقع الماهيات لا تخيل القاصد، فأنت الآن لو سألت الواقف في البرزخ هل أنك قصدت العمل الخيري المطلق فهو يقول كلا وإنما قصد المستشفى، ولكن الفقهاء يقولون له إنك قصدته رغم أنفك، ولماذا؟ لأنه لم يلتفت إلى ما قصد ولكن واقع ماهية ما قصد هو هذا، فإنه قصد ذلك وإن لم يلتف، والحقيقة هي هكذا، ولماذا؟ لأنك حينما تقصد الماهية الخيرية العامة فقد قصد هذا الجنس أما أنك قصدت النوع فهذا شيء آخر.

فلاحظوا أنَّ هذه النكات هي أمور نخاعية في بحوث المعاملات، فهو قصد الجنس أما قصدة للنوع فهو قصد آلي تبعي، وإلا لو لم يكن هذا الجنس موجوداً لما نظر إلى المستشفى أبداً ولكنه غير ملتفت، ولذلك الفقهاء في باب الاقرار يقولون نحن نلزم المقرّ بلوازم كلامه ولو إلى سبعين لازماً والحال أنَّ المقرّ ليس ملتفتاً إلى هذه اللوازم، ولكن نقول مادام هو قد أقر بوجود الملزوم فتكويناً هذه حلقات تترامى مع بعضها البعض فيُلزَم بها، وهذا مثل التحقيقات الجنائية الآن فإنَّ الجاني أو المتهم أصلاً ليس قاصداً أن يكشف الحقائق وإنما قصد التعتيم ولكنه حينما يعترف برأس الخيط فسوف يؤخذ منه كل شيء، وهل هذه هلوسة في عرف البشر في باب التحقيقات الجنائية وهل هي هلوسة واستحسانات من الفقهاء؟ كلا، بل أنت إذا لم تحرك ماكنة الفهم فعليك أن تترك الاجتهاد وتذهب إلى بحوث أخرى، فصِر مؤرخاً أو ما شاكل ذلك، ولا تكن محللاً للتاريخ فإنك لا تصلح لذلك فإنَّ محلل التاريخ غير التاريخ، فإن الذي يحلل النصوص غير الراوي، فإنَّ الراوي شيء والفقيه شيء آخر، وهذه نكات مهمة جداً.

إذاً العقود تابعة للقصود يعني هي تدور مدار واقع الماهية التفت لها أو لم يلتفت، وهذا مثل شخص يأكل التفاح ولكنه غير ملتفت فحتى لو قال أنا لم آكل التفاح ولكن في الواقع هو أكل التفاح وإن كان قاصداً لأكل السفرجل أو قصد أكل أي فاكهة أخرى، فهو تخيل شيئاً آخر ولكنه أكل التفاح واقعاً، فالمقصود أن هذه نكتة مهمة وهي أنه حينما يشدد الفقهاء في تحليلاتهم العلمية على تشخيص ماهيات العقود ليس الأمر عبطياً لأنهم يلاحقون الماهيات أينما ذهبت وليس يتابعون الألفاظ أو تخيلات القاصدين، الآن العرف الدولي أنَّ هذه الأموال التي يضعها الناس في البنوك أنها ودائع ولكن دعهم يدّعون أنها ودائع ولكن نحن نلزمهم بأنَّ هذه قروض وليست ودائع، لأنَّ عرفهم هذا هو عرف دجلي وإنما حقيقة إعطاء الشخص المال إلى البنوك هي قرض وليست ودائع وهذه تخطئة علمية إن لم يكن عندهم تزييف، فبالتالي الآن العرف البشري المصرفي يقول أنها وديعة ولكن الصحيح أنها ليست وديعة، وإن كان الشيخ محمد أمين زين الدين بنى على هذا ولكن هذا ليس بصحيح لأنَّ هذا عرفٌ خاطئ، فهو إما زيفي أو أنهم في غفلة عن ذلك، لأنه إذا أفلس البنك فسوف تتلف جميع الأموال لكي لا يطالبهم الزبون برهان كوثيقة للمال إذا تلف، فهذه مخادعة.

إذاً تشخيص الماهيات مهم، والقمار كم ماهية فيه فأين ما تذهب هذه الماهية نقول هو قمار وإن لم يُسمَّ قماراً، فسواء سمي يا نصيب أو ما شاكل فإن اليانصيب الياء هي ياء النداء والنصيب الحظ أي ما هو حظك يعني بالصدفة والمخاطرة، فإذاً ماهية المخاطرة موجودة، والسيد الكلبايكاني كان متشدداً في تحريم اليانصيب، وهذا صحيح، فالمهم أنه لابد للباحث من التدقيق إلى أنَّ الماهية إلى أين تذهب فإنَّ المدار على واقع الماهيات لا الألفاظ ولا تخيلات القاصد، هذه هي الماهية الأولى التي مرت بنا في القمار، وكذلك الحال في الماهية الثانية والثالثة والرابعة، فأين ما تذهب هذه الماهية فالأمر كذلك، وهذا كما مرّ بنا في الغناء وفي الغيبة وما شاكل ذلك، فإنَّ البحث الماهوي مهم.