الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/05/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الأبعاد الفقهية في القمار - المكاسب المحرمة.

انتهى بنا الكلام إلى بحث آلات القمار والقمار، ومرَّ أنَّ هذه المسألة هي ذات صور أربع، وفي الحقيقة صورها الأربع عنونها الأعلام في أبواب فقهية متعددة وليس في باب واحد ووجه عنونتهم لها في أبواب متعددة أن المسألة لواحدة كما مرَّ بنا لها زوايا متعددة أو قل حيثيات متعددة، فلن يلمّ الانسان بالمسألة الواحدة إلا إذا تتبع كلمات الفقهاء في أبواب متعددة لأنهم لا يستوفون زوايا المسألة إلا من خلال أبواب عديدة وليس باباً واحداً، وهذا ليس في خصوص آلات القمار وإنما في مسائل أخرى، فغالباً الفقهاء وحتى في العلوم الأخرى لا يستوفون البحث في مسألة واحدة تمام الاستيفاء في باب واحد بل يوزون بقية بحوث المسألة الواحدة في أبواب أخرى، والسّر الصناعي العلمي في ذلك أن طبيعة المسائل الواحدة فيها صور ومسائل وحيثيات عديدة وكل حيثية من حيثياتها تناسب باباً من الأبواب بخلاف الحيثية الثانية أو الثالثة او الرابعة، ومن أحد الالتباسات التي حدثت في روايات طهارة أهل الكتاب، باعتبار أنَّ الأعلام قالوا هناك طوائف من الروايات دالة عل نجاستهم وهناك روايات دالة على طهارتهم، فإذا دققنا النظر في الروايات التي انطبع عند الأعلام أنها دالة على طهارة أهل الكتاب هي بالدقة ليست في صدد طهارة أهل الكتاب وإنما في صدد مثلا صحة اجارة الجارية لنصرانية وصحة الاجارة لا ربط لها بالنجاسة نعم الراوي باعتبار أنه ارتكز في ذهنه أنه إذا كانت ليست بطاهرة وتلوث البيئة فهل يجوز استئجارها في بيئة المنزل والحال أن الانسان يصلي ويتوضأ وهي تتداعى فتلوث البيئة بالنجاسة إلى الصلاة إلى الوضوء إلى الغسل إلى الأكل فالإمام عيه السلام قال لا بأس بإجارتها، فالأعلام من متأخري هذا العصر جعلوها في صدد بحث الطهارة بينما هذه المسألة الواحدة وهي استئجار الجارية النصرانية وليس المراد به بحث الطهارة والنجاسة، بل اتفاقاً إنما منشأ سؤال الراوي لارتكاز أنها ليست طاهرة فهل يصح إجارتها أو لا وإلا لو كانت طاهرة فالأمر بالعكس، فالمقصود أنَّه في رواية واحدة قد تكون بلحاظ باب وليس بلحاظ باب آخر، لأن نفس المسألة في الرواية لدقق أنها تعرض إلى أي زاوية ومناسبة لأيّ باب ومن ثم الشيخ الطوسي والكليني أكثرها ذكروها في غير باب الطهارة وإنما أبواب أخرى كأبواب الاجارة وما شاكل لأنها متعرضة للزاوية الأخرى وليست متعرضة إلى زاوية الطهارة والنجاسة، فالمهم أنَّ هذه نكتة مهمة يلزم الالتفات إليها لأن المسألة الواحدة سواء كان في الرواية أو كلمات الفقهاء غالباً لا تستوفى في باب واحد.

فمن ثم نلاحظ هنا اللعب بآلات القمار كم حيثية فقهية فيها كما مرَّ بنا، فالصور الأربع هي بمثابة التحليل للحيثيات الفقهية للمسألة فغالباً الصور يتم تشقيقها وتعديدها وتنويعها طبق الحيثيات الفقهية في المسألة، وهنا الأعلام صنّفوا أربع صور، صورة اللعب بآلات القمار مع المراهنة المالية، وهذه هي الصورة الأولى والتي هي أشدهن حرمة وإطباق الأعلام على حرمتها المغلظة وأنها من الكبائر، الصورة الثانية اللعب بآلات القمار من دون مراهنة مالية ومن دون مقامرة مالية، والصورة الثالثة المراهنة المالية بآلات لعبٍ ليست من آلات القمار يعني لا يستخدمها العرف كآلة قمارية وإنما يستخدمها كآلة من آلات اللعب والهو، فهذه الآلات الأخرى التي لا توصف ولا تنعت بأنها آلات قمارية إذا قومر بها في اللعب هل هي حرم أو ليس بحرام، هنا اتفاق الكلمة إلا من شذ أنها محرمة، وطبعاً الصورة الثانية فيها شقوق أخرى سنتعرض إليها فيما بعد أما الآن فنحن نذكر فهرسة إجمالية، فالصورة الثالثة اللعب قمارياً بمراهنة مالية بغير الآلات المعهودة في العرف البشري للقمار وإنما بألعاب أخرى فهذه أيضا سلّم حرمتها، والصورة الرابعة اللعب بآلات غير قمارية ومن دون مراهنة مالية فهل هي حرام ايضا أو ليس بحرام؟ سنأتي إلى القوال في هذه المسألة أيضاً، فحتى هذه الصور الأربع جملة من الأعلام شقق كل صورة منها إلى صورتين أو ثلاثة.

والآن دعونا عن التفصيل كي لا يقع تشويش لأنَّ أول خطوة مهمة في البحث كما مرَّ بنا هو تنقيح الموضوع وأنَّ الموضوع كم حيثية وكم زاوية فقهية فيه وكم نكتة فقهية فيه لأجل تحريره بشكل إجمالي، والفهرست الاجمالي مقدّم على الفهرست التفصيلي، فصناعياً الفهرسة الاجمالي مقدّمة في التحليل الصناعي على الفهرسة التفصيلية.

الآن هذه الصورة الأربع البحث فيها موزع عند الأعلام في عدة أبواب فقهية، فهم لم ينقحوا الحال في هذه الصور الأربع كلها بكل زواياها في المكاسب المحرمة بل وزعوا الكلام فيها في المكاسب المحرمة وفي باب السبق والرماية وفي الجعالة وفي الاجارة وفي عدة أبواب أخرى كالصلح، ولكن البابين الرئيسيين هما المكاسب المحرمة والسبق والرماية أما الجعالة والاجارة فهو أقل، وما هي هذه الحيثيات الفقهية في الصور الأربع؟ هذه الحيثيات الفقهية في الصور الأربع عننا أحكام تكيفية فيها وهناك أحكام وضعية فيها، فإنَّ كل حكم هو في الحقيقة حيثية فقهية ويجب التمييز الفرز بينها، فالحكم الوضعي مثلاً الآن في ﴿ أحل الله البيع وحرم الربا ﴾ فإن أحلَّ هنا هو حلّية تكليفية ووضعية ومترابطتان، والحلّية الوضعية يعني الصحة والحلية التكليفية يعني أنه جائز، فهذه الحلية التكليفية للبيع مع الحلية الوضعية مترابطتان متسانختان، وفي البيع حكم تكليفي آخر مثل وجوب الوفاء بالعقد فهذا حكم تكليفي آخر وهذا أيضاً متناسب ثالث، وهناك حكم تكليفي رابع في البين وهو أنه لا يجوز مسك مال الغير لأنَّ البائع حينما عقد البيع فقد نقل المبيع إلى المشتري وتملّك الثمن فإذا نقل المبيع فالمبيع هو نقل المشتري الآن فإذا ان ملك المشتري فلا يحل مال امرئ إلا بطيبة نفسه فلا يضح أن يمسكه وإنما يلزم أن يعطيه من باب الاستحقاق المتقابل، فهذا الحكم وهو لا يحل مال امرئ إلا بطيبة نفسه بالدقة ليس حكماً ملتصق بد البيع وإنما هو حكم مترتب على المبيع كعوضٍ كمملوكٍ للغير فيقال هذا الحكم - وهو حرمة إمساك مال الغير - ليس معاملياً لأنه ليس له ربط بالمعاملة، صحيح أنه مترتب على المعاملة ولكنه ليس آخذ بالمعاملة كموضوع وإنما أخذ المبيع بما هو عين مملوكة للمشتري كموضوع، ولذلك هناك فرق بين وجوب الوفاء بالبيع كوجوب تكليفي وبين لا يحل مال امرئ إلا بطيبة نفسيه فإنَّ ذاك حكم تكليفي مجرد لا ربط بالقضايا المعاملية وهذا حكم تكليفي مرتبط بالمعاملة نفسها، فإذاً لاحظ هنا ﴿ أحل الله البيع ﴾ عندنا احكام تكليفية وأحكام وضعية ولكن يلزم الفرز بينهما أي منها وضعي وأي منها تكليفي وأي منها مترابط وأي منها متناسب وأي منها أجنبي عن بعضها وإنما متجانب، فالتنقيح يلزم أن يكون هكذا، كذلك في ﴿ وحرّم الربا ﴾ فحرمة وضعية يعني فساد وباطل وحرمة تكليفية يعني نفس إنشاء الربا بقصد الالتزام حرام تكليفاً وليس فقط إنشاءه وإنما استمرار الالتزام المعاملي بالربا حرام، فهو استمرار على الحرمة، فهنا المرابي حينما يأكل الربا جملة من الأعلام قالوا بانه ارتكب حراما واحداً وهو حرمة أكل مال الغير، ولكن هذه غفلة، فالمرابي افترض في القرض إذا أكل الزيادة الربوية التي أخذها من المدين فقالوا إنَّ الحرمة هنا هي من جهة أكل مال الغير، وهل هذا صحيح؟ صحيح أنَّ أكل مال الغير حرام ولكن هل الحرمة الغليظة من هذه الجهة؟ كلا وإنما من جهة الالتزام العملي المعاملي بالربا، فهو يلزم المديون بالالتزام الربوي وهو أيضا يتعاطى ويعتمد ويلتزم عملياً معملياً بالالتزام الربا، فالحرمة الربوية اشد من حرمة غصب مال الغير فتوجد حرمتان وليست حرمة واحدة ولذلك ورد عندنا ( أكل درهم من الربا ككذا زنية بمحرم في الكعبة )، فأين هذه الحرمة وأين تلك الحرمة؟!!، فإذا في المسألة الواحدة يلزم أن نميز الحكم الوضعي عن التكليفي ثم المتناسب من الأحكام فيها.

نأتي إلى ما نحن فيه: - هنا في القمار، فالقمار حرام وحرمته في لسان القرآن الكريم كحرمة الربا، وفعلاً حرمة الربا وضعياً وتكليفياً من الآفات الهدامة لاقتصاد الشبر سواء كان على الصعيد الفردي أو السري أو المجتمعي أو الدولي فالقمار هي شيطنه كما يصفها القرآن الكريم، ودور الشيطان هو الافساد في الأرض ومن أحد الأبواب الكبيرة للإفساد في الأرض هي القمار فإنها تعيث في الأرض فساداً، وهو باب للجرائم وباب لكل شيء كما ذكر في القرآن الكريم وفعلاً هو كذلك فهو يهدد الأمن الاقتصادي البشري وحتي أنه يهدد الأمن النفساني ويهدد كل شيء فهي حرمة كبيرة تشدد فيها الشارع، فإذاً هذه الصور الأربع في المسألة الواحدة القمار فيه حرمة وضعية وحرمة تكليفية متناسبة معه مغلظة، فحرمة أكل المقامر الذي فاز في القمار لمال القمار ليس من جهة أنه مال الغير فقط بل حرمته الغليظة الكبيرة إنما هي من جهة كونه التزاماً معاملياً بشيء حرام هادم لكيان صلاح الأرض حسب بيان الوحي، فإذاً حرمة أكل ما القمار ليس من جهة حرمة أكل مال الغير فقط بل الأشد في ذلك أنه يقدم على فتح باب من أبواب الشيطان الكبيرة، فإذاً هذه الحرمة التكليفي تختلف عن حرمة أكل مال الغير، فحرمة القمار التكليفية هي حرمة معاملية وحرمته الوضعية هي حرمة معاملية أيضاً بينما حرمة أكل مال الغير لا ربط لها بالمعاملات وإنما لأنه ملك الغير وهذه نكتة يلزم الالتفات إليها.

ولندقق أكثر: - ما الصلة بين الصورة الأولى والصورة الثانية؟ فالصورة الأولى عدة أحكام المرتبط بعضها مع بعض مرت بنا وغير المرتبطة مرت بنا أيضاً، فما الصلة الصناعية بين الصورة الأولى والصورة الثانية التي هي اللعب بآلات القمار من دون مراهنة، فهنا لا توجد معاملة في البين ولا أموال وإنما مجرد لعب بالآلات القمارية، فإذاً هنا في البين بناءً على ما هو المتسالم عليه عند الكل في الصورة الثانية أنه توجد حرمة تكليفية، ففي الصورة الثانية يوجد عندنا حكم تكليفي واحد وليس معاملياً لأنه لا يوجد في البين معاملة مالية، وقال بعضهم هي معاملة ولكنها ليست مالية، يعني مثل عقد النكاح فإنه عقد ولكنه ليس معاملة مالية أو أنه ممتزج، فتحليل ماهية كل عقد شيء مهم في بحوث الصناعة الفقهية، مثلاً الطلاق إيقاع ليس مالياً وأما إذا كان خلعياً يصبح معاملة مالية أو طلاق المباراة، فيا ترى هل الصورة الثانية معاملة مالية؟ قطعاً هي ليست معاملة مالية، وهل هي معاملة ليست مالية أو أنها ليست مهاملة اصلاً؟ قال البعض إنها معاملة لأنه يوجد فيها اتفاق، لأنَّ الألعاب فيها اتفاق، فمثلاً تارة الانسان هو بنفسه يسبح فهذه لعبة من الألعاب ولكن لا يوجد طرف آخر يتعاقد معه، وتارة يتسابق مع طرف خر في السباحة فهذا غير السباحة المجردة، أو كرة القدم فتارة هو يلعب بنفسه كرة القدم وتارة يلعب فريق مقابل فريق ضمن قواعد اللعبة المعينة، يعني هناك نوع من التشارط والتوافقات، ولذلك بعضهم قال هي مراهنة ولكنها ليست مراهنة مالية، فهي لغوياً أطلق عليها مراهنة ولكنها ليست مراهنة مالية، ونحن لا نريد البتّ في هذه البحوث ولكن سنأتي إليها، وإنما نحن فقط في الخطوة الأولى في تحليل الصور كفرض فقهي، فإذا في الصورة الثانية ليس هناك عقد مالي ولكن هناك عقد غير مالي فإذا كانت مسابقة فهذا عقد ومراهنة غير مالية فهذه الحرمة ليست حرمة عقد مالي وإن كانت حرمة فهي حرمة لعقد غير مالية مثل حرم الشارع نكاح الشغار فنكاح الشغار أصلاً ليس بمال أو إسقاط مال وهو من نكاح الجاهلية، فالحرمة في الصورة الثانية ليست وضعية لأنه ليس لها أثر مالي وإنما هي حرمة تكليفية فقط على فعل، فهذا الفعل سواء بنينا على أنه عقد غير مالي أو بينا على أنه فعل مجرد بالتالي هي حرمة تكليفية على فعل إما هو فعلُ عقدٍ غير مالي أو فعلٌ مجرد.

فإذاً موضوع الحكم في الصورة الثانية يختلف عن الصورة الأولى، ماهية الحكم أو ماهية القضية الشرعية المجعولة يعني بعبارة أخرى المسابقة في الألعاب القمارية بلا قمار مالي فالألعاب القمارية الشارع عنده حساسية خاصة تجاهها فإنَّ هذا النمط من اللعب لا يسوغه الشارع، أما دليله والأقوال فيه سيأتي ذلك ولكن كلامنا الآن في أصل تصور المسألة، فهنا إذاً الجعل يختلف عن الجعل الموجود في الصورة الأولى لأنه هنا غير مرتبط بالعقود المالية، فإذاً هناك حرمتان وحيثيتان وجعلان أجنبيان عن بعضهما البعض، إذاً في الصورة الأولى علاوة على الحرمة الوضعية التكليفية الشديدة للقمار هناك حرمة للعب بالقمار، يعني أنَّ الصورة الأولى فيها الصورة الثانية وزيادة، لا أنَّ التباين بين الصورة الأولى والصورة الثانية أن الصورة الثانية حيثيتها غير موجودة في الصورة الأولى كلا بل هي موجودة لأنه يوجد فهيا لعب وزيادة وهي المراهنة المالية فهذه حرمة شديدة فإذاً اللاعب قمارياً مالياً بآلات القمار يرتكب عدة محرمات وليس محرّماً واحداً.

ونذهب الآن إلى الصورة الثالثة كفرض وكتصوير: - وهي العقد المالي القماري بألعاب غير آلات القمار، فأيضاً هذا كالمتسالم عند الأعلام بني على الحرمة التكليفية والوضعية.

ومن خلال هذه الصور الثلاث تبيّن أنَّ اللعب كلعب بغض النظر عن العقد المالي بآلات القمار هو بنفسه حرام وكذلك العقد المالي حرام أيضاً، فلاحظ أنه في القمار يوجد بعدان بعد اللعب وبعد التعاقد المالي، وكلاهما حرامان تكليفيان ووضعيان بمعنى، وهذه نكتة مهمة، ولذلك في باب السبق والرماية شكل وفي باب المكاسب المحرمة شكل آخر لأنه حيثية أخرى فإن باب السبق والرماية بالدقة يركز على جانب المعاملة وفي باب المكاسب المحرمة يركز على جانب اللعب أكثر منه من جانب العقد المالي الذي ركّز عليه في السبق الرماية.

وأما الصورة الرابعة: - ففرضها هو العب بآلات غير قمارية من دون مراهنة مالية، وهذه لا نقول الكل التزم بحرمتها وإنما يوجد قولان والكثير التزم بحرمتها، ومن التزم بالحرمة تخريج الحرمة بغض النظر عن الأدلة وإنما كفهم هل بعدها مرتبط بالضور الثلاث او هو شيء آخر؟ إنه شيء آخر، فإنَّ وجه حرمتها عند من بنى عليها أنها من باب اللهو المجوني، فلاحظوا أنَّ هذه حيثية ثالثة.

إذاً الصورة الأولى هي مجمع لحيثيات لهو مجوني ولعب بآلات القمار ومقامرة مالية فاسدة، ثلاث حرمات مغلّظة موجودة في الصورة الأولى، هذا كفرض لكلمات الفقهاء، وسندخل في وجوه الأدلة والكلمات إن شاء الله تعالى.