الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/25

بسم الله الرحمن الرحيم

بحث الفقه - لسماحة الشيخ الاستاذ محمد السند - ليوم الأربعاء: - 25 / ربيع الآخر / 1443 هـ ق، الموافق 01 / 12 / 2021 م.

الموضوع: - الرثاء الحسيني واستثناءات الغناء - حرمة الغناء – المكاسب المحرمة.

نقرأ بقية كلمات الأعلام في بحث الرثاء، وقد وصلنا إلى كلام الوحيد البهبهاني، فهو قال في حاشية له على مجمع الفائدة والبرهان:- ( والنياحة[1] وقد رود الأخبار قفي جوازها إن خلت عن الكذب والرثاء قد ورد الحث بها في الأحاديث وكانوا يأمرون الراثين بالرثاء على الحسين عليه السلام )، ولعل هذا أيضاً من كلامه:- ( وأما الرثاء والمرثية فهو أيضاً من صفات المقروء واللفظ لا الصوت ) يعني في الأصل الرثاء مثل الغناء أي من صفات المضمون، ( يعتبر في كونه شعراً بخلاف النوحة )، وهذا فرق بين النياحة والرثاء فإن الرثاء شعر أما النياحة فأعم عنه، ( فالفرق بينه وبين النوحة من وجهين اعتبار كيفية الصوت في النياحة ) فإذا كان الأمر هكذا فلابد أن يكون في النياحة لحن صوت فالروايات الكثيرة التي سوغت النياحة يعني سوغت هذه الدرجة دون المتوسطة من الألحان غير المهيجة، يعني التي فيها طرب خفيف مادام المضمون حقاً، ( اعتبار كيفية الصوت في النياحة دون المرثية واعتبار كونه شعراً في المرثية دون النياحة) ، وأيضاً كلام بعض الأعلام ( لا تأمل في أن النياحة حلال على كل ميت لا سيما على الحسين عليه السلام فلو كان داخلاً في الغناء مع ذلك فهو مستثنى وإلا فلا استثناء ولا معارضة، ولعله كذلك إذ لا يقال في العرف أنه يغني وأنَّ النياحة غناء والعرف مقدم على اللغة كما حقق مع أن جواز النياحة بلا مضايقة وعدم جواز الغناء مطلق يؤيد التقديم ) يعني خروجاً تخصّصياً، ( وبالجملة لم يظهر كون النياحة غناء حتى يتوجه ما يقول القائل ويحتاج إلى ارتكاب خلاف الظاهر والتخصيص والذي هو مخالف للأصل )، فهم عندهم إذا دار الأمر بين التخصيص أو التخصّص فالأصل هو التخصّص، وهل هذا الأصل يعول عليه أو لا فهذا بحث آخر ولكن توجد شواهد على التخصّص كما مر، ( ومجرد كونه معيناً على البكاء لا يصلح للتخصيص )، إذاً ربما يحصل العمل بأفعال محرّمة، وقال النراقي في المستند في الرثاء على الحسين عليه السلام :- ( مع أنَّ الأحاديث الواردة ) وهذه كلها تصب في بحوث الشعائر الحسينية وأحد الزوايا منها يعني تعرض الأعلام للشعيرة الحسينية من هذه الزاوية وهي زاوية نياحة الخطيب أو نعيه أو نعي الردود، ( مع أنَّ الأحاديث الواردة في أن من أبكى أحداً على الحسين كان له كذا وكذا بلغت حد الاستفاضة بل التواتر وكثير منها مذكور في ثواب العمال للصدوق فمنع التعارض ضعيف جداً ) كترجيح أيضاً عمومات حرمة الغناء ضعيف، وهذا كلام النراقي وليس كلام الدربندي والكثير يحمل حملة علية على الدربندي والحال أن هذا كلام النراقي، ( فمنع التعارض ضعيف جداً وأيضاً ضعيف جداً ترجيح عمومات حرمة الغناء فإنَّ عمومات الاعانة على البر وحضور الإبكاء أكثر بكثير مذكور في الكتاب والسنَّة مجمع عليه بين الأصحاب وترجيح جانب الحرمة على الجواز لم يثبت عندنا إلا على وجه الأولوية والاستحباب وهو أمر آخر بل لا يبعد ترجيح عمومات الاعانة بتضعيف حرمة الغناء دلالة وسنداً )، وهذا نفس كلام الأردبيلي فإنه يقول أدلة حرمة الغناء في الصورة الأولى التي هي نظير مجالس الفسوق والبطالة والدعارة هذه بلا شك هو قدر متيقن من حرمة الغناء والذي بنى عليه الفيض الكاشاني وغيره، أما الصورة الثانية فمع الكلام الباطل فهو تدل عليه الأدلة ولكن ليس بقدر ضرورة دلالتها على الصورة الأولى، وهذا لطيف، يعني يجب أن يلتفت الفقيه إلى أنَّ دلالة أدلة معنية على درجة واحدة أو على درجات، أو دلالتها على صور موارد الحرمة أو الوجوب هل دلالتها في الصور بدرجة واحدة أو لا، وما الثمرة في ذلك فإنه بالتالي الدلالة موجودة معتبرة؟ إنَّ الثمرة هي أنه قد يكون هناك تعارض بين هذا الدليل مع دليل آخر عموم وخصوص أو غير ذلك فيجب الموازنة بين الدليلين في قوة الدلالة أو قوة السند، فإذا كان مورد دلالتها القوية خارج عن مورد التعارض ومورد التعارض دلالتها غير قوية وإنما هي معتبرة متوسطة بينما دلالة المعارض في نفس منطقة التعارض أقوى سنداً ودلالةً فهذا نوع ترجيح، فإذاً تدقيق الأعلام في دلالة الأدلة مساحةً وصوراً فيها مغزى وهذه نكتة صناعية يجب أن لا نغفل عنها، ثم يقول:- ( وترجيح جانب الحرمة على الجواز لم يثبت عندنا إلا على وجه الأولوية وهو أمر آخر بل لا يبعد ترجيح عمومات الاعانة بتضعيف حرمة الغناء دلالة وسنداً ) يقصد في هذه المساحة، فحتى هذه المساحة التي هي الصورة الثانية قد مرّ أن فيها شقين، والصورة الثانية وهي التي فيها طرب متوسط أو دون المتوسط فيه شقين شق أن يكون بكلام باطل وغاية باطلة وشق أن يكون بكلام حق وغاية حق، ونحن هذا وقلنا إنَّ الشق الثاني خارج تخصصاً، والنراقي يقول هب أنه ليس خارج تخصّصاً ولكن هذا الشق الثاني من الصورة الثانية أدلة الإبكاء أقوى منه وهو مسلّم، فالنياحة هي التلحين اليسير وكون المضمون كلام حق، ولذلك الأعلام في باب تعارض الأدلة هذه العبارة الصناعية معروفة عندهم حيث يقولون يقدم كل دليل فيما هو نص فيه ويؤخر كل منهما فيما هو ظاهر فيه، لأنه فيما هو نصٌّ فيه ليس محل تعارض مثلاً من هذا الجانب ففيما هو نص يقدم فربما تصير النتيجة هي التقسيم بالتفصيل، وهذا هو إذاً تدقيق العلام في درجات الدلالة بحسب مساحة الدليل، فهو يقول ( بل لا يبعد ترجيح عمومات الاعانة بتضعيف حرمة الغناء دلالة وسنداً )، أي في هذا الشق وليس في الصورة الأولى ولا الشق الأول من الصورة الثانية وإنما في الشق الثاني الذي خروجه تخصصي، والصورة الثاني هي الطرب والتلحين دون المتوسط إما مع كلام باطل وغاية باطلة فهذا ايضاً داخل في الحرمة وإن لم يكن كالصورة الأولى، أما إذا كان التلحين دون المتوسط مع كلام حق لغاية حق فهذا شق ثاني في الصورة الثانية، ثم يقول:- ( وأما ما يجب عند التعارض مع كون الغناء معيناً على البكاء مطلقاً لأنَّ المعين عليه هو الصوت وأما نفس الترجيع الذي يتحقق به الغناء فلم يعلم كونه معيناً عليه أصلاً ولا على البكاء على الحسين عليه السلام ... ففيه أولاً أنَّ من البيّن أن لنفس الترجيع أيضاً أثراً في القلب كما يدل عليه كلام جماعة من توصيف الترجيع بالمطرب مع تفسيرهم للإطراب فإن حزن القلب من معدات البكاء مع أنه قيل عن الغناء المحرَّم هو الصوت ).

فعلى كلٍّ جملة من كلمات الأعلام يستفاد منها في النعي والرثاء على أهل البيت عليهم السلام إذا لم يكن بالصورة الشديدة الموجبة للرقص وإنما دون المتوسط فصرف تشابه هذا اللحن وأنه استخدم في غناء باطل وهنا استخدم في كلامٍ حق فهذا يدل على سراية الحرمة إلى مورد الرثاء هذا ليس دليلاً عند جملة من الأعلام، لأنَّ التلحين دون المتوسط هو مشترك ما يساق لكلام باطل وإثارة الغرائز وبين ما يكون في كلام حق كالأذان وكقراءة القرآن والرثاء فإذا صرف الاشتراك في اللحن بين اهل الباطل وأهل الحق هذا لا يدل على أنه غناء محرّم، هذه خلاصة كلامهم وقد ذكرنا عدة استثناء وكذلك السماع دون الاستماع قد حررنا البحث فيه.

يبقى كلام آخر في بحث الغناء وهو الرقص:- فهل الرقص حرام أو لا؟

عند المشهور شهرة عظيمة الرقص من المحرمات حيث ذكروه بعنوان، ولو يظهر من السيد الخوئي عنده الرقص في نفسه ليس بحرام وإنما ما يؤدي إلى حرام فهو حرام كرقص الأجنبية أمام الأجانب هو حرام باعتبار أنَّ فيه إثارة فتنة ومن هذا القبيل، وما شاكل ذلك، أو حتى إذا كان النساء مع النساء والرجال مع الرجال وكان مثيراً فهذا لا يجوز، فكأنما في كلام السيد الخوئي أو فتاواه معرضيته للغايات المحرمة يوجب الحرمة ولكن المشهور شهرة عظيمة حرمة مطلق الرقص.

والسيد الكلبايكاني استثنى من الرقص رقص الزوجة للزوج، وإن كان المشهور لم يستثني شيئاً وإنما قالوا بالحرمة مطلقاً.

ومما يدعم كلام لمشهور - وهو الصحيح - عدَّة وجوه سنذكرها، ثم بعد ذلك لابد أن نرى خصوص رقص الزوجة لزوجها وأنه هل هو مستثنى أو لا وإذا كان مستثنى فهل هو تخصص أو تخصيص.

وقيل في بعض التفاسير اللغوية أنَّ الرقص هو الغليان والحركة والاضطراب، وللرقص عدة أسماء فمن أسمائه في اللغة الزفن، فإنَّ الرقص أنواع فبحسب أنواعه تختلف أسماءه، طبعاً المحارب في الحرب قديماً باعتبار أنه توجد مسايفة ورماح فنفس الترقص بالرجز أو بغيره ولكن هذا ترقّص في الحرب، وبعض الأعلام مثل الشيخ جعفر كاشف الغطاء وتلميذه صاحب مفتاح الكرامة قال رقص الرجال للحروب هو مستثنى من حرمة الرقص، لأنَّ هذا حماس وليس ميوعة وابتذال، كما قالوا كلمة الهلهلة في الحرب والرويد[2] ، فهم استثنوا هذا في الحرب، يعني رغم أنَّ هذه الهلهلة معها شيء من اهتزاز البدن ولكن مادامت هي لأجل دبّ الحماس في الحرب قالوا هذا ليس بحرام لأنَّ هذا ليس من باب الملاهي والمجون والميوعة وإنما هو من باب الرجولة ودبّ الحماس، وهذا خروجه تخصّصي عند الأعلام في جملة من الموارد كما مر بنا في الأناشيد والحداء وغير ذلك فإنهم قالوا يوجد فرق بين التعبئة الحماسية لغرض راجح عظيم وبين الميوعة الغرائزية والشهوية، وهذه ضابطة ميزانية موضوعية مهمة بين باب الملاهي والمجون وبين باب الحماسيات.

مثلاً وُجِّه سؤال حول بعض أنواع جديدة من اللطميات فهي يمكن أن توقع للرقص ويمكن أن توقع للحماس، فإن حُمِّسَ بها وليس فيها خفَّة ميوعة ورقص فهذا لا مشكلة فيه، لأنه ليس فقط من ماهية الشعائر الحسينية الحزن والرثاء وإنما فيها تعبئة حماسية فإنَّ هذه من ماهية الشعائر الحسينية، يعني هذه البطولات لنجوم كربلاء هي تعبئة شجاعة ونبل وقيم، فهذه التعبئة للمثل والقيم والنبل هي ممدوحة وهي ليست ميوعة ولا ملاهي ولا طرب، فالرقص بعبارة أخرى إذا قلنا أنَّ الرقص هو مطلق حركة البدن فالرقص أنواع رقص حماس للتشجيع على فضائل أو حرب أو ما شاكل ذلك، كالأناشيد التي تحث على التديّن والنبل والقيم فهذا شيء جيد، وهي تؤثر في الانسان روحياً بصورة تلقائية، يعني تساعد على التغيير التربوي فهذه لا شيء فيها، فإذاً الأعلام ميزوا موضوعياً كما في الغناء وكما في التلحين، أما إذا كان يدعو إلى الميوعة والشهوة وإلى النزوات فهذا من الرقص المحرم، فإذاً موضوعياً هكذا فصّل جملة من الأعلام ككاشف الغطاء وتلميذه صاحب مفتاح الكرامة وصاحب الجواهر وجملة من الأعلام الآخرين.

ولو قيل: - هل ينسجم هذا مع شيء اسمه حزن وعزاء؟!!

قلت:- إذا كان في اللطميات القديمة قبل مائة سنة أو خمسين سنة نحن شاهدناها في بلدان مختلفة من المؤمنين اصلاً لا تصير لطمية إلا مع الصعود والنزول وكان فزع وجزع وهذا موجود، فهذه الطريقة موجودة ولكن عادات كل بلد للتعبير عن الحماس والتعبئة لها طريق، وحسب تعبير العلامة الطباطبائي يقول إنَّ بعض الآليات العرفية في بلد طابعها هذا ولكن نفس الآلية تأتي بها في بلد آخر لم يعرفونها يطغي عليها طابع آخر وهذا بحث آخر، ولكن هذا لا يسبب أن هذه الطبيعة أو هذه الآلية في هذا البلد طبعها هكذا، فاقصد أن التعبئة في الألحان أو في حركات البدن هذه التعبئة قد تكون تعبوية لنبل وقيم فهي أصلاً ليس للميوعة بل بالعكس تشحذ الهمة، مثلاً حتى أناشيد فرق العمل باختلافها - وقد ذكروها الأعلام - مثلاً المزارعين لأنَّ زراعتهم جهيدة جداً فهؤلاء إذا لم يرددوا أناشيد كي يحمسون أنفسهم فلا يستطيعون إن يبذلوا الطاقة أو مثلاً البحارة أو ما شاكل ذلك فدائماً يوجد نوع من التشجيع يعني نوع من تعبئة الهمة، ومن باب الشيء بالشيء يذكر كفائدة وهو التقين بلحن ليس مجوني وإنما بلحن غير مجوني شفاء ودواء من الصرع أو المس أو الكبت الروحي أو العقد الروحية أو العين أو ما شاكل ذلك، فإنَّ التلقين شيء معروف وهو دواء روحي، فإذا أتى به الانسان بطريقة أناشيد معينة أصلاً كأنما طاقة خاصة قوية تقوي الارادة المنهارة إلى إرادة قوية وهذا نوع علاج روحي، ولا نقصد التلحين المجوني وإنما أقصد الحزن الموجود في الأناشيد أو من هذا القبيل أو افترض بعض الحركات الرياضية غير المرتبطة بالميوعة وما شاكلها، فإذاً هذه آليات ومؤثرات في الروح إيجابياً وسلبياً، وعلى حد تعبير الأعلام لا دليل على دخولها موضوعاً في الغناء ولا في الرقص لأنَّ الرقص المحرَّم عندنا هو رقص الملاهي وليس الرقص مطلق حركة البدن وغيلان البدن، مثلاً في الغضب فإنَّ الانسان يتحرك بحركة شديدة، مثلاً أمير المؤمنين عليهم السلام في معركة صفين وجد أنَّ في جانب من العدو لا ينكسر استنفرهم وشحذ همتهم وشحذ الهمة موجود ولا مانع منه، وهذه طريقة للعلاج الروحي.

فالمقصود أنَّ الرثاء الحسيني وعلى مصائب أهل البيت لا يقتصر على الحسن بل الحماسة ايضاً من هوية الشعائر الحسينية والشعائر الدينية.

وأيضا من الأقوال التي ذكرت في اللغة: - ( والطرب على ما في الصحاح حفَّة تعتري الاسنان لشدة حزنه وسروره )،وقال الزمخشري ( خفة لسرور أو هم )، وكذلك لسان العرب ذكر أنه مطلق الخفة.

وقد صرح بالحرمة في الرقص ابن إدريس في السرائر والعلامة الحلي في النهاية وفي أجوبته المهنائية وأكثر من ذلك ذكر ابن إدريس والعلامة والدروس أيضاً ذكروا بضميمة الرقص التصفيق حيث جعلوه من المحرّم، بينما السيد الخوئي والكثير من تلاميذه قالوا التصفيق في نفسه مكروه وليس حراماً، ونحن نتبنى التفصيل في التصفيق منه ما هو مكروه ومنه ما هو محرم وسنبين كيف هو الوجه وما هي الضابطة، أما السيد الخوئي عنده كراهة التصفيق مطلقاًن بينما فتاوى ابن إدريس والعلامة والحلي والشهيد الأول والعلامة الحلي قرنوا الرقص التصفيق بالرقص المحرَّم ، فعلى كلٍّ من المتأخرين السيد ماجد البحراني ذكر الرقص وكذلك الفيض الكاشاني، هذه جملة من البيان الموضوعي واللغوي للرقص، أما الحكم والأدلة عليه سنتعرض إليها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.


[1] يعني من المستثنيات هي النياحة.
[2] ذكرها صاحب مفتاح الكرامة ولعل المقصود من الرويد أهازيج معينة، ولكن الشيخ جعفر كاشف الغطاء وصاحب الجواهر لم يأتياً بكلمة الرويد وإنما أتيا بكلمة أخرى ولربما هذه كلمات شعبية كانت في زمانهم.