الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الغناء في الأعراس قاطع موضوعي / حرمة الغناء / المكاسب المحرمة.

كنا في استعراض الروايات الواردة في استثناء الغناء في الأعراس - المغنية في الأعراس - وذكرنا قرائن متعددة على أنَّ هذا الاستثناء أقرب ما يكون هو تخصّص وإن لم يكن هو التخصّص المصطلح إنما هو تخصّص بلحاظ قيود الموضوع وإن لم يكن بلحاظ أصل الموضوع، ومرَّ بنا نمطان من التخصّص في قبال التخصيص، وأحد الشواهد هي صحيحة علي بن جعفر قال:- ( سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والضحى والفرح؟ قال:- لا بأس به ما لم يعص به )، ولو أنَّ هذه الرواية بين مفسّرٍ لها وبين رافض لها ولكن مضمونها ينطبق بأن نوعاً من الطرب الخفيف إذا كان بمضمون حق ومن دون ملاهي فهذا يطابق.

الرواية الأخرى: - وهي معتبرة تقريباً، وإن كان الدينوري ليس فيه توثيق ولكن بالتالي البرقي يروي عنه ولم يطعن عليه بشيء: - ( قال:- قلت لأبي الحسن عليه السلام :- جعلت فداك ما تقول في النصرانية اشتريها وأبيعها من النصراني؟ قال اشتر وبع، قلت فأنكح؟ فسكت عن ذلك ثم نظر إليه وقال لي شبه الاخفاء هي لك حلال، قلت جعلت فداك فاشتري الغنية أو الجارية تحسن أن تغين أريد بها الرزق لا سوى ذلك؟ قال اشتر وبع )، وقد مرَّ أنَّ هذا محمول على المنفعة المحللة.

الرواية الأخرى: - مرسلة الصدوق عن علي بن الحسين: - ( عن شراء جارية لها صوت، فقال:- ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء فأما الغناء فمحظور )، وقد مرَّ هذا من تفسير الصدوق، فإطلاق روايات لا يعمل بها واضح أنها في مقابل أدلة الحرمة فتقيّد بالمساحة التي لا تشملها عمومات الحرمة، ومن المساحة التي لا تشملها مساحة الحرمة درجة الطرب في الغناء في الأعراس، وبالتالي يصير تفصيل من هذا القبيل وهو نوع شبيه بانقلاب النسبة.

وهنا توجد رواية أخرى: - وهي معتبرة، وهي من توقيعات صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف للنواب الأربعة: - ( أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي ... وأما ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلا لما طاب وطهر، وثمن المغنّية حرام ).

الرواية الأخرى: - وهي معتبرة - أو صحيحة - إبراهيم بن أبي البلاد قال: - ( قلت لأبي الحسن الأول[1] :- جعلت فداك إن رجلاً من مواليك عنده جوارٍ مغنيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار وقد جعل لك ثلثها، فقال:- لا حاجة لي فيها إن ثمن الكلب والمغنية سحت )، فالمنفعة المالية التي تقابل بالعين بسبب المنفعة المحرّمة هذه المالية حرام، وقد مرَّ بنا هذا في بحث المكاسب المحرمة، وإن كانت المالية عوض ومقابل وبإزاء العين وافترض في مقابل المنفعة أو يعبّر عنها بالحيثية التعليلية، يعني كالحكمة، لا الحيثية التقييدية - لا العلَّة في المال -، فالعوض في البيع غير العوض في الاجارة، فإنَّ العوض في الاجارة يقابل المنفعة المحددة بأمدٍ زماني محدود، فالاجارة يكون العوض فيها يقابل المنفعة بالذات، أما في البيع فالعوض يقابل العين نفسها، ولو أنَّ مالية العين بسبب ما لها من منافع فإنَّ السبب هو من باب حكمة المالية، وحكم الحرمة لا من باب الحيثية التقييدية ولذلك يعبرون عنها حيثية تعليلية يعني حكمة ، ولذلك ذكروا في الاجارة إذا استؤجرت العين لمنفعةٍ من منافعها ولكن لا بأمدٍ محدود بل بأمد مادامت العين فهذه اجارة صورةً ولكن في الحقيقة هي بيع ولكنه بيع لسهمٍ من أسهم رقبة العين، ولماذا؟ لأنه هنا بالدقة المقابلة بين العوض ليس بين العوض والمنفعة وإنما بالدقة هو مقابلة بين العوض والعين وإن كان ليس كل العين وإنما بلحاظ منفعة من منافع العين، ولذلك مثال السرقفلية وأمثاله بالدقة هو بيع لحصة ونمط شراكة في العين فهو كمشاركة شريكان في العين، فهو يسمَّى حق ولكن بالدقة هو بيع، ولذلك بنينا على أنَّ الحقوق الدائمة في العين هذه في الحقيقة هي بيع لخيوط من ملكية العين - أي رقبة العين - فهي نوع مشاركة فإنَّ المشاركة قد تكون بثلث أو نصف وما شاكل، وقد تكون مشاركة بنمط الحقوق، وهذا باب واسع للمسائل المستحدثة وللعقود الجديدة ينفتح منه باب كبير، وأنه كيف يستخرج من ملكية العين ورقبتها مصنع توليد حقوق جديدة وهو عبارة عن تشقيق حزمة خيوط ملكية وسلطنة رقبة العين، وهذا أضبط تعريف بنى عليه السيد اليزدي رحمة الله عليه، وهذا مبنى صحيح، الحق هو نمط من الملكية الضعيفة، فيوجد اختلاف بين الأعلام في أنه ما هي حقيقة الحق وفرقه عن الملكية وأضبط تعريف ما ذهب إليه السيد اليزدي، وهو أنه خيط من خيوط السلطنة وشعبة من شعب الملكية، وكأنما الملكية خيوط بلحاظ منافع العين، وعلى كل لا نريد الاستغراق في هذا.

ولماذا تكون العين التي يجنى منها منافع محرّمة ماهيتها التي تكون تلك المنافع المحرّمة حكمة المالية فيها فالمالية باطلة، فمع أنَّ المنفعة المحرمة حكمة حكم ولكن مع ذلك تكون المالية باطلة عند الشارع، فالشارع يبطل المالية، وهذا الذي ورد في المغنّية ليس خاصاً بالمغنّية وإنما استفاد منه الفقهاء قاعدة عامة وهي أنَّ المالية التي تنشأ من منفعة محرّمة هي باطلة، وتنشأ ليس معناها مقابلة حقيقية بينهما وإنما حكمةَ حكمٍ ولكن مع ذلك تكون هذه المالية باطلة عند الشارع فإنه ( إذا حرم الله شيئاً حرم ثمنه )، فهو من هذا الباب.

الرواية الأخرى: - ويمكن اعتبارها وإن كان فهيا كلمة ( بعض أصحابنا ) وهذا ما يعبر عنه بالإرسال الخفيف وهو كعدم الارسال، وإن كانت هذه مضمرة أو مقطوعة وسيأتي تصريحه باسم الامام عليه السلام، ونصها:- ( قال:- أوصى اسحاق بن عمر بجوارٍ له مغنيات أن تبيعهن ويحمل ثمنهن إلى أبي الحسن، قال إبراهيم:- فبعت الجواري ثلاثمائة ألف درهم حملت الثمن )، هو ثلاثة آلاف مثقال ذهب وهو ثمن كبير وهو ما يعادل ثلاث ديات، لأن الدية ألف مثقال، والدية الآن مائة وسبعون أو مائة وخمسون مليون يعني المجموع اربعمائة وخمسون ميلون، فتقريباً نصف مليار، ومن الجيد أنَّ يعرف الباحث درجات القيمة السوقية والنقد في زمان الأئمة عليهم السلام والآن كيف هو وهذا ما يسمونه بدراسة الحالة الاقتصادية والمالية في زمن المعصومين وهي تؤثر كثيراً في الاستنباط، ونذكر مثالاً لهذا فغن هذه الخصوصيات يلزم التدبر والتأمل فيها، مثلاً قيل أنَّ مهر فاطمة عليها السلام خمسمائة درهم وهذا منصوص ومفتى به، فالفضة التي كانت عشرة دراهم هي دينار، يعني يساوي خمسين مثقال ذهب شرعي وليس صيرفي فالمثقال الشرعي أقل من الصيرفي، الآن الفضة هبطت ولذلك لا نعوّل عليها في تحديد الدية فإنه غير صحيح عندنا، وإنما التحديد بالذهب أو مائة بعير أو مائتي بقرة أو ألف شاة فإنَّ أسعارها متقاربة، حتى لبس الحلّتين يعني حلتين يمنيتين فاخرتين، مثلاً الآن طقم كامل قريب ستين ورقة، فمائة حلَّة لها قيمة قريب ماءة وعشرين مليون، فخمسمائة درهم يعني خمسين مثقال شرعي من الذهب، فالتعرف على المفردات المالية والاقتصادية في عصر النص حتى يطابقها الانسان الآن في الأبواب الفقهية فإنَّ هذا مهم جداً، فيحتاج إلى ثقافة اقتصادية ولا أقول تخصّص وإنما كثقافة اطلاع، وكذلك الثقافة النقدية والمالية وعالم المال واصطلاحاته، فكيف أني اقرأ الروايات وأتفهمها بلحاظ الواقع المعاصر؟!! فهذه نكات مهمة وإلا يصير البحث مبهماً في مبهم، وهو نوع من الرجوع إلى الاختصاصيين في هذا المجال لكي تفهم الرواية ويُستنبَط منها ويُستنتَج، ( قال إبراهيم:- فبعت الجواري بثلاثمائة درهم وحملت الثمن إليه فقلت له:- إن مولى لك يقال له اسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنيات حمل الثمن إليك وقد بعتهن وهذا الثمن ثلاثمائة درهم، فقال:- لا حاجة لي فيه إنَّ هذا سحتٌ وتعليمهن كفر والاستماع منهن نفاق وثمنهن سحت )، فلاحظ أنَّ تحريم المغنّية في أربع جهات وأربع أفعال تعليمهن والاستماع لهن وثمنهن سحت.

الرواية الأخرى: - وهي يمكن اعتبارها عن الوشاء، قال: - ( سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام عن شراء المغنية، قال:- قد تكون للرجل الجارية تلهيه وما ثمنها إلا ثمن الكلب وثمن الكلب سحت والسحت في النار )، وهذا دليل على أنَّ التحريم للغناء غير مخصوص بمجالس الفسوق والكبائر، وإنما حتى لو كان المجلس ثنائياً بين مغنٍّ أو مغنية ومستمع فإنه يصدق عليه نفس الكلام فإنه مجلس باطل.

الرواية الأخرى: - موثقة الطاطري عن أبيه وهم فطحية لكنهم ثقات عن أبي عبد الله عليه السلام قال: - ( سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات، فقال:- شراءهن وبيعهن حرام وتعليمهن كفر واستماعهن نفاق ).

إذاً ملخص الحديث عن الغناء في الأعراس كما مرَّ بنا الغناء في نفسه محرّم، فإذا جُرِّد الغناء عن آلات الطرب التي تهيج وتجعل الطرب أكثر وأكثر كما مرَّ أنَّ الطرب ماهية متفاوتة الدرجات شدّةً وضعفاً فإذا جُرِّد الغناء عن آلات الطرب وعن اختلاط النساء بالرجال لأنه أيضاً يساعد في الإثارة بالباطل وكذلك جرّد عن ألحان أهل الفسوق شديدة المجون وما يصاحب ذلك من إثارات أخرى فهذا الغناء المعمول به في الأعراس هو نوع من التشويق والطرب الخفيف، وأيضاً يكون بالدف جائزاً فإنه وإن كان آلة من آلات اللهو ولكن بهذا المقدار جوّز في النصوص كما مر، وإلا فالصحيح أن هذا خروج تخصّصي لا عن أصل عنوان الغناء وإنما عن بعض قيوده، ومن ثم يحمل على التوسعة والتعميم كما بنى عليه جملة من الأعلام وليس فقط الحداء، فهذا الطرب الخفيف خارج، ومتى يكون طرباً خفيفاً؟ إذا مونع، نعم إذا ضُمَّ إلى هذا الطرب الخفيف إثارات أخرى فنفس هذا الطرب الخفيف يصير حراماً، أما إذا لم تُضَم إليه إثارات أخرى فسوف يبقى على الحلّية، مثلاً يوجد طور مشترك بين الغناء وبين ردّة حسينية فهو بدرجةٍ خفيفة لا مانع منه، نعم إذا كان بدرجةٍ فوق المتوسط فيه اهتزاز رقصي فهذا لا يجوز سواء كان في قراءة القرآن أو في الأذان أو في المراثي أو في غير ذلك فإن المقدار الذي استخلص من استثناء الغناء في الأعراس هو الطرب الخفيف الذي له تأثير خفيف وليس شديداً أو متوسطاً أو فوق المتوسط.

من ثم ينفتح البحث على الباب اللاحق والاستثناء اللاحق وهو قضية النائحة والنعي: -

والروايات مفصّلة، وهو أنه هناك نياحة وندب ونوح محرّم وهناك نياحة وندبة ونوح ونعي محلل، فهو ليس كالغناء عمومه محرّم ولكن خصّص أو استثني منه محلل، وهذه نكتة صناعية مهمة، يعني الروايات الواردة في الناعية وفي الندبة والرثاء والنوح في الأساس هي مُفصِّلة، والفرق واضح، فإنه حينما يوجد عموم ثم يخصَّص منه أفراد كأنما يصير الأصل هو التمسك بالعموم في موارد الشك، أما إذا كان الشرع يفصّل من البداية بين نمطين فهذا يدل على أنَّ النوح في طبعه ليس فيه عموم حرمة بل يوجد قسم محلَّل وقسم محرَّم، القسم المحرَّم إذا كان فيه سخط على قضاء وقدر الله أو يه كفر بنعمة الله أو اعتراض على الله تعالى وتبرّم مما قضى الله تعالى وقدّر أو تطاول على القضاء والقدر فهذا باطل، أما إذا لم يكن كذلك وإنما كان مضمونُ حقٍ كأن ينعت الميت لا بالأكاذيب وإنما بأمورٍ موجودة فيه حقيقةً فهذا لا بأس به، وماذا نريد أن نستفيد الآن من التفصيل؟ نريد أن نستفيد منه أنَّ الطور الترجيعي والمد ورفع الصوت الموجود في النوح والنياحة والندبة والندب والرثاء والنعي - أي هذه المواد - هذا الموجود فيه من الترجيع والتأثير على النفس والاهتزاز شبيه الغناء في الأعراس إذا كان خفيفاً ليس شديداً فهو محلل، وهو معاضد لما مرَّ بنا من خروج الغناء في الأعراس بدرجة الطرب الخفيف خروجاً تخصّصياً وليس تخصيصياً، فهذا الطرب الخفيف أو تسميه الترجيع أو تسميه المؤثر أو تسمية مدّ الصوت فإنه توجد مؤثرات صوتية موسيقية إيقاعية في النوح والنياحة والعزاء والنعي - خمسة عناوين - فهذا المقدار الخفيف ليس فيه حرمة تخصّصاً وليس تخصيصاً، وهذه نكتة مهمة جداً، فليس الحال كما في الغناء الأصل العموم فيه حرام إلا تخصيص ثم نجري بحثاً في التخصيص أنه تخصيص أو تخصّص، فإن هذا في النوح ليس بموجود، وإنما الشرع فصّل من البداية، لأنَّ طبيعة النوح لا توجد فيه مجون شديدة لأنَّ طبيعته لا تتحمل هكذا، فإذاً النوح لأنه طربٌ خفيف فصَّل الشارع بين كون الكلام فيه باطلاً وبين أن يكون حقاً أو بين كذا وكذا، فنفس تفصيل الشارع دليل على أنَّ كيفية الصوت إذا لم تكن شديدة مهيجة مجونية فهو ليس طبيعة محرمة، فصرف التأثيرات الخفيفة بسبب إيقاعات موسيقية سواء كان في الدعاء أو الأذان أو قراءة القرآن نعم الانسان يلمس التأثير ولكنه خفيف وليس شديداً مهيجاً أو فوق المتوسط فهذا المقدار ليس محرّماً، فالنكتة الصناعية في النياحة مهمة، وهي ستأتي في الباب السابع عشر ، فحيما ندخل في هذا الباب نلتفت إلى أنه كيف يُقَــعِّـد لنا ضابطة صناعية استخلصناها في الغناء في الأعراس أو الحداء أو غير ذلك.


[1] باعتبار أن الكاظم الرضا والهادي كناهم الشريفة هي اب الحسن فحدد الموالين في عرف المتشرعة أن الأول هو موسى بن جعفر والثاني هو الرضا والثالث هو الهاد عليهم السلام.