الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الغناء في الأعراس قاطع موضوعي / حرمة الغناء / المكاسب المحرمة.

كنا في استثناء الغناء في الأعراس عن حرمة الغناء، ومر أنه في هذا الاستثناء يقرب الأعلام وجهين، وجهٌ أنه تخصيص فهو في الحقيقة ماهية غناء وخروجه تخصيصي أي أنه استثناء متصل، وهناك من يذهب - ولعله هو الأقوى - إلى أنَّ خروج الغناء في الأعراس من الغناء المحرم خروجاً تخصّصياً - الغناء المحرّم لا الغناء المطلق اللغوي - بتقريب أنَّ الغناء في الأعراس طربه خفيف وبقيود، يعني لا مطلق الطرب الخفيف محلل وإنما الطرب الخفيف بمضمون حقٍّ وبهدفٍ وغايةٍ حق وليس باطلاً ولا لغوا، وخفيف يعني لا تستخدم فيه الآلات الموسيقية، وخفيف يعني لا تستخدم فيه مؤثرات أخرى مثل اختلاط الرجال بالنسباء، فإنَّ مع الاختلاط ولو كان الطرب خفيفاً فسوف يشتد المجون، يعني العوامل المؤثرة في الفتنة وما شابه ذلك إذا لم تكن في البين والمضمون كان حقاً ويؤدي إلى حق أصلاً فهذا خارج عن موضوع الحرمة تخصّصاً، فموضوع الحرمة هو الطرب المتوسط وما فوق وذو المضمون الباطل أو مع اختلاط الرجال بالنساء أو مهيجات أخرى كالآلات الموسيقية.

والثمرة في ذلك هي أنَّ اشتراك الأغاني ولو المحرّمة في بعض الألحان أو الأطوار مع قصائد الرثاء أو النعي في عزاء أهل البيت عليهم السلام هذا الاشتراك ليس بالضرورة يكون من استخدام الغناء المحرمّ، بل مادام هو خفيفاً وحقاً ولا تستخدم فيه آلات موسيقية وليس فيه محرّمات مثيرة داعية ومحفّزة إلى الحرام فالكل جوّزه، نعم لو اشتد اللحن في الرثاء والعزاء الحسيني إلى مهيج للنزوات والغرائز افترض أن يأتي شخص بموسيقى الراب فهذه طبيعتها تكون صاخبة وليست من الطرب الخفيف فتكون محرّمة، ولذلك الكثير من الأعلام فرّقوا في الألحان المشتركة بين المغنّي في الغناء الحرام وقصائد الرثاء في العزاء على أهل البيت عليهم السلام، فلم يذهبوا إلى الحرمة وكل واحد منهم جاء بتخريج، مثلاً المقدس الأردبيلي - ولو أنَّ هذا نوع من الاستعجال في الحديث عن الاستثناء الثالث غير الغناء في الأعراس هو المراثي والرثاء لأهل البيت عليهم السلام - وجملة من الأعلام الكبار كالنراقي في المستند والسيد ماجد والفيض الكاشاني وغيرهم قرروا أو أسسوا هذا الأصل، وهو أنه هل الأصل عندنا عموم حرمة الغناء، يعني حتى الطرب الخفيف إلى المتوسط إلى الشديد، وإن لم نقل بقول الفيض الكاشاني وأستاذه السيد ماجد البحراني وهو خصوص الطرب الكذائي وإن لم يكن هناك آلات موسيقية وإن لم يكن هناك اختلاط بين النساء والرجال وإن لم يكن هناك مؤثرات أخرى من المحرّمات الأخرى فالغناء بلا شك هو محرّم ولكن هذا الغناء الذي هو محرَّم هل هو محرَّم بكل درجاته لغةً أو ماذا؟ هنا المقدس الأردبيلي والنراقي قالا هو محرم، وهذا بحث يختلف عن البحث الذي مرَّ بنا في الحداء فإنه في بحث الحداء أصلاً قد يقال الحداء موضوعاً ليس غناءً لأنه ليس طرباً أو هو غناء ولكنه ليس غناءً طربياً أما الغناء في الأعراس فيه طرب خفيف لا محالة، وأيضاً الشرع جوّز الدَّف وهي من آلات الملاهي ولكن خصوص هذه الآلة من آلات لملاهي سوّغها الشارع لأنه ربما يكون فيها إعلان وإنذار أكثر مما فيها من تموّج إيقاع موسيقي، والدف شبيه الدائرة من دون وجود جلاجل فيه وهي القطع المدورة المعدنية التي تحيط به والتي تحدث أصواتاً أخرى وتحدث إيقاعاً موسيقياً آخر، بالتالي الدفّ مع غناء المغنية في الأعراس فيه طرب خفيف وإن لم طرباً شديداً، كما أنَّ استخدام الآلات الموسيقية مثل الراب الذي هو جنوني شديد فهذا طرب مجوني ولكنه ليس عنيفاً وإن كان شديداً ، ومرَّ بنا أنَّ هناك درجات للطرب.

فالمقصود أنه يمكن فذلكة تقريب البحث في غناء الأعراس يختلف عن فذلكة تقريب البحث في الحداء، فالحداء قد يقال إنَّ خروجه موضوعي فهو خارج عن الرطب، وإذا قيل إنَّ الغناء أعم من الطرب فهو يشمل الحداء ولكن خروجه من جهة عدم الطرب، الطرب قيد مقوّم في موضوع الحرمة، يا ترى الآن بالنسبة إلى الغناء في الأعراس هل لأنَّ الطرب المأخوذ في الغناء المحرَّم لا إطلاق فيه؟ جزم النراقي بأنه لا يوجد عندنا إطلاق، نعم يوجد عندنا دليل على الحرمة في مقابل كلام الفيض، يعني هو يوافق المشهور في حرمة الغناء معناه بالصوت بغض النظر عن المحرّمات الأخرى المقارنة والملابسة، بل نفس الغناء ككيفية صوتٍ هي ليست محرّمة ولكن هل هذا الذي هو كيفية صوت ومضمون كلام هل هذا فيه إطلاق في عنوان الطرب فيه - الطرب المأخوذ في الموضوع -؟، وهل الطرب مأخوذ في الموضوع قيداً داخلياً أو خارجياً؟ قالوا هو قيد داخلي فهو جزء تحليلي، وهذا هو الذي مرَّ بنا في الأصول أو حتى في الفقه وهو أنَّ الاستنباط يعتمد على التحليل للمعنى، فيا ترى هل الطرب المأخوذ في الغناء كموضوع للحرمة فيه إطلاق أو لا؟ قالوا ليس فيه إطلاق بل القدر المتيقن منه الشديد أو المصاحب والمتوسط وإن لم يخصَّص بالشديد، وهذا القدر المتيقن أوسع مما ادّعاه السيد ماجد والفيض الكاشاني ولكنه لا يشمل الطرب الخفيف، وقد تمسك النراقي بأنه يقول لاسيما وأن الحرمة في الغناء ليست على درجة واحدة، وهذا يقرب أنه بالتالي هناك منطقة مبهمة في الطرب وأنه هل هي محرّمة وتشملها أدلة حرمة الغناء أو ليست محرمة وهي الطرب الخفيف؟، فهذه كلها مقرّبات لدعوى أنَّ خروج الغناء في الأعراس بمعنىً هو خروج تخصّصيٌ بهذا المعنى.

أما بقية الروايات في الباب: -

الرواية الأولى: - وهذه الرواية وقفنا عندها وهي صحيحة علي بن جعفر عن أخية موسى بن جعفر قال:- ( سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والضحى والفرح )، وهذا ليس الغناء في الأعراس، ( قال:- لا بأس به ما لم يعص به ) يعني لم يكن مهيجاً شديداً وقل المتوسط ولم تستعمل فيه الآت الموسيقية وما شابه ذلك، وبهذا التقريب الثاني في القول الثاني يصير خروجه تخصيصاً وليس خروجاً تخصّصياً كالحداء وإنما تخصّص عمّا أخذ قالباً في موضوع الحرمة، فما أخذ قالباً في موضوع الحرمة ليس مطلق الغناء أو قل ليس مطلق الطرب وإنما الطرب المتوسط فما فوق أما الطرب الخفيف فهذا بقرائن عديدة مثل روايات القرآن كصحيحة عبد الله بن سنان ( اقرأوا القرآن بألحان العرب ) فأصلاً اللحن هو نوع من الإيقاع الموسيقي يعني خفيف، اقرأوا يعني حكماً هو تخصيص، ونحن نقرّب تخصّصي كي يتسع المجال إلى عناوين أخرى إذا كان تخصَّصاً بخلاف التخصيص فإنه يقتصر على مورده.

ودعونا نشرح هذا المطلب:- وهو أنه الآن مثلاً خروج الاقامة في السفر عن السفر هل هو خروج موضوعي أي هو تخصّص أو خروجها تخصيصي، فالمقيم إذا أقام عشرة أيام في السفر سوف يتم، فهل يتم لأنه ليس بمسافر أو أنه مسافر غاية الأمر أنَّ المسافر إنما يقصِّر إذا لم يقم، فإذا كان ليس بمسافر فخروجه يكون تخصصياً، وهذا له ثمرات في بحوث وصور صلاة المسافر أنَّ الاقامة في السفر هل هي تعدم السفر موضوعاً أو أنها لا تعدمه موضوعاً وإنما يختل قيد في موضوع القصر؟، ففيها ثمرات كثيرة في صلاة المسافر، وعكس ذلك كثرة السفر فإنها توجب الاتمام، فإذا اقام عشرة أيام سواء كان في وطنه أو في السفر، الاقامة عشرة أيام موافقة للإتمام أو لا؟ مع أنَّ الاقامة عشرة أيام موافقة للإتمام إلا أنها قاطعة لكثرة السفر سواء أقام في السفر أو أقام في الخضر أي في الوطن، فالإقامة عشرة أيام مطلقاً قاطعة لكثرة السفر، وهي غير خاصة بالسفر، فالقصر القاطع له هو الاقامة في السفر، فيوجد عندنا قواطع، فالقصر القاطع له هو الاقامة في السفر، أما في الوطن فلا يحتاج إلى إقامة بل ما إن تدخل وطنك ثانيةً فسوف ينقطع السفر - يعني موضوعه - فالقصر القاطع له هو الاقامة فقط في السفر، وإلا في الوطن فإنه ولو لم تقم عشراً وإنما لو مررت مروراً سريعاً ولم تتوقف فيه فهنا ينقطع السفر، فالقصر القاطع له الاقامة عشرة أيام فقط في السفر، أما كثرة السفر التي توجب الاتمام الاقامة سواء كانت في الوطن أو في السفر قاطعة لها، ولذلك كثير السفر إذا أقام عشراً في وطنه أو أقام عشرة أيام في سفره ففي السفرة الأولى والثانية لا يتم وإنما يقصّر، لأنَّ كثرة السفر قد انقطعت، أما السفرة الثالثة فيتم فيها فيعود إلى كثرة السفر.

ونحن نشرح هذا المطلب ليس هدفنا هو صلاة المسافر وإنما هدفنا هو هذه النكتة، وهي أنه توجد قواطع موضوعية ويوجد قاطع حكمي، والقاطع الحكمي يعني التخصَّص أما لقاطع الحكمي يعني التخصيص، فإذاً التخصيص قاطع حكمي والتخصّص قاطع موضوعي، والقاطع الموضوعي على نمطين، والنمطان هما أنَّ خروج فردٍ أو مصداق من موضوع الحكم تارةً يكون نفس موضوع الحكم عادةً فيه عنوان أساسي وفيه قيود تابعة، مثلاً الآن الطهارة والتطهير فالماء عنوان أساسي أما كونه طاهراً أو كونه كثيراً أو كونه قليلاً أو كونه يغسل به مريتن فكل هذه قيود لاحقة أما العنوان الأساسي للتطهير فهو الماء، فيوجد عنوان أساسي ويوجد عنوان قيود - وهذه نكات صناعية يجب الالتفات إليها لأنَّ يوميات الاستنباط مرهونة فيها -، مثلاً قصر الصلاة في السفر ما هو العنوان الأساسي في موضوع قصر الصلاة؟ الموضوع الأساسي هو السفر، بعد ذلك تأتي سبع أو ثمان قيود ولكن كلّها تابعة للسفر، فإذاً دائما في الموضوعات عندنا عنوان أساسي وعندنا قيود تابعة، فالتخصص وهو القاطع الموضوعي تارةً هذا الفرد خارج من العنوان الأساسي من الأصل وتارةً ليس خارجاً من العنوان الأساسي وإنما هو خارج من القيود، فالتخصّص إذاً على نمطين أو أنماط، وهذه نكتة مهمة جداً، وهي أنَّ الخروج الموضوعي عن الحكم تارةً يكون خارجاً عن العنوان الأساسي في موضوع الحكم وتارةً يكون خارجاً عن القيود المأخوذة في العنوان الأساسي، وأياً ما كان إذا كان خارجاً عن القيود المأخوذة عن العنوان الأساسي فبالتالي يكون خارجاً موضوعاً عن موضوع الحرمة، هذا هو الفرق بالدّقة بين الحداء والغناء في الأعراس، فالغناء في الأعراس هو طربٌ بينما الحداء قد قرر أنه ليس طرباً فإذا لم يكن طرباً فهو خارج عن العنوان الأساسي للحرمة وهو الطرب، بخلاف الغناء في الأعراس فهو خارج عن القيد الموجود في الموضوع وهو أن يكون طرباً متوسط أو ما فوق بينما هو طرب خفيف والطرب الخفيف كما يدّعيه جملة من الأعلام أنَّ الأدلة ليس فيها إطلاق شامل له، فمن أدلة حرمة الغناء قوله عليه السلام:- ( مجلس يعصى فيه الله )، أو ( تنزل النقمة ) فهذا ليس في الطرب الخفيف، وحتى الطرب المتوسط ليس لسانه هكذا، فكما مرَّ بنا أنَّ الاختلاف في لسان الخطاب في التحريم في الأدلة هو بنفسه يبيّن أنه لا إطلاق وعموم في حرمة الطرب وإنما المحرَّم هو الطرب المتوسط فما فوق أما الطرب الخفيف فلا مشكلة فيه كما في تجويد القرآن الكريم أو الأذان، فقد تسمع في الأذان جاء المؤذن بشيء طربي فهذا طرب خفيف وليس من نوع طرب أهل الفسوق الذي يكون مهيجا، وكذلك الحال في الرثاء وفي قراءة القرآن وفي موارد عديدة فإنَّ تجنب الطرب الخفيف شيء نادر، ولا نريد أن نقول إنَّ هذا مبرراً وإنما نريد أن نأتي بمثال، فإذاً فرقٌ بين خروج الحداء كخروجٍ موضوعي وخروج الغناء في الأعراس.

ولذلك جملة من الأعلام قالوا بجزمٍ كصاحب الجواهر وكاشف الغطاء بأنه حتى الغناء في الختان جائز رغم أنَّ رواياته غير مسندة، مما ينّبه على الخروج الموضوعي للطرب الخفيف، ولذلك لا يشكل على الخطباء والرواديد، نعم إذا اشتد فهو يوجب الحرمة، فهذه الصحيحة هي داعمة لهذا التقريب والقول والصحيحة هي: - ( قال:- سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال:- لا باس به ما يعصى أو ما لم يزمّر )، هذه هي الرواية الأولى.

كما ورد في الباب السادس عشر بعض الروايات في تحريم بيع المغنية وشرائها وسماعها: -

والرواية الأولى: - وهي قد تكون محسّنة: - ( قال:- قلت لأبي الحسن:- جعلت فداك ما تقول في النصرانية أشتريها وأبيعها فقال اشتر وبع فقلت:- فأنكِح؟ فسكت عن ذلك ثم نظر إلي وقال: - هي لك حلال، قال قلت: - جعلت فداك فأشتري المغنية والجارية تحسن أن تغني أريد بها الرزق لا سوى ذلك؟ قال: - اشترِ وبع )، وهذا محمول على أنه ليس الغناء المحرَّم وإنما الغناء في الأعراس أو في العيد أو في الفطر.

الرواية الثانية: - وهي مرسلة الصدوق عن الامام زين العابدين عليه السلام: - ( عن شراء جارية لها صوت فقال:- ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل فأما الغناء فمحضور)، أي التي ليست بغناء الذي هو الطرب الشديد أو المتوسط - إذا حملناها على ذلك - وإلا فالصوت هو اللحن.

الرواية الثالثة: - وطريقها معتبر وهي التي فيها توقيعات ( أما الحوادث الواقعة )، وقد ذكرنا مراراً أنَّ التوقيعات في الاحتجاج للطبرسي مرسلة ولكن نفس هذه الروايات المرسلة في الاحتجاج أكثرها مسند في كتاب غيبة الشيخ الطوسي، ولذلك لقرون يقال عنها بأنها مرسلة ولم يتنبه على أنها مسندة في غيبة الشيخ الطوسي مثل رواية ( وأما الحوادث الواقعة ) فإنَّ الفقهاء لقرون يعتبرونها مرسلة الاحتجاج والحال أنها مسندة في كتاب غيبة الشيخ الطوسي، وهذه نكتة مهمة في التوقيعات، ومن الواضح أسانيد التوقيعات ليست مختصَّة بغيبة الشيخ الطوسي وإنما توجد في غيبة النعماني توقيعات مسندة أيضاً وهي مرسلة في كتاب الاحتجاج للطبرسي، وكذلك توجد توقيعات في كمال الدين هي مسندة وهي مرسلة في كتاب الاحتجاج، فمن المهم للذين يصححون كتب الحديث ويحققونها للطباعة ليس من المهم أن تذهب إلى نسخة الكتاب فقط، نعم هذا جيد ولكنه ليس هو كل شيء ، وإنما بعد ضبط المتن والأسانيد فأهم شيء هو استخراج المتن بأسانيد أخرى في الكتب الأصلية للحديث، وللأسف القليل من المحققين والمصححين يقومون بهذا الجهد والحال أنه مهم جداً، فلاد أن يبحث أنَّ هذا المتن موجود في كم مصدر وفي كم طريق فإنَّ هذا مهم جداً.