الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الغناء في الأعراس تخصيص أم تخصص / حرمة الغناء / المكاسب المحرمة.

كنّا في مستثنيات حرمة الغناء وذكرنا الحداء، ومن الواضح أنَّ الحداء الذي ذكره جلّ طبقات الفقهاء مستثنى، والمستند الذي عُوِّل عليه ليس رواية صحيحة وإنما هو الخروج الموضوعي، فبالتدبر والتدقيق عند الأعلام رأوا أنَّ الروايات العامية الضعيفة الواردة في الحداء مضمونها صحيح وليس طريقها صحيحاً، فالمضمون الصحيح يولد لك الاطمئنان بالصدور، لكن المعوّل بالتالي على المضمون فإنه هو المنشأ والمنبع، فمن ثم عوّلوا واعتمدوا عليها، ولماذا مضمونها صحيح؟ ذلك باعتبار أنَّ الحداء ليس فيه طرب مجوني وإنما فيه نوع من التحفيز، وبالتالي هذه النفس الانسانية هناك مؤثرات فيها، فبعض المؤثرات محللة وبعضها الآخر محرّمة، والمؤثرات المحللة لا إشكال فيها لو اعتمد الانسان عليها في تطوير وترويض النفس فإنَّ هذا أمر جيد جداً.

ولا بأس أن تذكر عبرة روحية:- وهي أنه لأجل تغيير النفس عن طباعها الرذيلة أو الخسيسة أو ما شاكل ذلك يمكن للإنسان أن يعتمد المؤثرات المحللة لتطويع وتربية النفس والأخذ بها إلى جادة الكمال، وهذا أمر جيد، فغير الترويض بالمرارة والصبر والمصابرة يوجد أيضاً ترويض بالجذب بالمؤثرات المحللة فإنه لا مانع منه ومنها الحداء والأناشيد، فإن الحداء تأثيره ليس سحرياً فإنَّ السحر حرام أما هذا التأثير الصوتي للحيوان لأجل أن يستجرَّ الانسان منها منافع خدمية فلا مانع من ذلك، كذلك الانسان نفسه حينما يرتجز في الحرب أو في كان لأجل عمل كما ذكر الشيح جعفر كاشف الغطاء فهذه المؤثرات لا مانع منها، وبالتالي هي تنشّط الجانب التفاعلي بين النفس التي هي الطبقة النازلة من الروح مع البدن القوى العضلية وما شابه ذلك، فبهذا المقدار لا مانع منه، فكما قال شيخ جعفر كاشف الغطاء يفتح لنا باباً وهو أنَّ المؤثرات الصوتية إذا لم تكن طرباً مجونياً وإنما كانت مؤثرةً لهدفٍ إيجابي محلل فلا مانع منها كالأناشيد وما شاكل ذلك، هذا بالنسبة إلى الحداء.

أما بالنسبة إلى الغناء:- فالعلامة الحلي في المختلف نقل أنَّ مسألة استثناء الغناء في الأعراس مسألة خلافية، والشيخ الطوسي ممن ذهب إلى الاستثناء، وكذلك الأكثر من علماء الشيعة، إلا أنَّ هناك قلة منهم كالشيخ المفيد فإنه لم ينص على حرمة الغناء في الأعراس ولكنه لم يستثنٍ الغناء في الأعراس من الحرمة وإنما أطلق حرمة الغناء من دون استثناء الغناء في الأعراس، ولكن مع ذلك يلزم التتبع دون الاعتماد على تتبع العلامة الحلي إذ ربما توجد زوايا في المقنعة أو غيرها يجدها الباحث، وأيضاً أبو الصلاح الحلبي أطلق الحرمة ولم يستثنِ، وأما ابن إدريس فقد نصَّ على الحرمة فقال ( قد استثني الغناء في الأعراس في الرواية ) ولكنه لم يعتمد عليها مع أنها ليست رواية واحدة وقال ( الأقوى أنه حرام ).

فإذاً هنا أربعة أو خمسة من الأعلام القدماء إما أنه اطلق الحرمة ولم يستثن أو مثل ابن إدريس حيث نصَّ على الحرمة، ولكن جلّ الفقهاء عملوا بالروايات الواردة في الغناء في الأعراس ولكنهم اشترطوا عدم استخدام الآلات الموسيقية كما شرطوا عدم الكلام بالأباطيل كما اشترطا عدم دخول الرجال على النساء، وبعبارة أخرى عدم امتزاجه بمحرم آخر، يبقى العلماء الذي ذهبوا إلى حلّية الغناء في الأعراس من دون آلات موسيقية ومن دون كلام باطل وفحش ورذيلة ومن دون دخول الرجال على النساء والاطلاع على عوراتهن فهذا كله صحيح، ولكن ماذا عن الطرب فهل يفهم من كلماتهم أنَّ الطرب الذي يكون في الغناء ايضاً سُوِّغ فهذا تخصيصٌ في حرمة الغناء أو أنَّ الطرب مشروط عدمه يعني يجوز الترجيع في غناء الأعراس ويجوز مدّ الصوت ويجوز رفع الصوت بشكلٍ لا يصل إلى الرجال فتنتبه وإنما يكون بين النساء، فالترجيع ومدّ الصوت ورفع الصوت بين النساء في الغناء في الأعراس جائز مالم يُطرِب؟، فهل مراد الشيخ الطوسي ومن قال بذلك من الذين استثنوه هو هذا؟

إنه إذا رجعنا إلى عبارة الشيخ الطوسي في الاستبصار نجد أنه اشترط عدم الملاهي وعدم الكلام بالباطل وعدم دخول الرجال على النساء ولكنه لم ينص في شرحه وبسط كلامه على أن لا يكون مطرباً، فهل نستفيد أنَّ الطرب جائز؟، فهل كيفية الصوت المطربة في الغناء في الأعراس جائزة، أما ماهي حقيقة كلمات الأعلام؟، لأنه حينما نراجع كلام من استثنى الغناء في الأعراس من الحرمة وذهب إلى حلّيته في الأعراس ولا سيما قالوا بجواز الدف فإنَّ الدف منصوصٌ عليه، فالدف فيه إطراب لا أنه إيقاع بشكل إنذارٍ وإنما الدف فيه إطراب، فقولهم بجواز الضرب بالدف من دون جلاجل فلا أقل في الدف إطراب من الدرجة المتوسطة إن لم يكن إطراباً بالدجة الشديدة الموجودة في مجالس أهل الفسق والفجور، فعندما يستثني الأعلام الآلات الموسيقية والمعازف وكلام الأباطيل مرادهم هو الصورة الثالثة بمعنىً أو الصورة الأولى بمعنىً، يعني التي هي الألحان الموجودة في مجالس أهل الفسوق الشديدة المجون هذه لم يسوغوها في غناء الأعراس أما الإطراب المتوسط الذي مرّ بنا مع هدفٍ سليم فهذا قد استثنوه، لأنَّ من الواضح أنَّ الدف لا يلائم أنه لا يوجد إطراب أصلاً ،كلا بل الاطراب موجود ولكنه إطراب خفيف متوسط وكأنما التقييد بعدم الجلاجل وعدم الآلات الموسيقية الأخرى لكي لا يشتد الإطراب إلى الصورة الأولى الشديدة الموجودة في مجالس أهل الفسق.

فإذاً الغناء المطرب بطربٍ متوسط مع كلام حق في الأعراس تقريباً يستبين من أكثر الأعلام الذين سوّغوا الغناء في الأعراس بشرط عدم اختلاط الرجال بالنساء وبشرط عدم القول بالفحش والكلام السافل وبشرط عدم استعمال الآلات الموسيقية وبشرط أن يكون كلاماً هادفاً يشجع على الزواج وأنه طريق الحلال وأما الفجور فهو طريق باطل وطريق النار فإنَّ هذا شيء جيد فهو دعوة إلى طريق الحلال وترويج لطريق الحلال، وحتى أكثر الأعلام ظاهراً أنَّ سبب الاستثناء عندهم هو أنه دعايةٌ للحلال وإبعادٌ عن الحرام، وتفاقاً أنه في بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوّغ الدَّف فقال ( لأنه إعلانٌ عن الزواج )، وإعلان يعني هو نوع ترويج للزواج، والترويج للزواج يحفظ النسل ويقي من الجريمة والفجور وما شاكل ذلك، فإنَّ الزواج بحسب بيان سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم هو أعظم استراتيجية في بناء المجتمع المسلم بعد أصل الدين، فهو أعظم شيء ( ما بني في الاسلام بناء أحب إلى الله من التزويج ) أو ( أسرُّ للمؤمن )، والآن عُلِم عظمة هذا البيان الاستراتيجي لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وأنَّ كثرة النسل هي أعظم ثروة في الأرض إذا استثمرت صناعياً وزراعياً وتجارياً وعلمياً، لأنَّ كل فرد عبارة عن قابلية، فعلى كل هذا كلام سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله كالمعجز، وبالتالي ترويج هذا الصرح العظيم - وهو الزواج - كأنما سوّغ الشارع الغناء فيه بهذا المقدار بحيث لا يخرج عن مقدار التحفيز الحلال إلى الشطط بالإنسان إلى الغرائز المحرَّمة أو لاستثمار الغرائز في الجانب المحرَّم كألحان الفسوق، فبالتالي هذا المقدار من الطرب هل هو شيء محرم ولكنه خُصِّص أو هو محلَّل؟

نعيد البحث:- وطبعاً البحث لا يُحسَم الآن وإنما نذكر إثارات احتمالية فقط كي نستظهر بعد ذلك من الروايات أيّ الوجهين أدق وأمتن، وسنبين الثمرة، فالتحليل هكذا:- إنه في الحداء مرَّ تحليل موضوعي أنه أصلاً ليس فيه طرب كما ذكر ذلك بعض الأكابر، وهذا هو وجه التحليل في الحداء بأنه تخصُّص، وكما قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كما أنه قد استثمر هذا المطلب العلامة الحلي والكركي والشهيد الأول والثاني وغيرهم من الأكابر فقالوا إنَّ الكثير من أهازيج الأصوات وترنّمات الأصوات وإن قيل عنها أنها غناء بالمعنى اللغوي الوسيع لأنَّ الغناء في اللغة أوسع من الطرب فإنَّ من أحد استعمالات الغناء حتى الصوت الحسن يسمونه غناءً وإن لم يكن فيه ترجيع كثير ولا مدّ صوت كثير ليس حراماً، فاستفاد الأعلام من بحث الحداء أنَّ مطلق الترجيع ومطلق مدَّ الصوت ومطلق رفع الصوت ليس حراماً، وإنما إذا وصل الترجيع إلى كيفية وعددٍ وكذلك مد الصوت ورفعه إلى درجة يكون بها مطرباً فهنا يصير حراماً، هكذا كان استظهار الأعلام، أما في الحداء فليس فيه إطراب أصلاً وإن كان فيه تهييج أو تنشيط فهذا لا مانع منه، فهم استفادوا منه جواز الأناشيد والإنذار وعدة عناوين كما مرَّ بنا، وهذه ثمرة في بحث الحداء.

فإذا الحداء ومثيلاته تم البحث فيها.

نأتي إلى الغناء في الأعراس: - وهنا يلزم أن ندقق تحليلاً في الماهية لنرى أنه تخصيصٌ أو تخصّص، فإن كان تخصّصاً فأيضاً سنستفيد أنَّ الطرب المتوسط إن كان هدفه محللاً يكون حلالاً، فلا يشكل على الرواديد والخطباء بأنه توجد خفّة، لأنَّ الخفة إذا كان فيها هدف محلل فلا مانع من ذلك، أما إذا كان من باب التخصيص فهذا الطرب المتوسط قد سُوِّغ في خصوص الأعراس أما في غيرها فلا يُسوَّغ، فهل هو من باب التخصيص أو التخصَّص؟ فمن كلمات الأعلام التي مرت علمنا بقرائن عديدة ذكرناها أنه ليس مرادهم من الغناء في الأعراس كالحداء الذي ليس فيه طرب فإنَّ هذا خلف الفرض، لأنَّ الفرض أنه يوجد فيه دفٌّ، وأيضاً السيرة الموجودة في الأعراس هي هكذا، نعم اشترطوا عدم الكلام الباطل الرذيل السافل واشترطوا عدم الآلات الموسيقي.

فلاحظ أنه حتى التربية الدينية والتشريع الديني إذا أراد أن يربي على التهييج نحو الزواج الحلال يكون بشكلٍ مذَّهب وليس هيجان إفراطي بحيث يشطّ بالغرائز إلى الحرام، وواقعاً هي تربية عجيبة في التشريع الاسلامي، فإذاً ليس بآلات موسيقية وليس بكلامٍ باطل، يعني لا يستثمر هذا الاستثناء لطريق الباطل بل يتمحَّض في الدفع والتحريك والجذب إلى الطريق الحلال، وهذه نكتة مهمة جداً، ومن باب المثال الصوفية عندهم مجالس الذكر هي رقص، فتراهم يتراقصون ويعزفون بالعيدان وهذا باطل، فهم يستخدمون الطرب الموجود في المجون ويمزجونه بذكر الله تعالى فكيف تكون هذه مجالس لذكر الله ؟!! ولذلك ورد ذمّ وتقريع شديد من قبل أئمة أهل البيت عليهم السلام على مجالسهم وأنَّ هذا ليس حالة ذكر ووجدٌ روحيٌّ وإنما هذه حالة وَجدٍ غرائزي، فلذا حتى في التربية الدينية تحفيز الغرائز نحو المحلل يكون بشكلٍ منضبطٍ وليس منفلتاً، فالاسلام لا يدعو إلى أنَّ الانسان يخصي نفسه، ولا يدعو إلى الحصورية، فالحصورية وهي سبب محلَّل ولكن ليست هي العزوف عن الزواج وإنما هي حتى العزوف عن الأكل الذي يهيج الشهوة الجنسية فيصير أكلاً ضعيفاً، فالحصورية يعني أن تخمد الطاقة قبل أن تصل إلى الجنس، لا أنك تجعل الطاقة هيجانية وتستمسك فإنَّ هذه ليست حصورية، وإنما الحصورية هي أنك لا تجعل الطاقة في هذا الجانب تهيج أصلا لا من جهة الأطعمة ولا من جهة المؤثرات الأخرى، يعني تقطع الطريق عن تحفيز الشهوة الجنسية من الأصل سواءً النظر أو الأكل أو الاختلاط بالنساء أو ما شاكل ذلك، فحتى هذه الحصورية مع أنها محللة ولكنها ليست من سنَّة النبي صلى اله عليه وآله وسلم، فإذا قارن أحدٌ التشريع يجد البعد الخلقي والروحي في تشريعات سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، فالمقصود هو أنه هنا يوجد تحفيز للشهوات ولكن بشكلٍ منضبط، ونحن نأتي بهذه التحليلات لأنها تساعدنا في فهم الموضوع وتحليله، فهنا حينما سوَّغ الأعلام الدَّف فالدَّف فيه إطرابٌ ولا يمكن القول بأنه لا طرب فيه ولذلك أصرَّ ابن إدريس على أنَّ الحرام ليس الدف فقط بل حتى الغناء في الأعراس، والحال أنَّ الصحيح هو قول المشهور وهو أنَّ الغناء في الأعراس محلل.

فإذاً الغناء في الأعراس مع كون الكلام حق ويدعو إلى حق ويثير إلى حق ولا يهيج الغرائز بشكلٍ منفلت وكان بشكل منضبط فهذا مسوَّغ، أما أنه مسوَّغ تخصيصاً أو تخصَّصاً فهذا شيء آخر، فهنا إذاً حدّدنا الموضوع هو أنَّ الطرب المتوسط غير الهيجاني والموجّه نحو غرضٍ صحيحٍ وهو الزواج وسيما غرض بهذه الأهمية فإنَّ الزواج استراتيجية عظيمة في الدين وفي المشرّع الاسلامي وفي الحكومة الاسلامية وفي سياسة الدولة، فإذا كان هذا الطرب بدرجةٍ متوسطةٍ غير منفلتة وغير هياجنية فهذا هو موضوع الغناء في الأعراس بالدقة، فهذا الغناء في الأعراس قد استثني ولكن هل هو من باب التخصيص أو التخصّص؟ فإن كان من باب التخصيص فهذا يعني أنَّ الطرب الخفيف حتى في الرثاء وفي قراءة القرآن ليس جائزاً وإنما الذي استثني هو الغناء في الأعراس فقط، والذي استثني في الأعراس لابد أن يكون طرباً منضبطاً محدوداً بشرائط عديدة، وإن بنينا على أنَّ هذا الاستثناء في الأعراس - الذي موضوعه واضح وهو أنه فيه طرب خفيف أو متوسط - من باب التخصَّص فبالتالي يكون شاملاً لغير الغناء في الأعراس، وطبعاً إذا بُدِّلت ردّات الرادود إلى مجالس لهو ورقص فهذا حرام من دون إشكال، وكذلك الحال في قراءة القرآن، أما إذا كان فيه شيء من وقع الترقيص فإذا بنينا على التخصَّص يكون جائزاً، ولكن إذا بنيا على التخصيص يكون فيه إشكال، ولكن مرَّ بنا أنه في الرثاء أو اللطميات أنه حتى لو استعمل الطرب المتوسط لا يكون كل النعي أو المرثية محرّمة بل المقطع الذي فيه الطرب هو الذي يكون محرَّماً أما الباقي فلا، فيمكن للمكلف أن لا يستمع للمقطع المحرّم وذلك بأن يسمع ولكنه لا يصغي أما غيره فلا يحرم.

وسنبدأ هنا بقراءة الروايات حتى نعرف ما هو مفادها وهل مفادها دال على أنه من باب التخصيص أو التخصَّص؟