الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء و أخواته الدرس ( 28)/ المكاسب المحرمة/

كنا في استخلاص النتيجة بالنسبة للآلات الموسيقية ومر بنا أنَّ جملة من الروايات المحرمة لآلات الموسيقية المحرمة لم تقيدها بالطرب او اللهو او مجالس المجون وما شاكل ذلك بل تحريمها للآت الموسيقية مطلق فاي فعل يستصدر منها هو حرام .

استعراض روايات الباب 100 من أبواب ما يكتسب به

الرواية الأولى :

مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ × يَقُولُ إِنَّ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ الْقَفَنْدَرُ إِذَا ضُرِبَ فِي مَنْزِلِ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِالْبَرْبَطِ [1] وَدَخَلَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَضَعَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ نَفْخَةً فَلَا يَغَارُ بَعْدَهَا حَتَّى تُؤْتَى نِسَاؤُهُ فَلَا يَغَارُ.[2]

ان قلت : انه بقرينة ذكر الرواية مسألة الغيرة يقيد اللهو بالمجوني وإلا فلا مناسبة بين ذكر الغيرة وبين مطلق الموسيقى ؟

قلت : إنَّه أول الكلام فمن قال أنه للكيفية الموجودة في مجالس أهل الفسوق ، ولذا السيد الخوئي في بعض فتاواه لم يقيد وانما جعل الآلات من المختصة والحال أن العود أيضا عقلائياً يستخدم بمغمات غير مختصة بمجالس الفسوق والفجور والملاهي بل هي نغمات معينة لا ربط لها بذلك ومع ذلك السيد حرَّم العود والكمان بنحو مطلق مع ان ضابطته الكلية أنه يفصل في الآلات الموسيقية لأنه شاهد أن هناك روايات كثيرة ذكرت العود والناي وبقية الأسماء وهذه غير مقيَّدة بأن تكون النغمة مختصة بأهل الفسوق

وهناك روايات غير ذاكرة لأسم الآلات معينة بل ذكرت الآت المعازف بعنوان عام أو الات الطرب والملاهي بعنوان عام بنفس اللسان الذي ورد فيها أسماء خاصة ( كالعود )

فاذا كانت الروايات التي وردت فيها أسماء خاصة من الآلات مطلقة وغير مقيدة بان تكون النغمة مختصة كذلك المعازف فالصحيح ما ذهب اليه المشهور من كون ضرب العيدان عليه المدار سواء دخلت الرجال أم لا .

كما ان السيد الخوئي في بحث الآلات القمار قال ان النهي عنها ورد من دون تقييد بالرهان او بالقمار فمطلق اللعب بها يكون حراما ، بل هو استفاد من بعض الآلات القمار بأنه حتى لو أُزيلت القمارية عنها ـ كما في الشطرنج ـ قال بحرمتها لكون الأخص الموافق لا يقيد الاعم فالخاص إنما يخصص العام لكون الخاص مخالف سلباً أو إيجاباً للعام ويُعبَّر عنه ( تخصيص ) واما اذا كان العام والخاص متوافقين فلا يخصص الخاص العام ـ ويسمى حمل العام على الخاص ـ إلا بشرط أن نعلم بوحدة الحكم وذلك اذا كان الحكم بدلياً أي صرف الوجود وإلا اذا كان الحكم استغراقي يعني كثرة لا وحدة حكم فيها فلا يحمل العام الموافق على الخاص .

اذن الحاصل انه اذا كان العام والخاص متوافقين فلا يرتكب التخصيص والتقييد إلا اذا كان الحكم بدلياً دون ما اذا كان الحكم استغراقيا على ما هو المعروف من الأصوليين وهو الصحيح ، مثلا ورد النهي عن ذات الشطرنج حتى لو فرض زوال صفة القمارية عنها ، فهناك ثلاث حالات لآلات للشطرنج :

الأولى : ان يراهن بها وتتخذ آلة قمارية .

والثانية : لا يراهن بها ولا يقامر ولكن يلعب بها ولها صفة الالة القمارية أي تتخذ اهل القمار للقمار .

الثالثة : زالت عادة المراهنة والمقامرة بها ، وأكثر الفقهاء ذهبوا للحرمة في هذه الحالة أيضا وهو الصحيح

لأطلاق الأدلة فالنص عام وارد في كل حالات الشطرنج فلماذا نقيدها بما إذا قومر عليها أو ماذا أعتيد التقامر بها ؟ّ! ان هذا التقييد لا موجب له مع كونهما متوافقين

ان الدليل الذي ورد في الشطرنج أو النرد او بعض الآلات القمارية ورد النهي عنها بالخصوص لا أن النهي ورد عن القمار ومن مصاديقه الشطرنج لكي يقال بالتقييد بحالة كونه قمارياً .

هذا البحث شبيه حرمة الغيبة فهي حرمت من أجل حرمة فوقية وهي ( إشاعة الفاحشة في اللذين آمنوا ) ومن أجل ( عورة المؤمن على المؤمن حرام ) ومن جملة عورات المؤمن عيوبه وهي أشد عوروية من عورة البدن حتى ، وحرّم لكونه ( إيذاء للمؤمن ) وغير ذلك فاليكن وهذه الحرمات فوقية ولو افترضنا في بعض مواردها غير واجدة للمناشئ فهل تبقى محرمة أو لا ؟ قالوا نعم لأن الشارع جعل حرمة للغيبة مستقلة فصحيح ان هذه الحرمة مجمع لحرمات فوقية ولكن هذا لا يعني أن هذه الحرمة ـ أي حرمة الغيبة ـ غير مجعولة بل مجعولة ويؤخذ بإطلاقها كذلك اتفاقا في حرمة الغناء او الآلات الموسيقية فهي بالضبط حرمة مجعولة وإن كان منشأها حرمات فوقية متعددة ( كاللهو واللعب والباطل واللغو المجوني ) وليس مختص فقط باللهو الطربي .

الرواية الثانية :

وَ عَنْهُمْ عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى أَوْ غَيْرِهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْمُسْتَرِقِّ قَالَ: مَنْ ضُرِبَ فِي بَيْتِهِ بَرْبَطٌ أَرْبَعِينَ يَوْماً- سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ الْقَفَنْدَرُ فَلَا يَبْقَى عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ إِلَّا قَعَدَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُزِعَ مِنْهُ الْحَيَاءُ- وَ لَمْ يُبَالِ مَا قَالَ وَ لَا مَا قِيلَ فِيهِ.[3]

الرواية الثالثة :

وَ عَنْهُمْ عَنْ سَهْلٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَزَّارِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ كُلَيْبٍ

الصَّيْدَاوِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ × يَقُولُ ضَرْبُ الْعِيدَانِ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْخُضْرَةَ.[4]

الرواية الرابعة :

وَ عَنْهُمْ عَنْ سَهْلٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُوسَى بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ × قَالَ: لَا يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً فِيهَا بَرْبَطٌ يُقَعْقِعُ وَ نَايَةٌ تُفَجِّعُ.[5]

الرواية الخامسة :

وَ عَنْهُمْ عَنْ سَهْلٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمَاعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ × لَمَّا مَاتَ آدَمُ شَمِتَ بِهِ إِبْلِيسُ وَ قَابِيل فَاجْتَمَعَا فِي الْأَرْضِ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ وَ قَابِيلُ الْمَعَازِفَ وَ الْمَلَاهِيَ شَمَاتَةً بِآدَمَ × فَكُلُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي يَتَلَذَّذُ بِهِ النَّاسُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ذَلِكَ.[6]

وهذا التلذذ ليس فقط في مجالس أهل الفجور والفسوق بل حتى في غيرها .

الرواية السادسة :

وَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ × قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ’

أَنْهَاكُمْ عَنِ الزَّفْنِ وَ الْمِزْمَارِ وَ عَنِ الْكُوبَاتِ وَ الْكَبَرَاتِ.[7]

والمزمار هو الاليات التي ترفع صدى الصوت بقوة . والكوبات والكبرات هي الطبول او الدفوف فهذه

العناوين ورد النهي عنها بخصوصها .وغيرها من الروايات التي إن دققنا بها لا نقيدها بمجالس أهل

الفسوق والفجور حتى لو ورد هذا القيد في بعضها لكونه موافقاً للعام فلا يحمل العام على الخاص بعد كون الحكم استغراقياً .

اذن الصحيح في الآلات الموسيقية حرمتها تشمل صورة اختصاص النغمات بأهل الفسوق والفجور او عدم الاختصاص لأن الاطراب والخفة حقيقة وتكوينا ولغة أعم مما يختص بأهل الفسوق والفجور او لا يختص اما اذا استخدمت الالة الموسيقية لا بنحو الطرب ـ كما مر ـ بل بنحو الإنذار والتحذير والإيقاظ وما شاكله فهو خارج عن الطرب وهو استخدام للآلات الموسيقية في غير ما وضعت له وهذه الصورة الثالثة لا دليل فيها على الحرمة .

بل هو استخدام للآلات الموسيقية في غير ما وضعت له كما ضرب بالعود ضربه واحدة فانه لم يوضع لأن يستخدم كذلك ، وكذلك لو قرع قرعة واحدة على خشب معين .

وهنا مبحث لا بأس بذكره :

انه لو استطاع متدرب ان يخرج صوت الآلات الموسيقية من الضرب على الاواني او آلات معدنية أخرى غير موسيقية فهل يحرم او لا ؟

نعم يحرم لأن أصدر الصوت الموسيقي ولكنه أستطاع من الاواني او أي آلة جمادية أخرى .

ثم انه في نفس الصورة الثانية وهي استخدام نغمات غير مختصة بمجالس أهل الفسوق فالاستماع ، وبعبارة أخرى : ان السماع متصور في الصورة الثانية بكثرة لكون الطرب واللهو فيها ليس شديداً فيمكن للإنسان مع التركيز بأمور مهمة أخرى ان لا يحصل لديه استماع بل يحصل سماع وهو ليس بحرام بخلاف الصورة الأولى أي النغمات المختصة بأهل الفجور فلكون طربها ولهوها شديد يتبدل السماع تلقائيا الى استماع وهذا فارق موضوعي بين الصورة الأولى والثانية .فأخفيِّة الحرمة في الصورة الثانية بسبب أخفية اللهو وتأثيره .

نرجع الى الغناء والصحيح انه ان اختص بمجالس اهل الفسوق او عمَّ الصورة الثانية فهو حرام والماهية واحدة في كيفية الصوت الا أن الكلام فيه هو الكلام في الموسيقى ، فيمكن فرض السماع لا الاستماع في الصورة الثانية بينما في الصورة الأولى تلقائيا يكون استماع لشدة اللهو والطرب ،وأما الغناء اللغوي بالقول بالمعنى المطلق الشامل لصور عديدة لكونه مجرد ترجيع ومد الصوت ورفعه من دون طرب فلا دليل على حرمته وان أوهمت بعض الأدلة لأن الجمع بين الأدلة في تحسين الصوت أو تجويده سواء في القرآن او غيره كيف يتحقق من دون تهجي فصيح او مد الصوت او رفعه نعم اذا رفع الصوت بشدة او مد الصوت بكثرة او قعقع الترجيع بشدة يتحقق الاطراب وهي ماهية تشكيكية تختلف فيها الصورة الثانية عن الأولى .

وهناك فرق موضوعي آخر لا بأس بذكره وهو انه مر بنا سابقا ان الغناء في الصورة الأولى ـ مجالس اهل الفسوق الفجور ـ لا يشترط أن يكون كل مقاطع الاغنية مطربة فلو كان بعضها غير مطرب وممل أيضا يكون حراما لأن المجموع أغنية وليس المقصود من الاطراب ان يكون تيار التأثير بالإطراب مستمر بل يكون ذلك إجمالاً ، اذن في الصورة الأولى الاطراب الشديد في الجملة يوجب حرمة المجموع ، وأما في الصورة الثانية في الغناء ـ بأن لم يستعمل نغمات وكيفيات صوت مختصة بمجالس أهل الفسوق فلم تكن شديدة الطرب ، واستخدم في الرثاء او في قراءة القرآن ، فلا يكون كل ومجموع قراءة القرآن او الرثاء حراما بل تختص الحرمة بالمقطع لأنه لا الكيفية مناسبة للإطراب ولا المضمون مناسب له بل كان مقطع يسير من الرثاء او قراءة القرآن أوجد فيه طرب متوسط لا هيجاني فلا يوجب صدق الغناء المحرم على مجموع الرثاء او قراءة القرآن لأنه بالتالي لا المضمون مجوني ولا الكيفية مجونية بل لهو خفيف وقصير بخلاف الصورة الأولى .


[1] البربط- العود، و هو من آلات اللهو. (مجمع البحرين- بربط- 4- 237).
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص312، أبواب ما يكتسب به، باب100، ح1، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص313، أبواب ما يكتسب به، باب100، ح2، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص313، أبواب ما يكتسب به، باب100، ح3، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص313، أبواب ما يكتسب به، باب100، ح4، ط آل البيت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص313، أبواب ما يكتسب به، باب100، ح5، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص313، أبواب ما يكتسب به، باب100، ح6، ط آل البيت.