الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء وأخواته الدرس ( 26)

مر بنا في استخلاص النتيجة من المواد والأدلة ان جماعة من الاعلام ـ كالفيض الكاشاني ـ حصروا حرمة الغناء بالمضمون الباطل ، او بكيفية الصوت اذا كان المضمون باطلا ، ووصلنا الى هذه النقطة وهي ان حرمة الغناء منحدرة من عدة حرمات فوقية ، فمن غير الصحيح حصرها في منشأ واحد فوقي ومعه فلا ينحصر حرمة الغناء بالمضمون الباطل بل حتى اذا كان المضون حقاً إلا ان الكيفية كانت هيجانية محرَّكة للخفة والنزوة وبالتالي تكون مجونية فهذه الكيفية المجونية تُعمي على المضمون الحق فيكون كالمزج بين الحلال والحرام .

فبالتالي احد الشواهد التي تمسك بها هؤلاء الاعلام هو ان مطلق الترجيع او مطلق مد الصوت او رفعه لا يمكن الالتزام بكونه حرام مع انه غناء لغةً ، فإذن التمسك بقول اللغوي مطلقاً محل إشكال لأن الصوت الجميل لا شك في كونه مباح بل بقراءة القران والادعية به راجحة ، فليس يبقى إلا اذا إقترنت كيفية الصوت بالمضمون الباطل .

ولكن يرد عليهم : ان الاطراب في نفسه محرم ، وهو نوع من الحركة او الحالة النفسانية في الغرائز والنزوات لدى الانسان ، أي تتحرك الغرائز والنزوات وما يوجب تحريكها ويهيجها قد يعبر عنه بالفتنة كما في النظر الى النساء ـ وان كان الباب مختلف غير باب اللهو واللعب ـ وهذا التحريك وتهييج الغرائز بدءا من الخفيف الى المتوسط الى الشديد الجنوني هذا التحريم حرام فما يحركه بحيث يوجب عدم سيطرة العقل وهو تغليب قوى الشر في الانسان على قوى الخير ، فما يوجب اسنادها وإعضادها على قوى النور يحرمه الشارع ، فالمجون لا يمكن التسليم بكونه مرتبط بالكلام الباطل فقط ، كلا بل حتى اذا لم يكن الكلام باطلا بأن كانت الكيفية مهيجة ، ولذا ورد ( لا تقرؤا القران بالحان أهل الفسوق ) وقد رواها الفريقان مما يدل على ان هذه الكيفية محرَّمة ويمكن ان تَعرُض المضمون الحق وهذه الكيفية حرام هي تبدأ بدرجات خفيفة ثم تشتد الى ان تصل الى درجات جنونية ، كما في الفرق بين الفقاع ـ البيرة باللغة الدارجة ـ عن الخمر ( ان الفقاع خمر استصغره الناس ) فطبيعة الشعير اذا نقع بالماء يومين ولو من دون نار وشمس يزبد ويعبر عنه بالفقاع ، والشارع جعل علامة لتخمر الشعير في الماء تبدأ من الفقاعات كما في التقصير في السفر يبدأ من حد الترخص لا من سور المدينة بينما المسافة تحسب من سور المدينة وفرق بين حد الترخص وسور المدينة ، فالمسافة تبدا من نقطة والحكم ـ وهو التقصير ـ يبدأ من نقطة أخرى .

كذلك في التخمر وحصول الكحول المصنعة ( لا الطبيعية فكل الفواكه فيها كحول وكذا الأطعمة كلها وهي سالمة قبل ان تفسد وتتعفن فيها كحول بالمعنى الكيميائي ولكن الاشياء اذا تخمرت حرمت ) فبالنسبة الى الشعير والعنب ـ لا الزبيب ولا التمر ـ طعامان يتسارع إليهما التخمّر بالغليان الكيمياوي الذاتي الطبعي ، او الغليان الذاتي الطبعي بسبب النار او الشمس ، فالغليان الفيزيائي بالشمس او النار يدفع هذا النقيع المائي الى غليان كيمياوي طبعي وهو التخمر ، لأن الكحول عبارة عن ( اوكسجين وهيدروجين وكاربون ) والماء فيه اوكسجين وهيدروجين ، والسكر الموجود في الشعير أو في العنب كاربون فلما تجتمع هذه الثلاثة بتركيبه خاصة تتحول الى كحول ( هيدروا أوكسيد الكاربون ) ويبدأ بالغليان ، وماء الشعير بمعنى أشد من ماء العنب ، لأن ماء العنب اذا غلى يحرم وينجس واذا ذهب ثلثاه يطهر ويحل ، ولكن ماء الشعر كلما غلى يزداد شدة في التخمر .

وطبيعة الشعير اذا جعلته في الماء نظرا الى نسبة السكريات وكثرة السعرات الموجودة فيه اذا نقع بالماء يومين يتكون فيه الكحول وعلامة تكونها الغليان الذاتي حتى لو في الظل من دون شمس أو نار فتتصاعد الكرات الهوائية وهو الزبد ويسمى فقاع فجعل الشارع علامة الحرمة ماء الشعير وجود الزبد من دون حاجة الى الاختبار ـ كما توهم بعض الاعلام ـ فالضابطة التي بنى عليها مشهور الامامية هي وجود الفقاع وهو الزبد ، فكل ماء شعر اذا أفرغته في إناء فوجدت فيه الزبد فهو حرام ، واذا وضعته في الهواء ثلاثة أيام او أربعة يذهب الزبد ولكن تشتد المرارة لأنه ينقلب من فقاع الى نبيذ ، وهو حالة وسطية في الخمرية بين البيرة والخمر ، فـ ( نبيذ ) وهو من 15 % الى 35 % والخمر من 35% الى 55% والفقاع يبدأ من 3 % الى 15% واذا زاد الخمر في الكحولية على 55% 60 % وأكثر يكون ساماً .

ولا نحتاج الى فحص مختبري فالحرمة ليست منوطة به بل منوطة بعنوان الفقاع أي الغليان نظير حرمة العصير بالنار فإنها منوطة بالغليان سواء بالنار او الشمس أو بنفسه على المشهور ، وعلامة الغليان هو الفقاعات المتصاعدة من أسفل النقيع الى الأعلى .

واما غليان ماء التمر والزبيب فلا يسبب الحرمة ـ خلافاً للسيد بحر العلوم وجماعة ـ تمسكاً بالاستصحاب التعليقي .

وفي الفقَّاع ذكروا ان فيه نشوة وخفة يسيرة وقد ذكرت في الروايات علة تحريمه بأنه يوجب ستر العقل وهياج الغرائز والشهوات بدءاً من الفقاع الذي هو تحريك خفيف ، الى ان يصل الى المجون ويعبر عنه ستر العقل وهو موجود في الاطراب فطبيعة الاطراب ستر العقل وطغيان الغرائز وهذا هو المحرم من اللهو وأما اللهو غير المجوني فقد يكون مكروه او غير مكروه .

فالصحيح ان الاشكال الذي استدل به جماعة من الاعلام ـ كالفيض الكاشاني ـ أنّ حد الغناء لا يمكن العمل به على اطلاقه صحيح لأنه يطلق الغناء على مطلق مد الصوت ولكنه اذا اشتد مد الصوت ورفعه يبدأ الاطراب الخفيف بالمجيء وبالتالي هذه بداية درجة الحرمة وهو الاطراب ولا يمكن رفع اليد عن حرمته وأنه مصداق للهو المجوني .

هذا محصل الكلام في الغناء ودفع ما ذكره الاعلام خلافاً للمشهور .

واما الآلات الموسيقية فحسب تتبع قليل ـ ظاهرا علماء العامة الذين أكثرهم لا يحرمون الغناء ـ ظاهر الأكثر الحرمة ، بل ربما أدعي الاجاع عندهم على الحرمة وان كان فيهم من يفتي بالحلية ، وأما علماء الامامية فلم يفتي احد بالحلية وانما فصل جماعة كثيرة ـ في هذا القرن والقرون الأخيرة ـ بين استعمال الآلات بنحو مجالس اهل الفسوق والكبائر فتحرم ، وبين عدم ذلك فلا تحرم ومن ثم بنى الاعلام على التفصيل في الآلات الموسيقية ان بعضها مشتركة بين الحلية والحرمة ، وبعضها خاصة بالحرمة ، لأنها لا يستعملها إلا أهل الفسوق والفجور .

ولكن الأكثر شهرة عظيمة جداً من علماء الامامية وطبقاتهم ذهبوا الى حرمة الآلات مطلقاً من دون تفصيل ، فكل الآلات الموسيقية محرمة وليست مشتركة سواء بالحان أهل الفسوق والمعاصي او لا ، والفرق بين الصورة الأولى والثانية هو ان الصورة الأولى فيها شدة هيجان تحريك ونزوات بحيث تدعو الى الرقص ، فغالب موسيقى أهل الفجور فيها رقص ومجون واثارات ، وأما الموسيقى التي تستعمل في الأفلام أو التلفاز من دون مجالس ، فتحريكها أخف من التي تكون في مجالس الأغاني والطرب .

الصورة الثالثة اذا استخدمت لا للطرب ولا للهو ، بل للإنذار كجرس الساعة او البيت او للحماس أو لليقظة او كصفارة الإنذار بوجود لص او عصابة او غارة عسكرية هذه الاستعمالات ليس فيها استعمال لهوي أو طرب بل فيها تنبيه واشارة ، والكثرة الكاثرة من الفقهاء على الحلية عدا بعض المشهور ـ كالسيد الكلبايكاني ـ يذهب الى حرمتها أيضا كالصورتين الأوليين .