الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء وأخواته الدرس (25)

في مقام استخلاص النتيجة من الأدلة مرَّ بنا أن هناك خلاف بين المشهور شهرة عظيمة مع قلة من الاعلام حيث ذهب جماعة ـ منهم السيد ماجد البحراني والفيض الكاشاني وتابعهم سلطان العلماء والخاجوئي ومجموعة من علماء أصفهان ـ ان المحرم ليس هو كيفية الصوت وانما هي اذا كانت بمضمون باطل ( فتشتد الحرمة ) أما اذا كانت بمضمون حق فكيفية الصوت بما هي هي وان كانت مطربة فليست محرمة ، واستشهدوا بشواهد ومر بنا بعض الشواهد في الدرسين السابقين .

منها: ان استعمال لفظ في أكثر من معنى غير ممكن

ومر بنا أنه لماذا يفرض أن الروايات هي واحدة بل هي متعددة بعضها نص على أن الغناء كيفية صوت وبعضها نص على كونه المضمون الباطل .

وهؤلاء الاعلام القلة الذين ذهبوا الى عدم حرمة كيفية الصوت في نفسه ذهبوا الى حرمة الكفية المطربة بشرط أن يكون المضمون باطلا فكأنما يشتد المجون في الكلام ومن ثمَّ يحرم ، فبالتالي يذهبون الى حرمة كيفية الصوت ولكن بتفصيل وكذا حرمة الطرب بتفصيل وهو فيما اذا كان المضمون باطلا .

اذن الايراد الأول عليهم أنه من قال ان الأدلة على لسان واحد بل لها عدة السن فبعض الالسن حرمت المضمون ، وبعضها حرمت الكيفية .

والثاني: انه من باب الملازمة شبيه لفظة النكاح ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾[1] كما مر بنا ان المقصود منه النهي عن إيجاد الايجاب والقبول ، وإيجاد الماهية ، والوطئ فلو اشترى الانسان امة وطئها اباه بل حتى لو قبلها فلا يجوز له أن ينكحها كل هذا في عموم الاية ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ فانه باتفاق الفقهاء على أنه غير مختص ان ما نكح غير مختصة بعقد النكاح او بمسبب ماهية النكاح بل حتى لو ملك الاب أمة ووطئها فانه يصدق هذا العموم بل

لو زنى الاب بإمرءة قبل أن يتزوجها الابن فلا يحل للإبن أن يتزوجها فلفظة نكح بالاتفاق تشمل العقد والمسبب والوطئ مطلقا سواء كان عن حلالا وحرام فاذا كانت هذه اللفظة شاملة للزنا فما بال كلمة نكح في ( من نكح ذات بعل ) لا تشمل كلمة نكح الزنا ؟! فليس بصحيح ما يقال بانه لا دليل عند المشهور على الحرمة الأبدية على من زنا بذات بعل بل الدليل هو نفس لفظة نكح فليس المراد منها نفس العقد ولا المسبب ولا الوطئ المحلل بل حتى الوطئ المحرم فمطلق الوطئ يسمى يسمى نكاح .

( فمن نكح ذات بعل حرمت عليه مؤبداً ) كما ان عندنا من نكح امراءة في عدتها يشمل العقد والوطئ و... فكما ان لفظة نكح تستخدم في السبب والمسبب ومسبب المسبب بنحو التلازم أو بنحو آخر وهذا أمر مسلم عند الاعلام لا سيما في آية ﴿لا تنكحوا ما نكح آبائكم﴾ وهذا متفق عليه اذن لا ينحصر إرادة تعدد المعاني باستعمال اللفظ في أكثر من معنى فقد يكون من باب التلازم أوالتقارن أوالسبب والمسبب وهلم جرا ، لاسيما مع اعترافهم ـ الجماعة القليلة ـ ان المضمون الباطل يُصعِد من شدة الطرب فهناك اذا تلازم بين السبب والمسبب فكما حرم الشارع الكلام الباطل حرم المسبب منه وهو الطرب وهذا الطرب موجود في كيفية الصوت .

أضف الى ذلك انهم اعتمدوا ـ مر بنا في كلمات اللغوين ان ـ الاعم من الحقيقة والمجاز ـ مطلق مد الصوت وموالاته والترجيع الذي هو الترديد يسمى غناء ، وبعبارة أخرى الغناء له استعمالات في اللغة مد الصوت ترجيعه ورفعه وموالاته وترديده وهذه حالات مختلفة في الصوت ومطلقاً يسمى غناء ولكن هل المحرم هو هذا بوسعه ؟

ونريد أن نسجل المؤاخذة على هذه الجماعة القليلة ، انهم اعتمدوا في التفصيل في حرمة الغناء ـ وعدم حرمة كيفية الصوت المطرب بمجردها اذا عَرضَت على كلام حق كالقران والرثاء او كلام مباح بخلاف ما اذا عَرضت على كلام باطل يثير الغرائز والنزوات ـ أنَّ عمدة ادلة الحرمة مطلقا هو التمسك بالآية من قِبل الائمة ^ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾[2] فاللهو المحرم من سنخ مضمون الكلام

ويؤاخذ عليهم :

المؤاخذة الأولى: إن بقية الآيات المحرمة للهو ليست كلها متضمنة للفظة حديث فيكون اللهو المحرم مرتبط حصراً بمضمون الكلام ، نعم هذه الآية مشتملة على ذلك أما بقية الآيات فليس فيها قيد حديث او كلام فتجتمع مع الكيفية ومطلق الاطراب بل طبقت في الروايات على اللعب بآلات القمار مع كونه خاليا من الكلام ومضمونه اذن اللهو المجوني الذي ذهب اليه المشهور هو الصحيح أعم من كونه مضمون كلام او كيفية صوت او أفعال أخرى بدينة توجب المجون .

المؤاخذة الثانية:

وهي: ان هناك أربعة او خمسة عناوين في الآيات ( كاللهو واللغو واللعب والباطل ) ثم اللهو ليس في كل آياته كلام ، ومن هنا استقصاء الأدلة والالمام بشكل دقيق يؤثر في استنباط الفقيه ، والاطلاع على كتب القدماء مؤثر في الاستدلال ، فلا يصح الاكتفاء ببعض كتب المعاصرين ، في الاستدلال في المسألة لأنه لا يعطيك جرد كامل لمواد الاستدلال ثم لما تجردها بقائمة معينة استخلص من كل مادة ـ خمسة كانت او ستة او اقل او اكثر ـ في اليات والروايات كل مدة القالب الصناعي المستخرج منها ما هو ثم النسبة بين هذه القوالب المستخرجة منها ما هي فان هذا هو الاستنباط سيما في المسائل الام .

اذن يرد عليهم: ان قصور دليل لا يستلزم قصور اطلاق بقية الأدلة .

المؤاخذة الثالثة:

انه مر بنا في بحث الغيبة والغناء ظاهرة صناعية موجودة في الأبواب الفقهية كلها وهي ان الشارع في الغيبة جَعَل جَعْل تأسيسي لحرمة الغيبة ومع ذلك جعل الغيبة التي جعل لها مستقل في الحرمة بين ان منشأ جعل الحرمة فيها ناشئ ومتولد من جعول سابقة فوقية ( كإشاعة الفحشاء ، وايذاء المؤمن ، وعورة المؤمن على المؤمن حرام ) فهذه الأصول الفوقية المحرمة كلها اجتمعت في الغيبة فصارت الغيبة مجمع لحرمات وهو ليس اجتماع صدفة بل دائم ، وقد ذكرنا ان حرمة الغيبة هل هي ارشاد الى تلك الحرمات او هي حرمة بنمط مستقلة وبنمط متولدة من الحرمات الفوقية ، شبيه المُقنن في الدستور لما يقولون ( بوجوب العدل ) وهكذا أصحاب التقنين البرلماني لما يقولون ( يجب العدل في تقسيم الثروات في المياه مثلا ) فهل الوجوب الذي يشرعه البرلمان مع الوجوب الذي يشرعه فقهاء الدستور فهل هما وجوبان او ماذا ؟ ونفس الشيء الوزارات تأخذ المادة القانونية من البرلمان وهي مرة أخرى تقول يجب ان تكون حصة الماء للإقليم الفلاني كذا وللمركز كذا بتفصيل أكثر فلماذا كل منهم يشرع وجوب ؟

انه ليس بغريب في علم القانون وربما الذي تشرِّعه الوزارات من توزيع حصص الماء أو الذي تشرعه البلديات هذا الوجوب مجمع لعدة قوانين برلمانية وقوانين دستورية اذن ليس غريب في القانون والفقه أن يُنشَأ حكم عدة مرات بنحو الاجمال وبنحو التفصيل بمراتب فانه معهود وضروري وهذا هو سر الولاية التشريعية لسيد الرسل ولأوصياءه .

وهنا كذلك في حرمة الغيبة والحرمات الفوقية التي نشأت منها حرمة الغيبة أو قُل حرمة الغناء والحرمات الفوقية التي نشأت منها حرمة الغناء ففي الغناء ذُكِر ان حرمته نشأت من اللهو المجوني واللعب المجوني والباطل والنفاق فأجتمعت فيه عدة حرمات فوقية .

وانما أثرنا هذا البحث الذي هو مرتبط بأصول القانون سواء البشري أو السماوي ؟ لأنه بنت الثلة القليلة من الاعلام على أن حرمة الغناء لأنها استُمِدَت من حرمة اللهو في الحديث اذن حرمتها تكون مقيدة ومحدودة بمحددات الحرمة الفوقية ( فتكون محددات الحرمة الفوقية هي محددات الحرمة النازلة ) وهذا غفلة ، لأن الحرمة النازلة ـ وهي حرمة الغناء ـ لم تنشأ حصرياً من حرمة فوقية واحدة ، بل نشأت من حرمات فوقية متعددة .

مثلا الوزارات ( التي يكون دورها بعد البرلمان في التشريعات والبرلمان بعد الدستور ) تتمسك بالسعة والتقييدات البرلمانية ، ولا يحق لهم التمسك بالدستورية ، وأصحاب التقنينات البلدية يتمسكون بالتقنينات الوزارية ، لا يحق لهم التمسك بالتقنينات البرلمانية لأن التقنين الوزاري قائم بنفسه ، فلابد من الاستناد اليه ، وهذا ذكرته لكي نقول هل نتمسك بإطلاق حرمة الغناء أو نتمسك بالقوالب الفوقية ؟ الاعلام ـ كالفيض الكاشاني ـ تمسكوا بالقالب الموجود في الحرمة الفوقية ولم يتمسكوا بقالب الحرمة النازلة مع كونها أيضا أصيلة ومقننة بلحاظ طبقات القانون والمفروض أننا نتمسك بها لا بما فوقها شبيه تمسك القانوني البلدي بالقانون الوزاري لا بالبرلماني وتمسك القانون الوزاري بالقانون البرلماني وتمسك القانون البرلماني بالدستور فكل طبقة تتمسك بالطبقة التي قبلها لا بالطبقة الفوقية جداً ، وهذا الترتيب متداول في علم القانون ولا يُتَصَور أنه مختص بالقانون الوضعي البشري ، وهنا الشارع صاغ حرمة الغناء أو الغيبة من حرمات فوقية وقولبها بقالب معين فلابد من التمسك بها مادام هناك طريق للتمسك بها فغذا صار هناك إعواز تصل النوبة الى العمومات الفوقية ، وهذا ما قاله علماء الفقه المعاصرين من ترتيب العمومات الى درجات عموم أول وثاني وثالث ... فيجب التمسك بالعموم التحتاني القريب ، فان اعوزك الحال تصل النوبة للعموم الذي فوقه ثم الأعلى فالأعلى ، وأحد إشتباهات المثقفين أو الحداثويين أنهم يتمسكون بالأسس الفوقية ويتركون التقنينات ذات المراتب التحتانية شبيه من كان في البلديات ولا يقبل التمسك إلا بالقانون الدستوري فيتحول الى نائب عن البرلمان والوزارات والقضاء والكل في الكل .

ان العموم يجب ان يكون كصناعة فقهية يرتب الى درجات ومراتب والعمومات تقنينات وقوانين فهذه

مؤاخذة أخرى على الاعلام حيث أنهم يتمسكون بالعموم الفوقي مع أن نفس تحريم الغناء تقنين من

الشارع فلماذا لا تتمسك به مع أنَّ المنشأ ـ كما مر ـ مأخوذ من مناشئ متعددة .

وهناك مؤاخذات أخرى على كلام الاعلام نذكرها لاحقا انشاء الله تعالى

 


[1] النساء/السورة4، الآية22.
[2] لقمان/السورة31، الآية6.