الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء وأخواته الدرس ( 24)

كنا في صدد استخلاص نتيجة أدلة الحرمة في الغناء وأن محصلها أيُ قول من الاقوال هل هو المشهور او القول النادر ، ومر ان الفيض الكاشاني واستاذه السيد ماجد البحراني يظهر منهما ان الغناء بمعنى كيفية الصوت ليست محرمة وان المضمون الباطل أو المقترن بضرب الآلات الموسيقية او ما يقارنه من أمور محرمة كدخول الرجال على النساء الأجانب ، هي المحرمة ، مما يدلل على أن الاختلاط بين الرجال والنساء بغاية التفكَّه الشهواني من المحرمات والكبائر ولو من دون تماس جسدي .

ومن هنا أسس العلمان ـ البحراني والكاشاني ـ مقدمة وهي :ان استعمال لفظ في أكثر من معنى غير جائز وأن الغناء تارة يستعمل بمعنى الكلام الباطل ، وأخرى يستعمل بمعنى كيفية الصوت اللهويه وهذان المعنيان متباينان وأي منهما محرم ؟ لابد أن يراد أحدهما

ثم استدل على ان المحرم ليس هو كيفية الصوت بشواهد عديدة وهي :

الشاهد الأول : ورود الروايات الكثيرة في ان منشأ الحرمة في الغناء هي لهو الحديث وهو المضمون

الشاهد الثاني : ـ ولم نذكره في الدرس السابق ـ ان استثناء الغناء في الاعراس هل هو من باب التخصيص او التخصص .

وبعبارة أخرى : اذا كان المحرم هو الغناء بمعنى كيفية الصوت فما الفرق بين الغناء في الاعراس وبين غيره ؟! فمن المستبعد جدا ان تكون حلية الغناء في الاعراس من باب التخصيص بل هي من التخصص باعتبار أن كيفية الصوت في نفسه ليست محرمة .

صحيح ان الفقهاء اشترطوا في حلية الغناء في الاعراس عدم استخدام الدف ـ وهو غير الطبل أي من دون أن تكون فيه جلاجل ـ ففي الغناء في الاعراس اذن يوجد كيفية صوت و الات موسيقية ودخول الرجال على النساء غير موجود اذن بالتالي فهذا الغناء الموجود في الاعراس كيفية الصوت فيه محللة بينما محرمة في غيره ، فمن المستبعد أن يكون الشيء الواحد محلل في مورد ومحرَّم في مورد آخر

ولذلك ذكر العلماء في استثناء الغناء في الاعراس أن لا تقول الباطل وان لا تستعمل آلات الموسيقى ولا يدخل الرجال على النساء وهذه القيود التي ذكرها الفقهاء الغناء في الاعراس يكون نموذجاً لا حصر في الحلية على ان الكيفية ان لم تقترن بالمحرمات فهي في نفسها ليست بحرام ، هكذا يدعي العلمان .

الشاهد الثالث :

أمرنا بتحسين الصوت في القرآن وتحسينه لا يتم الا بكيفية الصوت وحتى ورد في الروايات ( من طرقنا وطرقهم ) الترجيع ، كما سيأتي ، وليس مطلق الترجيع حراماً وإن صدق عليه الغناء وهذه قرينة ان الحرمة بلحاظ المضمون .

وبعبارة أخرى : إن حسن الصوت بالضرورة مباح أو راجح سواء كان في القران او غيره ، ومن المحال في علم الموسيقى أن يكون حسن الصوت من دون مد وترجيع او ترفيع للصوت ، اذن نفس كيفية الغناء ككيفية صوت بمعنى حسن الصوت وجماله وتنسيقه من جهة المد او رفعه الصوت او ايقاعات الترجيع ليست محرمة وإنما المحرم هو ما اذا اقترنت هذه الكيفية مع المضمون الباطل نعم الكيفية تكون حرام باعتبار المضمون فكأنما المضمون او الآلات الموسيقية بمثابة الحيثية التعليلية .

والتعليلية لها معاني عديدة في مقابل التقيدية ولها أيضا معاني عديدة ولا نريد اخوض فيها تفصيلا وأحد المعاني المشهورة للحيثية التعليلية هو ان المحمول لا يعرض على نفس الحيثية بل يعرض على كيفية الصوت بسبب المضمون الباطل فلو كان المضمون باطل لكانت الحيثية تعليلية لطرو الحرمة كيفية الصوت ولو كان المضمون باطلاً أو آلات موسيقية حيثية تقيدية لطرأت الحرمة على المضمون الباطل دون كيفية الصوت ، فهل المضمون الباطل او استعمال الالات الموسيقية أو دخول الرجال على النساء حيثية تقيدية او تعليلية ؟

ان دخول الرجال على النساء الاجنبيات وان كان في نفسه محرم فهل الحرمة التي تطرأ على الغناء تطرأ على دخول الأجانب ؟ ليس مقصودهم دخول الرجال على النساء بل هو من الكبائر في مجلس شهواني ولكن هناك حرمة أخرى وهي للغناء وهي في كيفية صوت وتلك الحرمة المقترنة حيثية تعليلية لها أو العزف هو حيثية تعليلية فيكون هذه الكيفية من الصوت المقترنة هي فيها حرام .

هذا محصل كلام العلمين وقد شذَّا عن مشهور علماء الامامية .

وفي الاستثناءات التي سندخل فيها المحقق الكركي في جامع المقاصد والسبزواري وغيرهما قالوا باستثناء كيفية الصوت في المراثي الحسينية وكون هذا صحيح او لا كلام آخر بل ان الكلام في استثناء الغناء في الاعراس يرد التساؤل فيمن استثنى مراسم العزاء .

ان الآلات الموسيقية انما تحرم ان استخدمت كعزف مطرب موسيقي واما اذا استخدمت كأنذار أو جرس إنذار للحرب او طريقة فيها رعب أو حماس فهو ليس استخدام لهوي او عزف وانما الكلام فيما اذا استخدمت بشكل لهوي .

السيد الخوئي وكثير من معاصريه وتلامذته وكالسيد الخميني في الآلات الموسيقية لا يذهبون الى حرمة استعمالها مطلقا بل يحرم اذا كان بالنمط اللهوي المعروف عند أهل الفجور ، وبعضهم حرمها مطلقا ـ ومنهم السيد الكلبايكاني حيث حرم حتى الحربية ـ ولكن المشهور لا يحرمون الاستعمال غير اللهوي فقد تستخدم آلة موسقية كجرس الإنذار فإن هذا ليس عزف واستعمال موسيقي .

مرَّ بنا ان كل فعل او صفة فضيلي ( أي من الفضائل ) له نغمة موسيقية تناسبه وكل فعل او صفة رذيلة كسفك الدماء ، او فعل شهواني له نغمة موسيقية تناسبه ، وهذا التناسب تكويني علمي لا ذوقي فله ضوابط وقواعد ، ومن باب المثال الصوت الذي أُلهمه الشيخ عبد الزهرة الكعبي & ( قارئ المقتل المعروف ) ليس صدفة بل نغمة برزخية أُلهمها متناسبة مع الحزن .

السيد الخوئي & يريد ان يقول ان الفجور ومجلس الدعارة واللاهدفية والمجون له نغمات موسيقية متناسبة معها وهم بحسب طبع الفجور ينساق لها أهل المعاصي ، شبيه قول النبي ’ ( لا تقرؤا القرآن بالحان أهل الفسوق ) أي ان الفسوق تلقائيا يناسبه ألحان معينة ، فالأعلام ـ كالسيد الخوئي ـ يعتبرون الآلات الموسيقية جلها مشتركة على مبناهم أو بعضها مختص بأهل الفجور وهو خلاف المشهور عند علماء الامامية وما نتبناه أيضا من حرمة عموم الآلات الموسيقية .

أقول : هذه صور استعمال الآلات الموسيقية وهي ثلاث صور :

1 ـ استعمال أهل الفسوق والكبائر والعصيان .

2 ـ أو مطلق الاستعمال .

3 ـ أو استعمالها لا كموسيقى بل كمنبه كالضرب على جسم معين فهو ليس استعمال موسيقي بالمعنى العرفي ـ وان كان استعمال موسيقي في علم الموسيقى والرياضيات الهندسية وفي الصوت ـ ، ان استعمال الآلات الموسيقية كإنذار أو إيقاض أو كتنبيه ليس استعمال موسيقي عرفي كما في صوت التلفون القديم فهو تنبيه وأيقاض لا استعمال موسيقي وهو كصوت الآلات التي تستخدم في التطبير أو طبل الحرب فهو ليس صوت موسيقي بل صوت للتنبيه والاستعداد ، وصفارة الإنذار فهذا الاستعمال صورة ثالثة لم يذهب المشهور لحرمتها ، فالألات الموسيقية لها ثلاث صور وانما تطرقنا للآلات الموسيقية بمناسبة الحديث عن الغناء لأن الغناء بالصوت كالغناء بالآلات أي كيفية الصوت .

الغناء فيه ثلاث إحتمالات :

اما هو مضمون باطل وهو الأصل كالشعر وهو تخييل يثير الشهوة ، وتأثير الكلام ـ وليكن اذا ضمت اليه كيفية الصوت ـ في التصوير أخطر في الاثارة حتى من كيفية الصوت .

2 ـ أو هو كيفية الصوت المطرب ، أي ترجيع ومد الصوت بدرجة قوية .

3 ـ مطلق الترجيع او مد الصوت او رفعه وان لم يكن مطرباً .

مر بنا ان العلامة في القواعد اختار ان الغناء المحرم هو مطلق رفع الصوت ومده ومطلق الترجيع وكذا الشهيد الأول في الروضة وجماعة من العلماء الكبار ، وقطعا هذا المعنى الذي ذكروه يستعمل لغوياً ولكن ليس الكلام في المعنى اللغوي بل في هل كونه هو المراد من الروايات او المراد احد المعنيين الأوليين ؟

ما هو الفرق بين مد الصوت المطرب وغير المطرب ومر بنا ان المراد من المطرب ليس انه كل آن آن مطرب بل في الجملة مطرب فيكفي في حرمة مجموعه فمن ذهب الى ان الغناء كيفية ترجيع ومد ورفع صوت مطرب ليس مراده ان هذا صفة للغناء في كل جزء جزء منه بل مراده اشتماله على ذلك في الجملة فاذا اشتمل على ذلك حرم مجموعه .

والاطراب خفة وأيُ فعلٍ يوجب تأثير لا إرادي قهري ـ وان لم يكن جبري أي لم يُفقِد الانسان الاختيار ولكنه يوجد عند الانسان الخفة وعدم الوقار صوب الفرح فهذا هو الطرب والنوح على العكس فانه يوجب الخفة نحو الحزن كما في الروايات أنَّ الناي طبيعته انه يثير الحزن في الانسان .

ولنأخذ بدراسة ما استشهدا به من شواهد :

اما المقدمة التي ذكرها ـ من انه اذا استعمل الغناء في الكلام الباطل فلا يستعمل في كيفية الصوت لأنهما معنيان متباينين ـ فيردها

أولا : من قال ان الأدلة على لسان واحد بل لها عدة السن فبعض الالسن حرمت المضمون ، وبعضها حرمت الكيفية ، كما في الرواية عن الامام الرضا × فهي نص في كون الغناء هو كيفية الصوت فالعلمان إفترضا ان الأدلة هي لسان واحد او آية واحدة أو رواية واحدة فهي إما استُعملت في المضمون او الكيفية ، وهو غير صحيح فهناك روايات كثيرة واستعملت استعمالات متعددة كل بحسبه وهناك شواهد كثيرة ذكرها الاعلام في الرد عليهما في كونها استعملت في كيفية الصوت .

ثانيا : ان استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز وواقع خارجا .

ثالثا : بل المسألة لا ترتبط بذلك أي في استعمال اللفظ في أكثر من معنى فكلمة نكاح مثلا ( احل الله البيع وحرم الربا ) باتفاق الفقهاء ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾[1] فالتجارة هل هي ايجاب وقبول او ماهية عقود ؟ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[2] هل المراد به الايجاب والقبول او ماهية العقود وكذا ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾[3] كما مر بنا ان المقصود منه النهي عن إيجاد الايجاب والقبول ، وإيجاد الماهية ، والوطئ فلو اشترى الانسان امة وطئها اباه بل حتى لو قبلها فلا يجوز له أن ينكحها كل هذا في عموم الاية ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ وهو ليس من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى بل لا ربط له في ذلك بل من باب التلازم بين السبب والمسبب والاثر فتحريم أي واحد يؤدي لتحريم البقية ، وهكذا في محل الكلام فتحريم الغناء بمعنى يلازم تحريم الثاني لأنهما شيء واحد .

رابعا : ان بعض الروايات عللت بكونها ( ليست من التي يدخل عليها الرجال ) باعتبار أن الائمة كانوا يواجهون عُرف السلطة العباسية والاموية والسقيفة وفقهاء السلطة كانوا يفتون بالحلية فلمواجهة هذا الموج العارم كان يتشبث الائمة تقية بان الجهات المحرمة مثلا موجودة في الغناء كدخول الرجال على النساء ، او الضرب على الاوتار ، أو أن فطرة العقل تقول بالبطلان مثلا فواضح فيها جنبة التقية لأن الروايات تبين أن الغناء في نفسه ينبت النفاق بغض النظر عن دخول الرجال على النساء أو له عقوبة عاجلة دنيوية . فالتعليلات الواردة تتماشى مع مذاق القوم ـ العامة ـ لا أنها هي المنشأ للتحريم


[1] سورة النساء، الآية 29.
[2] سورة المائدة، الآية 1.
[3] سورة النساء، الآية 22.