الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/04/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء وأخواته الدرس ( 23)

( هذا تنضيد للدرس وليس تقريرا )

كنتيجة لما تقدم قبل أن نلج في مستثنيات حرمة الغناء لابد أن نخلص الى نتيجة في حرمة الغناء وهذه نكتة صناعية لطيفة ، فتارة يخوض الانسان في مفاد الآيات والروايات رواية رواية ، والأدلة دليل دليل ويناقشها ولكن يتناسى الانسان المحصل أو لا تكون لديه قدرة على قولبة النتيجة المحصلة لا أقل في ثلاثة أسطر لأن الأدلة منتثرة متعددة وكذا النقاشات فيها ، ولتسهيل استخلاص النتيجة النهائية أثناء المرور على الأدلة ـ دليل وآية آية ورواية رواية وقول قول ـ بعد كل آية ورواية وقول يحاول الانسان هناك ان يستخلص زبدة جزئية أو قيد في البحث أو إطلاق ثم بعد ذلك في النتيجة النهائية هذه القيود أو هذه النتائج الجزيئة يناسق ويركب النتيجة من هذه النتائج الجزئية وربما يتطلب منه جهد أكثر فأكثر ، وليكن ولكن هذه الطريقة صناعية وربما تجد بعض الاعلام متبحر في النقاشات التفصيلية ولكنه أثناء استخلاص الزبدة منها ليس بتلك القوة ، وبعض الاعلام على العكس فقد لا يبتكر شيئا في أبحاث الاخرين المبسوطة والمترامية الأطراف ، ولكنه قوي في لملمة الزبدة ، فالفقهاء مختلفين قوةً وضعفاً في هذه المجالات ، فالإنسان يوفر في نفسه هذه الخصائص ان لم يكن بشكل قممي فلا أقل بشكل متوسط.

قولبة النتيجة :

العلامة الحلي & في القواعد جعل تعريف الغناء مطلق ترجيع الصوت ومده ، ولم يقيده حتى بالمطرب ، وإن كان العلامة في باقي كتبه ـ كما في التحرير ـ قيد الصوت الممدود المرجَّع المطرب ، والشهيد الثاني & في الروضة ، يحتمل أو يبدي أو يبني أن مطلق ترجيع الصوت ومده ، والمهم في كلمات الاعلام اذا تتبع الباحث سيلاحظ أن البعض جعل موضوع الحرمة مطلق مد الصوت وترجيعه ، والمراد من الترجيع ايقاعات صوتية متتابعة وطبقات متعددة للصوت يصعد وينزل وهكذا.

جماعة نادرة من الاعلام ـ كالفيض الكاشاني واستاذه السيد ماجد البحراني [1] في رسالة له ـ يذهب الى أن كيفية الصوت المطربة ليست هي الغناء المحرم ، بل المحرم منه ما كان مضمونه باطلاً ، فالغناء المحرم من الغناء حصة أخرى هي المضمون الباطل ، وليس مطلق ما يصدق عليه الغناء، وقد مر أن الغناء في اللغة يستعمل في ثلاثة معاني أو موارد : ( غنى بصوته ، وغنى بالقصب ) أي بالآلات الموسيقية ( وغنى بالكلام ) والاخير ناظر فقط الى المضمون كما يشير اليه الآية﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[2] وقد تقدم أن الغناء وضع في الاصل للمضمون كالشعر ، والكيفية هي شيء مناسب وملازم لذلك المضمون ، مثل إطلاق اسم الملازم على الملازم الاخر ، وفي باب المجاز او التوسع في المعنى الحقيقي يبدأ من مجاز ثم يتحول الى الحقيقة فالمعنى السابق حقيقي والمعنى الجديد حقيقي أيضاولكنه بدأ من إطلاق السبب على المسبب ، او المسبب على السبب وتلقائيا صارت مثلا أسماء العقود ـ كالاجارة والبيع والهبة ـ أصبحت معنى حقيقي له معنين : معنى المسبب ـ من مقولة المعنى ـ تمليك عين بمال وأيضا يطلق على الايجاب والقبول ، فالبيع والهبة والاجارة والوكالة وأسماء العقود الأخرى هل هي اسم لماهية المعاملة المعنوية أي من عالم المعنى فلها جنس وفصل ، أو هي أسم لإيجاب والقبول أو كليهما ؟

لاحظ كيف هذه النكتة مهمة وهي التركيز على التحليل فالاجتهاد من دون تحليل لا شيء وهباء فالنكاح اسم للسبب او المسبب او الاعم ؟ للأعم ، فهو في الأصل أسم للوطيء فهو اسم لأثر المسبب ، او لمسبب المسبب فهو أسم للسبب أي للأيجاب والقبول ، وللمسبب أي ماهية النكاح ، ولمسبب المسبب وهو الأثر الوطيء الحلال .

فالنكاح في الأصل والبداية اسم ليس للأيجاب والقبول ، ولا لماهية النكاح بل اسم لعمل خارجي وهو الوطئ سواء نكاح محرم او محلل ، فالنكاح اسم لثلاث معاني .

وهذا المطلب وهو تحليل ان اسم النكاح اسم لأي شيء هو دليل التحريم الابدي لمن زنى بذات بعل .

فكيف يقال لا نحتاج للتحليل .

ان الدليل على الحرمة الأبدية لمن زنى بذات بعل هو من نفس لفظة النكاح كيف ؟ فان الأدلة وردت في أن ( من نكح ذات بعل حرمت عليه مؤبداً ) فمن قال ان النكاح فقط هو الايجاب والقبول ، أو انه فقط ماهية ، بل هي بمعنى وطئ وقد أشار ثلاثة عشر فقيها الى ذلك في كتبهم ويأتي متأخروا الاعصار ويقولون لا دليل على الحرمة الأبدية نتيجة عدم التأني والتدبر بينما أشار الى ذلك القطب الراوندي في فقه القرآن وابن براج في المهذب وغيرهما وتتبع كتب القدماء له هذا الأثر .

وكذا ورد ( من نكح إمرءة في عدتها ) سواء زنى بذات بعل ليست في العدة بل في عصمة بعلها أو زنى بذات بعل في عدة رجعية ، أو نكح امرأة في عدتها ، فان معنى ( نكح ) ليس هو الايجاب والقبول فقط ومن قال انه بمعنى المسبب بل هو أعم من الوطيء بالإيجاب والقبول والعقد ام لا ، نعم قلنا ان النكاح اسم للسبب لكن لا يعني أنه منقول أي يهجر المعنى السابق ويخصص للمعنى الجديد بل هو توسع في المعنى ، ليس منقول ولا مرتجل ولو مشترك لفظي ، وهو ليس مشترك لفظي .

اذن التوسع في استعمال المعاني هذا ادلته ، فان هناك ادلة متظافرة في أن ( من نكح ذات بعل حرمت عليه مؤبدا ) والزاني يصدق عليه نكح ووطئ ، فان معنى نكح وطئ ، او عقد ، فان هذا توسع والاصل هو الوطيء .

انما ذكرت هذا المثال لنكتة مهمة جداً في باب تحليل المعنى اللغوي والادبي للألفاظ فتارة يكون اللفظ موضوع للمسبب شيئا فشيئا يطلق على السبب الى يتحول السبب والمسبب معنى حقيقي للفظ ، وتارة هو موضوع لمسبب المسبب كالنكاح والوطئ ولكنه يطلق على المسبب المعنوي ويطلق على السبب أي الايجاب والقبول والنكاح غير مقيد بالسبب المحلل بل يشمل الوطئ المحرم أيضا ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾[3] أي يحرم عليك النكاح أي الايجاب والقبول أو عقد النكاح أو الوطئ حتى بوطئ اليمين اذا كان الاب قد نكح إمرءة حتى لو كان وطئها شبهة حتى لو زنى الاب بإمرءة حرم على أولاده وطئها فكما هنا لم تقيد لفظة النكاح كذلك في ( من نكح ذات بعل حرمت عليه مؤبداً ) لا تقيد لفظة النكاح بالوطء الحلال او الحرام فالألفاظ تتوسع .

وهنا في البين المحققين من علماء الفنون ـ وليس بالضرورة من العلوم اللغوية ـ قالوا ان الشعر في الاصل ـ في كل اللغات ـ وضع للمعنى التخيلي وبسبب استعمال العرب للشعر في الاعم من المعنى التخيلي والاوزان الخاصة توسع في معنى الشعر فصار الشعر اما بلحاظ المضمون او بلحاظ الاوزان وهكذا في الغناء والرثاء ، وإلا ففي الأصل الغناء بحث المضمون اللهوي المطرب .

فهذا المعنى معنى ًحق يناسبه صوت معين ومعنىً باطل يناسبه صوت معين آخر ، والان علماء الطبيعة يقولون ان الجسم ـ او أي شيءوليس خاص بالجسم ـ له عشرة او خمسة عشر بعًد وليس فقط طول وعرض وعمق ، يعني الشيء او الجسم المعين يناسبه صوت معين وحرارة معينة واشعاع معين وموج ضوئي معين وهلم جرا ، والصوت هكذا ، فكل معنى حق او باطل او مباح له نغمة موسيقية تناسبه، فكل مقام له مقال مضمونا ، فالميوعة لها نغمة صوتية معينة وللوقار صوتية معينة ، وكذا الحرص والسخاء كخلق له نغمة صوتية معينة فالمضمون الحماسي لا يناسبه الكيفية الصوتية التي تفيد للتغزل ، والتغزل لا يناسبه الكيفية الحماسية وهكذا،

ولعل هذا أحد معاني ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾[4] أي من نفس النغمة الصوتية يلتفت الى

كيفية أخلاقية لأن لكل حالة معينة لها وقع صوتي معين ، فالمطيع والمتهجد بالليل له نغمة صوتية معينة والعاصي له نغمة صوتية معينة ، اذا كان هذا الحال فالغناء هو بلحاظ الكلام الباطل ولكنه يلزمه كيفية صوت معينة فاستعمل الغناء توسعا الذ هو في المعنى في الكيفية الصوتية .

السيد ماجد البحراني والكاشاني يستدلون بثلاثة شواهد على ان المحرم ليس كيفية الصوت وإنما المضمون :

مقدمة : الغناء تبين أنه مشترك لفظي فلابد أن يستعمل في معنى واحد ، ولا يستعمل في اكثر من معنى ، ولابد أن نشخص أنه استعمل في المضمون الباطل او في كيفية الصوت ، ولذا لديه مع الفيض الكاشاني شواهد أن الغناء لم يستعمل في كيفية الصوت بل في المضمون الباطل ، ولا يمكن للأدلة ان تحتمل تحريم كلا المعنيين لأنه لابد أن يكون استعمال للفظ في معنى واحد ، لأن علماء تلك الاعصار كانوا يقولون باستحالة استعمال لفظ في أكثر من معنى بخلاف العلماء المتأخرين فانهم يجوزون ذلك في استعمال واحد أيضا خلافا لصاحب الكفاية ، ولكن السيد الخوئي يُصر على جوازه ووقوعه وهو الصحيح .

فالسيد وتلميذه يأتي بشواهد على انه استعمل في المضمون الباطل لا في كيفية الصوت

الشاهد الأول: الاستشهاد على حرمته في الروايات بلهو الحديث ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والحديث ما يرتبط بالمضمون فالمحرم من الغناء ما كان بلحاظ المضمون .

الشاهد الثاني: أمرنا بتحسين الصوت في القرآن وتحسينه لا يتم الا بكيفية الصوت وحتى ورد في الروايات ( من طرقنا وطرقهم ) الترجيع ، كما سيأتي، وليس مطلق الترجيع حراماً وإن صدق عليه الغناء وهذه قرينة ان الحرمة بلحاظ المضمون .

الشاهد الثالث: نفس الروايات التي تذكر في الجارية المغنية ( ليست بالتي يدخل عليها الرجال )[5] ،

وايضا ما ورد أنها ـ أي الجارية المغنية ـ تذكرك بالأخرة .

وهذا يعني ان المغنية في البيت التي تقرأ الدعاء او تذكره الاخرة لا مانع في صوتها لسيدها او الزوجة لزوجها فالرواية واضحة في كون كيفية الصوت في نفسها ليست باطلة مادامت تذكر بالاخرة ولا يدخل عليها الرجال .

 


[1] مدفون في مزار شاه جراغ في ايران.
[2] سورة اللقمان، الآية 6.
[3] سورة النساء، الآية 22.
[4] سورة الحجر، الآية 75.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص121، أبواب ما يكتسب به، باب15، ح3، ط آل البيت.. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ × أَجْرُ الْمُغَنِّيَةِ الَّتِي تَزُفُّ الْعَرَائِسَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَ لَيْسَتْ بِالَّتِي يَدْخُلُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ