الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/03/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء وأخواته الدرس (22)

كان الكلام في استعراض روايات الباب 101 الذي عنونه صاحب الوسائل ( بَابُ تَحْرِيمِ سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَ الْمَلَاهِي‌ )

الرواية الرابعة : معتبرة

وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ × أَنَّى كُنْتَ ؟ أي أين كنت ؟

فَظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الْمَوْضِعَ ، فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي كُنْتُ مَرَرْتُ بِفُلَانٍ فَدَخَلْتُ إِلَى دَارِهِ وَ نَظَرْتُ إِلَى جَوَارِيهِ ، فَقَالَ ذَاكَ مَجْلِسٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى أَهْلِهِ ، أَمِنْتَ اللَّهَ عَلَى أَهْلِكَ وَ مَالِكَ .[1]

بتقريب : أن قوله × ( فَقَالَ ذَاكَ مَجْلِسٌ ) أي مجلس أهل اللهو والباطل والمجون ومعنى لا ينظر أي أنه مجلس معاصي ، تنقطع عنه رحمة الله وهو كناية عن المعصية .

قوله × (أَمِنْتَ اللَّهَ عَلَى أَهْلِكَ وَ مَالِكَ) أي أأمنت الله على أهلك .. وهذا يدل الحرمة من الكبائر لكون العقوبة عاجلة ، وهذا يدل على أن إستماع الغناء من الكبائر ، فليس فقط ما تُوعِد عليه بالنار هو من الكبائر بل ما يستلزم العقوبة العاجلة في الدنيا أيضا من الكبائر بل من الكبائر التي يُعجَّل الله عليه العقوبة .

والرواية وإن لم تذكر أنه كان مجلس غناء إلا انه واضح من خلال القرائن وقد ورد في بعض الروايات

التصريح بذلك .[2]

الرواية الخامسة : فيها من لم يوثق

وَعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَرْمَنِيِّ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ

يَقْطِينٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ × ( الجواد ) قَالَ : مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ.[3]

الاصغاء هو الاستماع بتركيز وهو يوجب تأثّر المستمع من المتكلم ، ولذلك عطف عليه ( فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ ) ولذا صوت القرآن في البيت مع الاصغاء اليه مؤثر على الروح كحرز من كثير من الأمور سواء الأمور الروحية أو فتح الارزاق والبركات .

وأما الكلام الباطل مضموناً او صوتاً ، فالكلام الباطل لا يقل خطراً عن الغناء ، لذلك المجلس الذي ينتقص فيه من أهل البيت ^ لا يؤمن فيه نزول اللعنة والعقوبة .

هذا بالنسبة الى أصل الغناء أوالاستماع أو تعليمه أو زوايا عديدة فيه .

وقبل أن ندخل في استثناءات الغناء أثير عند الاعلام هذا المطلب وهو :

بعض اللغويين عرفوا الغناء ـ كيفية او مضموناً ـ وهناك من أصرَّ من الاعلام الامامية وهو قليل نادر وهناك خلافين بقيا في بحث الغناء :

الخلاف الأول : هل الغناء مطلق ترجيع الصوت ، أو أنَّ المحرم هو الترجيع مع قيد الاطراب أي الخفة والنشوة والهيجان وعدم الوقار وكأنما هناك نازع ينزع به الى الرقص ، فالثاني لا شك في كونه غناء ، وأما الأول أي الترجيع بلا طرب فهل يسمى غناء أو لا وعلى فرض كونه غناء هل هو محرم أو لا ؟ وقع خلاف في ذلك فظاهر الشهيد الثاني في الروضة او المسالك ان الغناء مطلق الترجيع ، فكيف يمكن ألالتزام بأن مطلق الصوت غناء ومحرم ، وكيف يُميَّز بينه وبين تحسين الصوت ومده في قراءة القرآن او أي شيء راجح فمدُ الصوت لابد منه لأفصاح التهجي بالحروف مثلا أو في حسن الصوت ؟

البعض قال أن الغناء يصدق مع المد والترجيع ولكنه ليس بمحرم فموضوعاً هو غناء ولكنه ليس محرم حكماً ، وعلى هذا التفسير يريد البعض أن يقول ـ ما ورد من ( التغني بالغناء ) عن النبي ’ : تغنَّوا بالقرآن فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا [4] ـ أن الغناء مطلق مد الصوت ، ولكن المحرم بما هو لهو مجوني لا مطلق مد الصوت ، وبالتالي هل كله يحرم أو لا ؟ وماذا لو لم يكن فيه طرب ؟ وهل يجب أن يكون الطرب في الغناء من أوله الى آخره أو يكون في الجملة فيه في أوله أو وسطه أو آخره لكن بالتالي هل كله يحرم او خصوص المقطع المشتمل على الطرب ؟ وماذا اذا لم يكن فيه طرب بل كان فيه مد وترجيع ورفع للصوت ؟ فصار هذا مثار بحث معقَّد بين الاعلام ولا شك في حرمة المطرب ، ولذا قال البعض ان الصوت اذا كان مطرب فهو حرام وان لم يسمى غناء .

ان جملة من قراءات القران أو الرثاء فيها نغمات صوتية وان سمي غناء ما هو حكمه فهل هو حرام ؟

هذا خلاف موجود عند الاعلام وأكثر الاعلام قيدوا الحرمة بما اذا كان مطربا ولو في الجملة بلحاظ بعض أبعاضه ، واما اذا لم يكن فيه إطراب وخفة ورقص أي لا يهيج السامع لذلك وإن كان فيه إختلاف في مد ورفع الصوت كما في الرثاء أو الندبة او قراءة القران حتى لو قيل عنه أنه غناء إلا أنه ليس بمحرم فهذا فيه خلاف ولا يمكن دعوى أن الكل قال بحرمة الغناء مطلقاً وان لم يكن فيه مجون أي ليس مطرب وان قيل عنه أنه مقام غنائي صوتي فالكثير من الاعلام لم يقل بحرمته وعلى الأقل نقول في المسألة قولين والقول الاخر ليس شاذ .

نعم لو كان المضمون باطلا تخيلياً مجونيا ً لقيل ببطلانه وحرمته لأن الإطراب سيقع من جهة المضمون بمساعدة كيفية الصوت شيئا ما ، فالإطراب إما يحصل من الإيقاع الموسيقي ، كما مر بنا ـ أو يكون الإيقاع بنفسه لا يُحدث منه نزوة كالطفرة والهيجان غرائزي نزوي فهذا الهو مجوني ولكن مضمونه محفز نحو المجون فهنا الغناء يكون محرم لأن الطرب آتٍ من المضمون بمساعدة كيفية الصوت حينئذٍ هذه كيفية الصوت لو استخدمت في قراءة القران ـ المضمون حق ـ لم توجب الاطراب المجون ، وإن كان البعض لا يقبل ذلك لأن الحديث النبوي ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ’ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِأَلْحَانِ الْعَرَبِ وَ أَصْوَاتِهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ لُحُونَ أَهْلِ الْفِسْقِ وَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُ سَيَجِي‌ءُ مِنْ بَعْدِي أَقْوَامٌ يُرَجِّعُونَ الْقُرْآنَ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَ النَّوْحِ وَ الرَّهْبَانِيَّةِ لَا يَجُوزُ تَرَاقِيَهُمْ‌ قُلُوبُهُمْ مَقْلُوبَةٌ وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُ شَأْنُهُمْ )[5] وستة عناوين نهى النبي عنها في قراءة القران كما تقدم ، فالألحان اذا استخدمها أهل الفسوق ولو في موارد المضمون الباطل لا يجوز استخدامها في المضمون الحق ، ولكن هذا المقدار لا يمكن الالتزام به .

وبعبارة أخرى : ان اللحن في نفسه فيه مد وترجيع ولكن هذا اللحن بنفسه لا يوجب إثارة مجونية كالخفة والرقص ولكن إذا انظم اليه مضمون تخيلي شهواني نزوي كان موجبا للخفة والطرب فهل هذا المقدار يوجب كون اللحن من ألحان أهل الباطل ؟ طبعا هو يناسب الشهوة ولكنه بنفسه لا يوجب الاثارة المجونية فهذا اللحن استخدم في الرثاء وقراءة القران والدعاء والخطب الهادفة فانه بنفسه لا يوجب المجون ، نعم قد يكون مكروه لأنه استخدمه أهل الباطل ، فهذا بحث آخر ولكن هل هذا هو الغناء المحرَّم .

اذن الغناء اللغوي وسيع وهو غير الغناء العرفي ، والغناء العرفي أيضا أذا كان مطربا وفيه لهو مجوني فبلا شك هو حرام سواء بسبب المضمون مع اللحن ، فعندما يلتزم بكون هذا اللحن حرام لا يعني أن هذا اللحن في نفسه ولو مع مضمون حق يكون حراماً ، لأن جهة الحرمة هي المضمون وكما مر بنا أن الغناء في الأصل ناشئ من المضمون ثم وسع الى الوزن والنغمات ، كما في الشعر فانه كان من جهة المضمون ثم وُسِع عند العرب الى الوزن والنغمات .

مثل الشخص الذي لديه صوت جميل حسن ولكن يمكن أن يستخدمه في الكلام الباطل المجوني فهذا حرام وهذا لا يعني أنَّ حنجرته الذهبية حرام بل استخدمه في الحرام فكان حرام ويمكن أن يستخدمه في الحلال فيكون حلالا ، وكالفصاحة والبلاغة يمكن أن يستخدمهما الانسان في الكلام الباطل وهو الغناء والغزل الشهواني المجوني ويمكن أن يستخدمها في الحلال كالدعاء والخطب والحكمة فهذا لا يدل على كون البلاغة في نفسها حرام ، ومثلا تركيبة بلاغية استخدمها أهل الفسوق فهذا لا يدل على كون هذه التركيبة محرمة بل استخدامها في الحرام فقط حرام فاذا استخدمت في الحلال فحلال لأن التركيبة البلاغية ليست باطل بل تركيبة بلاغية والمضمون اذا صار باطلاً فباطل .

فالصحيح من هذين القولين هو هذا القول وهو أن مطلق الترجيع او مد الصوت او رفعه ليس غناء وليس هو موضوع الحرمة وإن سُمي في اللغة في التوسع او عرفي غناء .

وبعبارة أخرى : الاطراب الشهواني المجوني هو الحرام واما تحسين الصوت وايقاعاته اذا كانت في نفسها لا توجب الخفة ولا الرقص ولا الهيجان ولا سلب الوقار فليست بحرام ، لذلك النبي والائمة ^ قال لا ترفع الصوت أكثر لأنه قد يكون رفع الصوت ـ فان أهل المجون يرفعون الصوت بشكل هستيري لأن ذلك يساعد على كون الصوت مجوني فنفس الصوت الحسن اذا ترفعه بشكل شديد يهيج الطرف

الاخر .

اذن ان الصوت الحسن ومده وترجيعه ورفعه هذه قد توجب تسميته غناء لوجود الترنيم والالحان فيه ولكن ليس كل ترنيم ولحن وتحسين للحن غناء محرم وان سمي غناء لغة أو عرفا بل المحرم هو الغناء المجوني المطرب سواء بسبب شدة علو الصوت أو كثرة الايقاعات الهندسية فيه أو المضمون الباطل فهنا يصبح الغناء حرام واما اذا خلي من الاطراب في الجملة لا من جهة رفع الصوت ولا من جهة مد الصوت وترجيعه ولا من جهات المضمون فهو وان كان فيه ترجيع ولكنه ليس نزوي مهيج بل محسن وملمع للصوت وهذا المقدار وان اطلق عليه غناء عرفا او لغة ليس محرم وان كان التجنب عنه أفضل .

وهناك خلاف من جهات أخرى ثم نتعرض لأستثناءات الغناء منها ( الحداء والغناء في الاعراس ومنها ما ذهب اليه جماعة الغناء في الرثاء الحسيني والدعاء ولعلنا نقدم الاستثناء الثلاث لوجود صلة بالبحث فيه.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص317، أبواب ما يكتسب به، باب101، ح4، ط آل البيت.
[2] دعائم الإسلام‌، القاضي النعمان المغربي، ج2، ص208.. 208 عن الامام الصادق × َ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْنَ كُنْتَ أَمْسِ قَالَ الرَّجُلُ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ مَرَرْتُ بِفُلَانٍ فَتَعَلَّقَ بِي وَ أَدْخَلَنِي دَارَهُ وَ أَخْرَجَ إِلَيَّ جَارِيَةً لَهُ فَغَنَّتْ فَقَالَ أَمِنْتَ اللَّهَ عَلَى أَهْلِكَ وَ مَالِكَ إِنَّ هَذَا مَجْلِسٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِهِ‌
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص317، أبواب ما يكتسب به، باب101، ح5، ط آل البيت.
[4] أخرجه العلامة النوري في المستدرك عن جامع الاخبار و معاني الأخبار للصدوق و الغرر و الدرر للسيد المرتضى راجع ج1، 295.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج6، ص210، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب24، ح1، ط آل البيت.