الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/03/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء واخواته الدرس ( 13)

مر بنا أن هناك جملة من الأبواب الروائية التي عقدها صاحب الوسائل حول حرمة الغناء وهي تغاير حرمة شراء المغنية ، وتغاير حرمة استئجارها إلا ان صاحب الوسائل يستفيد من حرمة استئجار المغنية حرمة الغناء بتقريب قد مر بيانه .

واما الروايات التي تدل بالمطابقة على حرمة الغناء فهي في الباب 99 من أبواب ما يكتسب به من الوسائل .

وقد عقد باب 15 حرمة استئجار المغنية ، وب 16 حرمة بيع المغنية ، وب 17 جواز كسب النائحة بالحق لا بالباطل ، وحسب فتوى صاحب الوسائل فالعناوين كتاب الوسائل عبارة عن فتاوى لصاحب الوسائل ، وهو بالتالي استنباط واجتهاد ـ وان انكر هو كونها اجتهاد ـ وفصَّل صاحب الوسائل بين اطوار النياحة بحسب المضمون ـ وكذا جملة من الفقهاء ـ لا بلحاظ كيفية الصوت فاذا كان المضمون باطلاً ـ كالعناد على فعل الله او السخط على فعله ومن هذا القبيل أمور أخرى ـ فهي حرام ، واما اذا كان بالحق فعلى كلام صاحب الوسائل لا يفصل في الرثاء الحسيني في كيفية الصوت [1] .

وقفة صناعية دقيقة :

حسب بيانات الروايات بعض النغمات ذاتاً هي للفرح ، وبعض النغمات هي ذاتاً للحزن ، فالناي في الروايات صوت للحزن ومحرم طبعاً ، واما صوت الدف او العود فغالباً ما يُستخدم للفرح والاثارة وربط هذا ببحثنا هو : ان بعض الاطوار هي للحزن وان استخدُمت في مجالس الفسوق ( ولذلك عندنا في الروايات ان موسيقى الجنة غير موسيقى الأرض ، فموسيقى الجنة ليس فيها مجون أي لا تثير الشهوات والغرائز ربما تناسب العقول ونور القلوب وهذا شبيه بما ورد من ان صوت الامام المجتبى × والامام السجاد × صوت خاص في قراءة القرآن يُـثير القوة القلبية ) [2] وبعض الاطوار ذاتيها الفرح وان استخدمت في الرثاء ، وهذا بحث موضوعي دقي يجب الانتباه اليه لأنه يجب تحديد الموضوع فعندما نبحث في الغناء فهل المراد اللحن المطرب طرب فرح وان استخدم في القرآن او الرثاء الحسيني لذلك المعروف عن الفقهاء ـ الا القليل ـ ان استخدام الآلات الموسيقية في الرثاء الحسيني لا يجوز . فالفقهاء نقحوا أن موضوع الحرمة له عمومية ففي الآلات الموسيقية سواء تفيد الحزن او الفرح الأدلة

الدالة على حرمة الآلات الموسيقية ( وهي في الباب 100 ) لا يُفرَّق فيها بين كون الموضوع ندبة ونياحة او مرح وفرح وبطر ، فلا استثناء للآلات الموسيقية إلا في الدف في الاعراس .

وبعض الاعلام ـ على أقل تقدير ثلاثة منهم ـ ذكروا ان استخدام الآلات الموسيقية في الحروب او في الإنذار هي كيفية ليست عزف بل مفادها تعبئة لعدم وجود الايقاعات فيها ، وهو ليس استخدام لهوي ولا يقال له عرفا عزف ، فالعزف عبارة عن إيقاعات متقطعة منظمة.

من العناوين مر بنا ان النبي ’ نهى عن أربعة عناوين في قراءة القرآن وهي ( التغني ، والتزمير ، اللحان أهل الفسوق ، النوح ) والطور العراقي في قراءة القرآن الذي يمارسه المؤمنون يمارسونه بشكل خفيف ، ( عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ × قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِالْحُزْنِ فَاقْرَءُوهُ بِالْحُزْنِ )[3] كصوت وطور الشيخ عبد الزهراء الكعبي في قراءة المقتل، فليس فيه تركيز على النياحة ، واما المذاهب الأخرى يغلظ في النياحة فيشد الناس الى الوقع الصوتي ويحجبهم عن معاني القرآن النيرة وكذا قرّاء بعض الدول الإسلامية المعروفة في قراءة القرآن فبعضهم يُفرِّط في الصوت ، والنبي نهى عن ذلك وفي قراءة الامامين الحسن المجتبى والسجاد ‘ يشد الناس الى المعنى .

مثال : ورد عن أهل البيت ^ ( قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ × أَعْرِبُوا حَدِيثَنَا فَإِنَّا قَوْمٌ فُصَحَاءُ)[4] [5] أي ان كلامهم له دلالات معاني دقيقة من دون الالتفات الى الفاعل والفعل والمفعول والصفة المشبهة والاعراب لا تلتفت الى دقائق معاني كلامهم ، وهم عليهم السلام قد ذموا التعمق في النحو ، وذلك لأنه اذا تدقق عليها بشكل مفرط تُضيّع المعاني العقلية والقانونية والعلوم الأخرى في علوم أهل البيت ، فالشيء في نفسه احياناً مطلوب ولكن الايغال فيه والافراط فيه يكون عائق ومانع لا وسيلة .

وعنوان خامس : نهى النبي عن قراءة القرآن بها ( لا قرؤوا القرآن بالرهبانية ) قال جملة من اللغويين ان نقرء القرآن كأنه أناشيد فمجموعة واحد تقرأ القرآن ، ولقرآن يجب أن يقرأ بشكل وقور يُرَّكز فيه على المعنى يقول تعالى ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا﴾[6] لم يركز أمير المؤمنين × في الرواية الاتية على الصوت بما هو صوت بل ان تفصح بالتهجي بحيث يفهم المعنى ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ × عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ﴿وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ ؟

قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ × بَيِّنْهُ تِبْيَاناً وَلَا تَهُذَّهُ هَذَّ الشِّعْرِ ، وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرَ الرَّمْلِ ، وَلَكِنْ أَفْزِعُوا قُلُوبَكُمُ الْقَاسِيَةَ ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ.[7] والقلب يُقرَع بالمعاني .

والان نسخ ترتيل وتجويد القرآن عن معناه مع أننا أمرنا بجويد القرآن وترتيله ولكن بأي معنى ؟ بمعنى شد القلوب والأفكار الى معنى ولا يلتبس على السامع كلمة مع كلمة ، ومعروف عن سيد الأنبياء ’ أنه كان في كل خطبه وكلماته أنه يتكلم كل كلمة كلمة ببطئ لكي يستبين السامع الكلمات ، عندنا في الاذان يستحب مد الكلمة ، وفي الإقامة يستحب الانحدار ، والانحدار في القران الذي يمارسه الوهابية مكروه جدا جداً لأنه يُعمي معاني القرآن ، والترتيل هدفه الإفصاح عن الكلمات ببطئ لا إشغال السامع بإيقاعات صوتية أو أناشيد رهبانية لأن هذه الأمور كلها تحجب السامعين عن التدبر في معاني القرآن وهو الهدف منه ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[8] .

وكثير من محاججات أهل البيت × مع علماء الطرف الاخر كان يحتج عليهم ببعض آيات فيقولون لم نسمعها فيقول بل سمعتموها ولكن لم تعقلوها ( ذكروا أن أبا حنيفة أكل طعاما مع الامام الصادق جعفر بن محمد عليهما الصلاة والسلام فلما رفع الصادق (عليه السلام) يده من أكله قال: الحمد لله رب العالمين، اللهم هذا منك ومن رسولك (صلى الله عليه وآله)، فقال أبو حنيفة: يا أبا عبد الله أجعلت مع الله شريكا ؟ !

فقال (عليه السلام) له: ويلك إن الله تبارك يقول في كتابه : ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾[9] ويقول عزوجل في موضع آخر: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾[10]

فقال أبو حنيفة: والله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : بلى قد قرأتهما وسمعتهما ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك: (أم على قلوب أقفالها) وقال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)[11]

اذن ست عناوين حاجبة عن التدبر في القرآن الكريم والمفروض مراكز التجويد تتوسع في هذه العناوين

الستة المنهي عنها سواء في كلمات اللغويين او الفقهاء او المفسرين وتتجنب الوقوع فيها ، لأنها حاجبة عن معاني القرآن وكما يقول الامام الصادق × ( أَقَامُوا حُرُوفَهُ وَ حَرَّفُوا حُدُودَهُ )[12]

نرجع الى الكلام عن النوح :

بعض الالحان الموسيقية ذاتها الحزن ، وان استخدمها أهل مجالس الدعارة والفسوف في الفرح ، وبعض الاوتار الموسيقية ذاتها الفرح ، ونركز على ذلك لأنه نريد من ذلك ان نعرف ان النياحة والغناء كلاهما كيفية صوت ومضمون ، ولكن في الغناء كيفية صوت توجب الفرح ، وفي النياحة كيفية صوت توجب الحزن ، وإذا إتضح ذلك نقول ان جملة من العلماء ـ كصاحب الوسائل وغيره ـ فصلوا في حكم النياحة بان المضمون ان كان حق فتحل النياحة مطلقا ، وإذا كان مضمون النوح باطل فيحرم ، ومقتضى هذه الفتوى انه ان لم تستخدم كيفية غناء مطرب مفرح في الرثاء ، والمضمون كان حقاً فالنياحة مكروهة او مباحة ، وليست حرام ، نعم يمكن ان يجمع في كلماتهم انهم حيث حرموا الآلات الموسيقية مطلقا حتى التي توجب الحزن فيجب أن لا يكون صوت الراثي كصوت بعض الآلات الموسيقية في الحزن .

وذلك بناءا على ما مر بنا من ان الجانب المشترك بين الآلات الموسيقية وصوت الانسان هو كيفية الصوت النغمي والترنيم ولذلك يقال في اللغة العربية غنى بالقصب أي أصدر كيفية الصوت .

من مجموع فتاوى الاعلام يمكن ان نستحصل النتيجة : بان النياحة في كيفية الصوت مطلقا جائزة الا اذا كان المضمون باطل ، أو استخدم كيفية صوت مطرب فرحي ، او استخدم كيفية صوت محزن بنفس الهيئة الصادرة من آلة موسيقية مثلا والباقي كله جائز .

 


[1] فبحث الاطوار في الشعائر الحسينية عند الرواديد والخطباء هذا موضعه.
[2] والان في العلوم الحديثة لكل شي نغمة موسيقية مناسبة له فالمخ والتفكير وهكذا ..وأما هذه الموجودة الان ـ المعازف ـ فكلها تناسب النزوات والغرائز.
[3] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج2، ص614.
[4] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج1، ص52.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج27، ص83، أبواب كتاب القضاء، باب8، ح25، ط آل البيت.
[6] سورة المزمل، الآية 4.
[7] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج2، ص614.
[8] سورة المحمد، الآية 24.
[9] سورة التوبة، الآية 74.
[10] سورة التوبة، الآية 59.
[11] بحار الأنوار / جزء 10 / صفحة[ 216 ].
[12] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج8، ص53.