الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/03/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء واخواته الدرس ( 12)

في البداية نستعرض الباب 15 من أبواب ما يكتسب به ( بَابُ تَحْرِيمِ كَسْبِ الْمُغَنِّيَةِ إِلَّا لِزَفِّ الْعَرَائِسِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا الرِّجَالُ‌ )

وهذه الطائفة من الروايات استدل بها الاعلام لمسألتين :

المسألة الأولى : اصل حرمة الغناء

والمسألة الثانية : إستثناء غناء المغنية في الاعراس من الحرمة فتثبت الحلية .

وكلامنا في المسألة الأولى وهي أصل حرمة الغناء وهذا أمر من أوليات باب المعاملات كما مر بنا في جملة من المسائل في المكاسب المحرمة من المسائل السابقة كالمنفعة المحرمة لا مالية لها عند الشارع وقد يكون عدم مالية الشيء لعدم منفعته وقد يكون له منفعة ولكن لأنها محرمة فالشارع يعدم ماليته وان كانت ماليته العرفية مقررة .

والعرف على أقسام : العرف القانوني اذا كان مطابق للشرع أيضا يعدم تلك المالية ، والعرف غير القانوني ومبحث العرف مبحث مهم لأن له منظومة قوانين عرف الرسمي للدولة وعرف المجتمع الشعبي من باب المثالث عندما تعجرف المقنن الوضعي الغربي في قوانين الزواج ، العرف الشعبي المجتمعي عندهم تمرد على قانون الزواج في الكنيسة لأنه لا يحق للرجل الزواج بأكثر من زوجة ، وزيادة على ذلك ان هذه المراءة لا تطلق عن الزوج أبد الابدين ، وهذا القانون الكنيسي ـ الذي هو من تحريف القساوسة ـ تمرَّد عليه القانون الوضعي الغربي وقال بوجود الطلاق ، ولكنه ابقى الزواج من واحدة فقط ، وأضاف عليه المقنن الغربي انه مع الطلاق تأخذ الزوجة نصف رأس مال وثروة الزوج لا نصف المهر ، فأوجد العرف الغير متقيد بالكنيسة ولا بالقانون الوضعي أوجد زواج عرفي آخر ، أسماه ( الصداقة ) وكثير من الدوائر الغربية الحكومية رأت نفسها تمشي في وادي ومجتمعها يمشي في وادٍ آخر ، فبالتالي المجتمع صار في مسار آخر ومن خصائص سيد الأنبياء انه يطلق سراح المجتمعات البشرية من العادات التي تكبل المجتمع .

﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾[1] فأوجد العرف عندهم زواج ثالث سهل وخفيف المؤونة بأن يتواصلان المعيشة الزوجية بتراضيهما ويتفرقان بتراضيهما ، والنفقة بينهما مثلا واذا طلقت الزوجة لا تأخذ نصف تركة الزوج ، فساد في المجتمع هذا النوع من الزوج ولعله بنسبة 50 %

وهذا زواج عرفي لا رسمي ولا كنيسي ولذا لا يجوز للمسلم أن يتزوج من متزوجة بمثل هذا الزواج .

ففرض العرف على أنظمة الحكم ان تعترف بالنوع الثالث من الزواج فصار المقنن هو العرف لا جهاز الحكم .

وانما ذكرنا هذه الظاهرة لما مر بنا مراراً كيف نصوِّر عرف الشارع او المتشرعة ، العرف الوضعي الرسمي للأنظمة الوضعية ، والعرف الذي قد تسميه المنفلت وهو ليس منفلت في نفسه بل منفلت عن عصابات ومافيات الحكم وهو منضبط في نفسه بما هي مصالح عقلائية مقننَّة ، ذكرنا هذه الموارد المتعددة لأنه حتى بعض الاعلام في تصوير معنى تحريم الشارع للربا .

نعم توجد اعراف فاسدة كأعرافهم في الربا والقمار والدعارة والمخدرات ولكن ليس كل عرف منفلت عن أجهزة الحكم نصوره غير منضبط بل المنفلت عن النظام المتعجرف هو انضباط ، لأن هناك جدلية فهل ( العدل قانون ، او القانون عدل ) ؟ ، وحسب منطق الدين العدل هو الأساس لا القانون .

فليس كل انفلات انفلات بل الانفلات عن العصابات والمافيات انضباط شبيه كما بقوله عليه السلام: الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله [2] .

فالشارع لما يحرم الربا لا يريد ان يقول ان الربا لا وجود له معاملي في الاعراف بل يريد ان يقول ان العرف الذي يريد ان ينتسب وينتمي لي ـ انا المشرع السماوي ـ الربا غير مقرر ولا وجود له عندي .

ولما يقال ان المنفعة المحرمة لا مالية لها فذلك عند العرف المتشرعي او الشرعي لا عند العرف الفاسد اذن هناك اعراف مختلفة .

ان سُأِلتم : ما الفرق بين التقنين والقوانين والعرف والأعراف﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾[3] ان هذا ينفع في مباحث القانون والابواب الفقهية ومباحث الأصول .

اذن في هذا الباب الخامس عشر ( بَابُ تَحْرِيمِ كَسْبِ الْمُغَنِّيَةِ ...) فالغناء محرَّم وكسب المغنية صار حرام لأنه لما كان الغناء حرام فلا مالية له فلا يصح التعاوض عليه .

والنهي عن المعاملة هل يقتضي البطلان او لا ؟ هناك خلاف في ذلك وهو غير مبحث النهي عن العبادة وما الفرق بين (وحرم الربا ) وبين ( حرمة الغناء ) فكسب المغنية حرام ؟

وبعبارة أخرى : ذكر الاصوليون انَّ النهي تارة يتعلق بالمعاملة ( كحرمة الربا ) وأخرى المعاملة في نفسها محللة كالإجارة ، ولكنها ان وقعت على منفعة محرمة تصبح الاجارة باطلة ، فهنا النهي في الاجارة على منفعة محرمة كالدعارة ، والاستأجار على فعل حرام آخر كقتل نفس بريئة ، فالإجارة باطلة لأن النهي والحرمة تعلقت بنفس العوض في المعاملة ، ولم يتعلق النهي والحرمة بالمعاملة ، وذكروا في الأصول ان النهي اذا تعلق بالعوض فقطعا يسبب فساد المعاملة ، وإن كان هناك إختلاف في ان النهي عن المعاملة هل يقتضي الفساد او لا فهو فما اذا تعلق النهي والحرمة بذات المعاملة لا بعوض المعاملة وموضوعها فالعوضين بمثابة موضوعي المعاملة فالفساد متفق عليه والغناء فعل محرم لا مالية له فالإجارة على الغناء أيضا حرام أي الاجارة فاسدة والاجرة التي تأخذها حرام .

سؤال آخر : الأجرة التي تأخذها المغنية او الزانية فهل الحرمة من جهة فساد المعاملة ( الاجارة ) او هناك حرمة من جهة أخرى ؟

هناك ثلاث حرمات : حرمة وضعية بمعنى فساد الاجارة وهو واضح ، وحرمة تكليفية من جهة اخذ مال الغير ، وحرمة من جهة السحت وهي تكليفية ، شبيه في الربا ففيه ثلاث حرمات : حرمة فساد الربا وهي وضعية وحرمة تكليفية من جهة حرمة أخذ مال الغير ، وحرمة ثالثة تكليفية ان نفس نمط التعاطي مع الربا حرب مع الله ورسوله ، وبالتالي في كسب المغنية الاجارة فاسدة ، والأجرة حرام من باب فساد المعاملة ، لكونها مال الغير ، وحرمة ثالثة من كونها سحت .

اذن هذا الباب الذي ذكره صاحب الوسائل أي الباب الخامس عشر بعده باب 16 ( بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمُغَنِّيَةِ وَ شِرَائِهَا وَ سَمَاعِهَا وَ تَعْلِيمِهَا وَ جَوَازِ بَيْعِهَا وَ شِرَائِهَا لِمَنْ لَا يَأْمُرُهَا بِالْغِنَاءِ بَلْ يَمْنَعُهَا مِنْهُ‌ ).

فالباب الخامس عشر كان باب تحريم كسب المغنية كإجارة ، وهذا الباب السادس عشر باب تحريم بيع المغنية وهو غير اجارة المغنية ، ومر بنا في مباحث المكاسب المحرمة الأخرى ان مالية العين اذا كانت ناشئة من المنفعة المحرمة في العين فهذه المالية باطلة ولا يصح التعاوض عليها ، مثلا جهاز يستعمل للقمار غالبا ، ويستخدم لغير القمار ولكنه استخدام قليل ، فمالية هذا الجهاز نابعة من المنفعة الغالبة لا القليلة واذا كانت المنفعة الغالبة حرام فماليته تكون حرام .

مثلا منفعة الخمر المعروفة هي الشرب وله قيمة باهظه، ولكن له منافع محللة ولكنها ليست بتلك الخطورة والاهمية ، كإزالة شحوم المكائن المعدنية أو التعقيم ، فهذه المالية بهذا القدر السوقي المعروف مالية محرمة أي كالعدم عند الشارع فلا يصح البيع ، فمجيء النهي عن بيع المغنية أيضا هو دال على أن الغناء محرم بنفس النكتة لترابط هذه الحلقات المعاملية .

بل في هذا الباب السادس عشر سماع الغناء محرم ففي حرمة الغناء حرمتان حرمة الفاعل ، وحرمة المتلقي وحرمة ثالثة وهي حرمة تعليم الغناء .

نعم ان بيعت العين التي لها منفعة محرمة من أجل المنفعة المحللة أي بيعت بمالية المنفعة المحللة يكون ذلك البيع صحيحا ، فالعين التي لها منفعة محرمة بمالية باهظة ثمينة ان بيعت بمالية زهيدة أو متوسطة بلحاظ المنفعة المحللة كما لو اشترى الجارية المغنية لا لغنائها بل لخدمات البيت فقيمتها تكون متوسطة فاذا تم البيع والشراء بهذه المالية المتوسطة صح البيع لأن هذه المالية هي بلحاظ المنافع المحللة فتصح المعاملة ، كما لو استأجر مغنية لا للغناء وانما لتضيف البيت فالإجارة صحيحة لكون المنفعة محللة .

فهذه قاعدة في باب المعاملات : ان الاعيان التي لها منافع محرمة ان استأجرت لمنافعها المحللة فلا بأس بذلك ، وكذا اذا بيعت لمنافعها المحللة ، انما يحرم اجارتها او بيعها بلحاظ المنافع المحرمة .

هناك تضارب بين الباب 15 وب 16 و ب 99 كأنه تعارض نذكره في الجلسة القادمة بعونه عز وجل .

 


[1] سورة الاعراف، الآية 157.
[2] بحار الأنوار - ط دارالاحیاء التراث، العلامة المجلسي، ج72، ص97.
[3] سورة الاعراف، الآية 199.