الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

43/03/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حرمة الغناء واخواته الدرس ( 10)

مر بنا ان جملة من المسائل الفقهية والموضوعات في المسائل الفقهية ترد الأدلة في حكم تلك المسألة بألسن مختلفة وقواعد فقهية مختلفة لحكم واحد في مسألة واحدة كما مر بنا في الغيبة فالآيات والروايات الدالة على حرمتها تحرِّمها بعنوان وقواعد مختلفة قل بقواعد متعددة منها ان الغيبة نوع من إشاعة الفحشاء والرذائل ، ومنها انها إيذاء للمؤمن ، ومنها أنها كشف عورة المؤمن وهو حرام ، وهلم جرا ، فالغيبة مجمع لأحكام ومع ذلك جعل الشارع الحكم في الغيبة جعلا آخر .

واذا قلت : ان تلك الجعول يُستغنى بها عن جعل جديد في الغيبة ،

قلت : أنه مر بنا ان طبيعة القانون والتقنين تتعدد التقنينات طوليا ويتعدد عرضيا ، اما عرضيا مثل القوانين الدستورية كالباب الأول والثاني وهكذا او كتاب الطهارة والصلاة والصوم فهذه أبواب تقنينات في عرض بعضها البعض ان صح التعبير .

واما طولياً فالشارع يقول : ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾[1] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾[2]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[3] المهم ان الامر بإقامة العدل والقسط موجود وينظوي تحته العدل بين الزوجين ، والعدل بين المتعاقدين وبين الرعية في الحكم السياسي والعدل السياسي فهذه طبقات من وجوب العدل وهي طبقات طولية في وجوب العدل فلا يقول قائل مادام الشارع قد اوجب العدل فوجوب العدل بين الزوجين ليس مقنن ومجعول بل هو نفس ذاك الجعل فانه يجاب بأنه ليس نفسه نعم هو نفسه من جهة ان روحه وطبيعته الكلية نفسه ولكن هو ليس نفسه من جهة انه جعل آخر .

وبعبارة سهلة ان التقنين الدستوري لا يغني عن التقنين في المجالس النيابية ، مع ان التقنين في المجالس النيابية منطلق من التقنين في القوانين الدستورية ، وكذلك لا يغني التقينين النيابي عن التقنين الوزاري مع كون الوزاري منطلق من النيابي وسلسلة التنُّزل الطولي موجودة .

فالجعول الشرعية كما يتصور تعددها عرضا أيضا تتعدد طولا وهذا كثير في الأبواب الفقهية فحرمة الغيبة كشف الشارع عن مصادر تقنين حرمة الغيبة من أحكام فوقية قد جعلها مسبقاً ، كذلك الحال في حرمة الغناء فحسب الآيات والروايات الواردة في حرمة الغناء هي متنزلة من أحكام مسبة فوقية منها حرمة اللهو واللعب واللغو المجوني ، ومنها حرمة الباطل ، ومنها حرمة قول الزور ، وهذا لا مانع فيه فهناك حرمات فوقية وحرمات متنزِّلة موجودة ولا مانع من ذلك ، فنرى قاعدة حرمة اللهو المجوني كما استدل بها أئمة أهل البيت لحرمة الغناء استدلوا بها لحرمة اللعب بآلات القمار او لحرمة المراهنة بمال او بغيره اذا وصلت الى حد المجون ( سكر العقل وخفته ) كما نقلنا عن فقيهين معاصرين يحرمان الألعاب العصرية اذا كان فيها تحزب وتعصب وولاءات ما أنزل الله بها من سلطان لبعض الأندية .

وحتى اشتداد المحبة فيها حرام فالمحبة ان كانت في موردها حلال واما اذا كانت في غير موردها فهي حرام ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[4] فتكون هذه حواجب عن التوجه لله ولأوليائه .

ان كثير من مفسري آيات الاحكام عندما يستدلون على حرمة الغناء بحرمة اللهو يستعرضون كل آيات اللهو التي ذكرها القرآن الكريم من قبيل ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا﴾[5] ولها عدة تفسيرات منها الاستهزاء بالدين والوحي الإلهي ، ومنها اتخاذ اللهو واللعب دين يدينون به وشغلهم الشاغل .

ان من معجزة الدين انه لا يرجو من المجتمع ان يكون مجتمع ملاهي ولذا ورد في الرواية عن أبي جعفر × قال: لهو المؤمن في ثلاثة أشياء: التمتع بالنساء ، ومفاكهة الاخوان ، والصلاة بالليل .[6] فالصلاة ملهى روحي للمؤمن ، فكل هذه قضايا جدية ولكن فيها نوع من التسلية لا انه يتخذ اللاهدف واللاغرض الى النهاية .

اذن القاعدة الأولى في حرمة الغناء وهي أهم من الغناء هي حرمة اللهو المجوني .

ان اللعب ليس هدف نعم اذا كان هدف اللعب جد كبناء الصحة وقوة الدفاع المدني أي لا يعتمد الفرد على حماية الدولة فقط ، وكذلك الكلام اللعب فهو اذا كان للجد جد كما في ملاعبة الطفل ممدوحة لكونها تربية للطفل واما اللعب الى مالا نهاية فهو خطأ وخطر وأول من يخاطب بها هو الجهات العامة الجهاز السياسي والاسر ورب الاسرة ، وكذلك الكلام في اللغو فتارة يكون لأجل هدف جدي وهو الراحة فلا بأس به كما في ملاعبة النبي ’ للحسنين ‘او ملاعبة أمير المؤمنين × لأبي الفضل العباس × وأخرى ليس في ذلك بل لغو في لغو فيكون محرماً .

ونفس هذه القواعد التي تقدمت موجودة في حرمة القمار .

ومن الأدلة التي مر بنا واستدل بها على حرمة الغناء هي قول الزور وهذا مؤشر على أن الجهة المحرمة في الغناء ليست في كيفية الصوت فقط والنغمات المطربة بل الكلام الفاحش ، والكلام الباطل ، والخيالات الباطلة والكلام المشتمل على الرذيلة يقول تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[7] فقد اضيف اللهو الى الحديث أي الكلام الفاحش او الرذيلة فأشير الى بطلان الغناء من جهة المضمون ولذلك اتفق الفقهاء في موارد استثناء حرمة الغناء ـ كالغناء في الاعراس وغيره كما سيأتي ـ ان هذا الاستثناء لا يُسوِّغ للمغنية ان تقول بفحش القول او الاباطيل او الرذيلة فالاستثناء في كيفية الصوت وليس من المضمون فيبقى الغناء بلحاظ المضمون حرام في الاعراس .

ومما يشهد على ان الغناء ذو بعدين بعد الصوت وبعد المضمون قوله تعالى ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾[8] والفرق بين الزور والكذب والفرية والبهتان ؟

ان الزور والازورار كلام يميل بالإنسان الى جانب ، فاحد مصادر حرمة الغناء الفوقية هي حرمة الكذب.

وفي النوح الاستثناء منه هو ألاّ تقول النائحة كلام اباطيل وإلا فلا يجوز .

 


[1] سورة الرحمن، الآية 9.
[2] سورة النساء، الآية 135.
[3] سورة المائدة، الآية 8.
[4] سورة العنکبوت، الآية 25.
[5] سورة الاعراف، الآية 51.
[6] بحار الأنوار / جزء 73 / صفحة [59].
[7] سورة اللقمان، الآية 6.
[8] سورة الحج، الآية 30.