الأستاذ الشيخ محمد السند
بحث العقائد

46/05/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: العقائد بين لغة علم الكلام وعلم القلوب

 

كان البحث في هذا المطلب في الرواية ان احد تلامذة الامام الصادق مر على ندوة عند مالك ابن انس زعيم المالكية وتداول الحديث عندهم والعياذ بالله عن تجسيم الله فبدأ الامام الصادق في تفنيد هذا المعتقد بادلة فكرية عقلية نظرية وافية ثم بعد ذلك عرج على انشطة القلب لا انشطة الفكر النظري وحاشا الامام ان يبادر ببحث لا صلة له بالسابق ولم يسأل عنه الراوي بل صرح عليه السلام انه علاوة على البراهين الفكرية لابطال التجسيم هناك براهين قلبية وبين كيف ان القلب جهاز مسلح للادراك وليس قضية الجسمانية المادية الغليظة .

ولا يمكن القول بانه في عالم القلب وعوالم القلب ليس هناك اله وهو الله عز وجل فاذن تحديد الباري بالجسم المادي الغليظ هذا عجيب ومن سفه الكلام فبهذا المناسبة بين الامام ان المعارف الحاصلة من المواهب العلمية اللدنية الملكوتية في القلب هي من اثار الرياضات القلبية والروحية ولها كمالات واقية عن مثل هذه الانحرافات الفكرية والمقالات الباطلة في العقائد.

فهذا تأكيد من الصادق ع على ان الرياضات القلبية والروحية تسبب انتباه ويقظة عن سفاسف المقالات الاعتقادية المنحرفة الباطلة ، وهذا شبيه قول النبي المتواتر عند الفريقين بالفاظ عديدة : من عرف نفسه فقد عرف ربه ولم يقل من فكر بفكره وانما عرف اي مشاهدة ولم يقل من علم بنفسه ، فالمعرفة تنصرف الى الادراك القلبي والمعرفة القلبية والمشاعر الروحية ، من عرف نفسه عرف ربه .

اذن واضح ان سيد الانبياء في هذا الحديث المتواتر يفتح طريق للمعارف في العقائد وباب المعرفة ليست منحصرة بالقوى الفكرية والعقل النظري فهنا يستفيد الامام الصادق من هذا النظام ان كثيرا من الانحرافات في الفكر هو لعدم التوازن بالمعرفة القلبية او المعرفة النفسانية حيث اذا كانت روح الانسان ونفسه ليست مادية غليظة فكيف يتصور في الباري انه مادي ؟؟ فبالتالي المعرفة بالتوحيد اذا كان مفتوحا امام القلب والرياضات القلبية يكون في الدرب الصحيح .

لاحظ هنا الامام الصادق نبه على ان الرياضات كيف لها ارتباط بالمعرفة بالتوحيد وكيف تسهم وتؤثر وتورث المحبة والمحبة هي نوع من الايمان بالله تعالى فذكر الله او الحكمة وهلم جرا عدة مواهب لدنية ذكرها الامام ، مثلا اللطف في القلب والفطنة في القلب وليست الفطنة مختصة بالفكر ايضا ذكاء القلب كما عندنا ذكاء الفكر عندنا ذكاء القلب فمصادر وقنوات القلب لا تنحصر بالحس قد يكون حتى في الفكر وقد يكون في القلب فالنشاط ليس مختص بالفكر ولا مختص بالقلب وانما النشاط يقوم به كل من قوة الفكر وقوة القلب معا .

مثلا الفلاسفة يقولون - وليس نحتج بكلامهم وانما من باب المعنى اللغوي - مثلا ابن سينا وهو من فلاسفة الشيعة اما اسماعيلي او اثنى عشري هو في متن الاشارات وغيره ايضا ذكر هذا المطلب ان فطنة القلب اذا تزداد وحتى فطنة الفكر اذا ازدادت يصير اتصال مع العوالم الغيبية بشكل قوي ، هذا الاذكاء والذكاء او اشتعال الفكر او اشتعال القلب او اشتعال القوى النفسانية عموما يسبب الاتصال بالغيبيات .

طبعا الجن والشياطين دائما يدخلون على الخط للمشاغبة والتمويه ولكن عموما تفعيل القوى النفسانية والقوى الروحية يسبب الاتصال بعوالم ملكوتية فالاشعال لا يكون فقط في الشهوة البهيمية وانما حتى هوى القلب بالمعاني العقلية الفوقية فاذا اشتعلت تلقائيا يصير اتصال بعوالم ملكوتية ولكن هذا لا نبوة ولا امامة وانما هي ظاهرة يفهمها العقل يعني العقل اذا تبصر يفهم ان النبوة امر ممكن وليس مستحيل ولا تحصل لكل البشر .

هنا ابن سينا في الاشارات يذكر هذا المطلب وانا لست في صدد ترويج كتاب الاشارات ولو انا قد كنت درسته مع نقودي عليه ولكن لست في صدد ترويجه ولكن كاصطلاحات لغوية ليس الا ، يعني لغة تصورية وليست تصديقية حيث التصديق مأخوذ من الوحي فقط ، فالاشارات قسم منه منطق والجزء الثاني منه طبيعيات ومباحث النفس والجزء الثالث منه الهيات يعني مرتبط بالتوحيد والمعاد وفي اواخر الالهيات ابن سينا الف دورة في رياضة الروح والنفس .

ابن عربي ما عنده قدرة ان يقنن المباحث المعنوية الروحية بقالب عقلي فكري وحتى الغزالي وانما الاخير عنده قدرة ان يفسر البحوث الروحية بلغة فقهية او لغة اخلاقية ، فحتى العرفان والقضايا الروحية يمكن ان تكتب وتشرح بلغات من علوم اخرى ولكن الغزالي لايمتلك لغة عقلية جزلة نعم هو كلامي شيئا ما وفقهي شيئا ما لكنه ضعيف في العقليات وان كان يقال كتب في اخر حياته سر العالمين اظهر فيه تشيعه الاثنى عشري ولكن ابن سينا عنده هذه القدرة انه كتب لغة المعنويات والرياضات الروحية بلغة فلسفية او فكرية .

هناك ابن سينا شرح النبوة او الامامة بغير شرح المتكلمين ولا بلغة الفلاسفة وانما بلوغ ممزوجة بين العقل الفكري والقلبي فشرح النبوة بانها نوع من اشتعال القوة الباطنية عند الانبياء اقدرتهم ان يتواصلوا مع الملكوت الاعلى فالنبوة ليست ادعاء جزاف وهي ليست اكتسابية ولكنها اصطفائية ولكن ليست جبرية وقهرية وانما اصطفائية باختيار من الانسان ... فشرطت عليهم الزهد وشرطوا لك ذلك فاعطيتهم الاصطفاء وهذا ورد في اول دعاء الندبة وحتى ورد في القرآن الكريم واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات يعني امتحنه الله جزاء لذلك قال اني جاعلك للناس اماما ولكن لا ينفي انها اكتسابية فبالتالي النبوة تارة نشرحها فقط على تعريف علماء الكلام كأنما اللاقطة الفكرية للانبياء مفعلة وتستقبل اتصالات غيبية من السماء او من الملكوت الاعلى بينما ابن سينا هنا شرح النبوة والامامة بلغة قلبية وهذه ظاهرة مهمة ان النبوة او الامامة عند انبياء والائمة والتي نص الوحي عليهم النبوة في الحقيقة ظاهرة قلبية قبل ان تكون فكرية . فبالتالي العقائد يمكن كتابتها بلغة علم الكلام ويمكن كتابتها بلغة القلب وبلغة الروح والحالات الروحية والقلبية للانبياء كثير من علماء الكلام لا يأنسون بهذه اللغة لانهم ليسوا بمتضلعين وموجود هذا الصراع العلمي بين مدارس الرواة من تلاميذ الائمة على قدم وساق ولكن هذا لا يعني الصحة في جانب والخطأ في جانب اخر وانما هي من باب تعدد القدرات والتخصصات .

نرجع الى بحثنا فاذا القوة النفسية عموما اذا تشتعل وتنشط سيكثر اتصال الانسان بالغيبيات ولكن ليس معناه النبوة ولا الامامة ولا الاصطفاء ولكنها تتفعل مثل بلعم بن باعورة يشهد القرآن انه اوتي ايات الله واتل عليهم نبأ الذي اتيناه اياتنا هل هو نبي كي اعطي الايات? كلا وليس حجة من الحجج فهو مرتاض بشكل قوي فلماذا يقول واتل عليهم ؟ كي ينبه على ان هذا الباب مفتوح وهو لا يعني الحجية والعصمة بل الحجية انه انظر الى ما قيل ولا تنظر الى من قال .

مر بنا في لقمان انه ليس هو حجة ولا معصوم فلماذا استعرض القرآن سورة كاملة باسم لقمان? وفي بيانات النبي والائمة ان لقمان حكمته دون سلمان لان سلمان علمه من سيد الانبياء واعظم من علم لقمان مع ذلك لقمان خصص الله له سورة كاملة وهذا لا يعني انه حجة من الحجج اذن ما الفائدة لاستعراض القرآن لكلمات لقمان? انه من جهة الحجية فيما قيل وليس من قال ، فما قال يعني يجتمع مع البرهان وهذا التفكيك ما نلتفت اليه .

مر بنا ان القرآن حجيته من جهات عديدة وليست حجيته من الصحابة او التابعين وتابعي التابعين والمسلمين واجيالهم انما هم قناة تكوينية لايصال هذه المادة الوحيانية كحاملين لها ، مثل الذين حملوا التوراة يعني الية تكوينية لايصالها للاجيال لا ان اعتبار القرآن منوط بالصحابة او بالتابعين او بالمسلمين فهناك فرق بين الوصول التكويني للقران فهو كالانبوب يدخل من خلاله الماء الزلال او العسل، فعسلية العسل ليس بسبب الانبوب ومائية الماء بسبب تراب النهر فمائية الماء بذاته وعسلية العسل بذاته هذا الانبوب ليس الا قناة تكويني .

كذلك حجية القرآن الوحياني ليست مأخوذ من الصحابة او التابعين او الرواة وكذلك تراث اهل البيت في الحديث ليس حجيته مأخوذة من الرواة وانما هم دورهم تكويني ليس اكثر ويجب الا نخلط ان التراث حجيته من ذاته وليس من الرواة يعني المحكمات الوحيانية الموجودة في الحديث او القرآن هي مصدر الحجية فاحد مصدر حجية القرآن ان بلاغته العلمية واعجازه العلمي من ذاته و وحيانيته من ذاته لا من المسلمين والتواتر لا يستطيع ان يخلق الوحي انما التواتر قناة ايصالية تكوينية كالانبوب .

فيجب ان نميز بين الناقل والمنقول في القرآن او في الحديث ، نعم استشهد القرآن على وحيانية القرآن بنفس وجود النبي واستشهد على وحيانيته بعلي ابن ابي طالب كما في سورة الرعد وسور اخرى وكذلك فاطمة والحسن والحسين وباية المباهلة على ان القرآن وحياني بذاته وحيانيته بالنبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين اما انه وحيانية القرآن اتت من المسلمين فكلا .

ففرق بين ما قيل ومن قال يعني التفكيك بين شخصنة الاشخاص وبين البرهان ، ففي النبي واله الشخصنة وحيانية اما في غيرهم ليست كذلك ايضا في بحث حجية لقمان لم يوصف بانه هو في نفسه حجة وانما ما قيل ، كذلك الحكمة الذي اوتيها لقمان ليست باكتساب فكري فقط بل برياضات روحية وذكر هذا في الروايات والامام الصادق يشرح انه لم وهب الله لقما علما لدنيا ملكوتيا ؟ ذكر انه كان صارم في الورع فلاحظ لقمان ارتاض فاعطاه الله هبة لدنية وهذه الهبة اللدنية هي حجة لانها ايتاء من الله وليس لاجل لقمان لانه ليس بنبي ولا امام .

فيجب التفكيك بين الاشخاص وبين موروثهم الان المواهب العقلية موجودة لكل البشر على اختلاف درجاتهم فالعقل في نفسه حجة لا ان الانسان حجة ولا قدرته العقلية حجة وانما ذات المادة العقلية هي الحجة .

لاحظ الاختلاف بين الاصوليين والاخباريين وان كان الاخباريون لا ينفون حجية العقل في العقائد فيجب ان نفكك بين هذه الامور وفي موارد عديدة في القرآن الكريم ذكرت هناك مواهب لدنية كانت ولا زالت مفتوحة كالحكمة يقول القرآن في شأن النبي موسى والنبي يوسف وغيرهما من الانبياء انه لماذا الله اعطاهما الحكمة? لانهما كانا من المحسنين ، وكذلك نجزي المحسنين ، فالانسان اذا داوم على الاحسان تلقائيا يعطى الحكمة و احد اليات هبة الله الحكمة للانسان هو الاحسان ، والحكمة درجات فيجب ان نفرق بين الشخص الذي يعطى الهبة اللدنية وبين نفس الهبة ، الهبة حجيتها ذاتية ولذلك علماء الاصول قالوا حجية العقل لا تعني عصمة الانسان ، فالانسان شيء والعقل في نفسه حجة اخرى .

هنا ايضا واتلوا عليهم نبأ الذي اتيناه اياتنا فانسلخ منها فهو ليس معصوم لكن نفس الايات في نفسها حجة يعني مثل العقل حيث المادة العقلية حجة بنفسها بغض النظر عن الانسان المتلقي لهذه المادة فالحكمة والايات والعقل والهبات اللدنية كثيرة في القرآن الكريم وتلك الهبات في ذاتها حجتها ذاتية بغض النظر عن الشخص بل ورد عندنا في روايات الفريقين ان الحكمة قد يعطيها الله للكافر اذا زهد في الدنيا ، بل في زمن الامام الصادق هناك مسيحي كان يقرأ الضمير فقال له الامام من اين حصلت على هذه الهبة من الله ؟ قال لمخالفتي هواي ، فاعطاه الله قوة لكي يقرأ ضمائر الاخرين قال فاعرض الاسلام على نفسك هل تهواه نفسك? قال لا تهواه ، قال فخالف هواك فخالفه واسلم فعندما اسلم ذهبت منه هذه الموهبة قال يا ابن رسول الله كنت نصرانيا والله اعطانيها والان سلبت مني ؟؟ قال يدخرها الله لك في الاخرة .

فلاحظ الرياضات الروحية والرياضات الفكرية لها نتائج وهذه لا تعني حجية الانسان فاذن الرياضة القلبية قوى روحية وقلبية في الانسان يتمكن من خلالها من ادراك الحقائق ، فعقائد الدين الوحيانية ليست بلغة الفكر فقط بل بلغة قوى النفسانية والقوى الروحية .