الأستاذ السيد علي السبزواري

بحث الأصول

37/07/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التزاحم في الملاكات ومقتضيات الاحكام

ذكر المحقق الخراساني رحمه الله وغيره ان هناك تزاحم في الملاكات ومقتضيات الاحكام بحسب التأثير فان كل حكم له ملاك وان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد يقع التزاحم في تلك الملاكات والمقتضيات في مقام التأثير فأسموه بالتزاحم الحكمي وقد عرفه جمع من الاصوليين هو التنافي بين الدليلين في مقام التأثير والمقتضيات والملاكات وليس له أي علاقة بمقام الامتثال، وعلى المعروف ان الاحكام كلها بل كل تشريع وقانون انما يتبع مصالح ومفاسد واقعية تتبع المصالح والمفاسد وهذه المصالح والمفاسد عند المشرع يقع بينها تزاحم فاذا رأى في احد تلك الملاكات رجحان يحكم على طبقه ويكون الاخر مرجوحا واذا لم يكن بينهما ترجيح فيكون بينهما تساوي فحينئذ يجعل المشرع تقنين في البين لان التزاحم لا يكون الا في مورد لا يكون فيه الحكم فعلي وذلك في موارد متعددة :-

المورد الاول : اجتماع الامر والنهي ناءً على الامتناع حيث لا يكون الحكم فيهما فعلي فيقع التنازع فيهما

المورد الثاني : التضاد بين الواجبين بحيث يكون ترك احدهما مساوقا مع اتيان الاخر بحيث لا يمكن الترتب بينهما

المورد الثالث : التضاد الدائمي بناءً على ما هو المعروف كما تقدم بيانه ان مسلك المشهور في التضاد الدائمي يرجع الى التعارض بين الدليلين

ففي جميع هذه الموارد الثلاثة لم يكن الحكم فيها فعلي والا لدخل في مرحلة التزاحم الحكمي اذا تحقق تزاحم في مرحلة الامتثال، ثم قالوا ان الفرق بين التزاحم الحكمي والتزاحم الحقيقي الاصطلاحي من وجوه ثلاثة :-

الوجه الاول : ان التزاحم الملاكي انما يكون بين الجعلين والحكمين في مقام التشريع وليس التزاحم بينهما في مقام الامتثال ففي مرحلة الجعل مرحلة دليل تشريع الحكم وجعل القانون هناك يكون تزاحم بين ملاكات الاحكام وليس له ربط في التزاحم في مرحلة الامتثال بينما التزاحم الاصطلاحي الحقيقي ما اذا كان الحكم فعليا ولا تزاحم بين الجعلين وانما يكون التزاحم في مرحلة الامتثال والعمل بحيث لا يمكن للمكلف الجمع بينهما ولذلك يقع التزاحم الاصطلاحي في الواجب الواحد اذا كانا فردين يقع التزاحم بينهما ولا يشترط ان يكون في حكمين بل حتى في واجب واحد او حكم واحد اذا تحقق فيهما فردين .

وبعبارة اخرى ان التزاحم الاصطلاحي انما لا يكون تزاحم في اصل الجعل والحكم فان الحكم انما يشرعه المولى بناءً على الموضوع التقديري فيترتب عليه وانما المكلف لم يمكنه ان يجمع بين التكليفين فاذا اراد ان يأتي بأحدهما ينفي ويرفع موضوع الثاني وحينئذ لا يمكنه الا ان يأتي به على نحو الترتب وشرط عصيان الثاني، بينما في التزاحم الحكمي انما يكون في مرحلة الجعل وملاك الحكم فيقع التعارض بينهما ولذلك في باب التزاحم الاصطلاحي ان العقل يتدخل في اهمية احدهما على الاخر او انتزاع الاهمية من الدليل اما في مقام التزاحم الحكمي المولى هو الذي يعين لان جعل الحكم بيده فلابد ان يرى هذا هو الراجح فيجعل الحكم على طبقه او لا رجحان بينهما فيتخير وهذا هو الفرق بين الحكمين .

الوجه الثاني : ان الذي يكون الحكم بيده وهو المولى يقرر ان هناك تزاحم ملاكي او ان هناك ترجيح بينهما او لا ، لان مقتضيات الاحكام لا يعلمها الا هو فاذا رأى الرجحان في احدهما يجعل الحكم على طبقه وان لم يرى رجحان يحكم بالتخيير والتساوي بينما في التزاحم الاصطلاحي الشارع الاقدس ليس له سلطه في تحديد الموضوع الخارجي رفعا ووضعا انما العقل يحدد ذلك .

هذا هو الفرق بين الحكمي والتزاحم الاصطلاحي الذي تقدم فالفرق بينهما جوهري هذا في مقام الامتثال وليس تزاحم في الملاك اذا ملاك كل حكم تام وتشريع الحكم فعلي ولا اشكال فيه بينما في التزاحم الحكمي لا يكون الحكم فعلي انما وقع التزاحم في اصل التشريع ومقتضياته والكلام بعد ذلك يقع في جهات :-

الجهة الاولى : ان التزاحم الحكمي موقعه ما اذا قلنا تبعية الاحكام والقوانين وتشريعات المصالح والمفاسد الواقعية وهذه هي المقولة معروفة بينهم في تبعية الاحكام للمصالح بل قالوا ان هذا هو مذهب العدلية، ولكن هذه المقولة غير تامة اذا كانت تامة فهي بالنسبة الى القوانين والتشريعات الوضعية اذ النظرة المادية هي السائدة فيها تنظر المصالح والمفاسد وتشرع الاحكام على طبقها بينما التشريعات الالهية لابد فيها من الخروج من العبثية فيها لابد فيها غرض وبدونه لا يمكن ان يكون تشريع والغرض الاهم في التشريعات الالهية هي تصحيح الطاعة وتحديد رسم العبودية للعباد ويدل على ذلك جملة من النصوص التي فيها تنبيه للناس في تحديد العقل وخصوصياته منها وصية الأمام موسى ابن جعفر عليه السلام لهشام ابن الحكم (يَا هِشَامُ، نُصِبُ الْحَقُّ لِطَاعَةِ اللهِ ، وَلَا نَجَاةَ إِلاَّ بِالطَّاعَةِ، وَالطَّاعَةُ بِالْعِلْمِ ، وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ، وَالتَّعَلُّمُ بِالْعَقْلِ يُعْتَقَدُ، وَلَا عِلْمَ إِلاَّ مِنْ عَالِمٍ رَبَّانِيٍّ ، وَمَعْرِفَةُ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ)[1] فكل ما يأتي من الشارع هو لتحديد الطاعة مسير العبودية لرقي العبد ووصوله الى الله تعالى فقياس هذه الغاية العظمى والاسمى من كل جهة على التشريعات والقوانين الوضعية قياس مع الفارق اذ النظر في هذه التشريعات هي نظرة مادية فحينئذ لابد من ابتغاء المصالح والمفاسد فيها حتى يصح جعل القانون بينما التشريع الالهي بعد حكم العقل بالطاعة يأتي التشريع الالهي ليبين رسم العبودية وكيفية المسير في هذا الطريق والقرب من المولى تبارك وتعالى فبناءً على هذا التزاحم لا موطن له ابدا .


[1] الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص37.