الأستاذ السيد علي السبزواري

بحث الفقه

37/04/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- بـحـث الـتــقــيــة.
كان الكلام في ان التقية اذا استعملت في موردها مع تحقق شروطها فهل توجب صحة العمل المأتى به حين التقية ويجزئ عن التكليف المأمور به المكلف فلا يجب عليه الاعادة ولا القضاء ام انها مجرد دفع ضرر وجلب محبة ومودة اما العمل فلابد ان نرجع فيها الى اطلاقات الادلة وعموماتها التي تدل على الاجزاء والشرائط وان لا يكون في البين مانع؟
قلنا في المسلة قولان وهناك قول اخر بالتفصيل.
القول الاول:- ان التقية كما تدل على دفع الضرر وجلب المودة والمحبة فهي تدل على الاجزاء فكما تثبت حكما تكليفيا أي جواز ترك الجزء او ترك الشرط او يأتي بمانع ايضا حكما وضعيا وهو صحة هذا العمل والاجزاء وعدم وجوب الاعادة والقضاء، واستدلوا على ذلك بأمور.
اولا:- اطلاقات ادلة التقية التي ترغب وتحث المؤمنين والمسلمين على التقية فقالوا انها تدل على الاجزاء ولا حاجة في الصحة والاجزاء وعدم الاعادة مطلقا.
ثانيا:- ان تلك الروايات التي تدل على ان التقية استعمالها لجب المودة وجلب المحبة أي تلك التقية المجاملة انما تدل على صحة هذا العمل والاجزاء اذ لو كان خلاف ذلك لبين الشارع الاقدس.
ثالثا:- ان الاعادة وعدم الاجزاء خلاف حكمة تشريع التقية.
رابعا:- الروايات التي دلت على ان التقية دين الله ولا اشكال في انه اذا كانت التقية دين الله فهو يدل على الاجزاء ويدل على الصحة حينئذ.
ولكن ذكرنا ان يمكن المناقشة في هذه الوجه اذ توجد عندنا عمومات تلك الادلة التي تثبت التكليف وتثبت الجزء والشرط الا اذا كان هناك دليل فيمكن حينئذ رفع اليد عن هذه الاطلاقات لان هذه الاطلاقات والعمومات تشمل مورد التقية وغير مورد التقية، وكذا قاعدة الاشتغال جارية في المقام.
القول الثاني:- ان التقية انما تثبت حكما تكليفيا أي يجوز للشخص المتقي في مورد التقية ان يترك جزءا او شرطا او يأتي بمانع وليس اكثر من ذلك اما هذا العمل الذي ترك منه جزء فلا تدل التقية على الصحة والاجزاء ولابد من استفادة ذلك من دليل اخر، واستدلوا على ذلك.
اولا:- اطلاقات وعمومات ادلة التكاليف فهي شاملة لمورد التقية وغير مورد التقية.
ثانيا:- قاعدة الاشتغال فإنها تقتضي ان الفعل الذي اتى به ناقصا لا يجزي عن الواقع الا اذا كان هناك دليل يدل بالخصوص على الاجزاء.
الاستدلال ببعض الاخبار الواردة في المقام من ان الامام فعل فعلا ترك فيه شيئا الا انه اتى بذلك الفعل حين رفع التقية فهذه الاخبار تدل على عدم الاجزاء. وهي ثلاث روايات:-
الرواية الاولى:- مرسلة رفاعة عن رجل، ((عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال : يا أبا عبدالله، ما تقول في الصيام اليوم ؟ فقال : ذاك إلى الامام، إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا، فقال : يا غلام، علي بالمائدة، فأكلت معه وأنا أعلم والله أنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله))[1].
الرواية الثانية:- مرسلة داود بن الحصين، عن رجل من أصحابه، ((عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس : إني دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم، وهو والله من شهر رمضان، فسلمت عليه، فقال : يا أبا عبدالله، أصمت اليوم ؟ فقلت : لا، والمائدة بين يديه قال : فادن فكل، قال : فدنوت فأكلت، قال : وقلت : الصوم معك والفطر معك، فقال الرجل لابي عبدالله (عليه السلام) : تفطر يوما من شهر رمضان ؟ ! فقال : اي والله، افطر يوما من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي))[2].
الرواية الثالثة:- عمر بن يزيد، ((عن أبي عبدالله (عليه السلام)، انه قال : ما منكم أحد يصلي صلاة فريضة في وقتها ثم يصلي معهم صلاة تقية وهو متوضئ إلا كتب الله له بها خمسا وعشرين درجة، فارغبوا في ذلك))[3].
ولكن هذه الروايات فيها:-
اولاً:- ضعيفة السند فالاولى والثانية مرسلتين وكذا دلالتهما خارجة عما نحن فيه لان كلامنا فيمن فعل فعلا فيه تقية مثل ترك شرط او ترك جزاء او فعل مانعا بينما هذه الروايات موضوعها انه ترك واجبا بالكلية.
ثانياً:- الرواية الثالثة انما ترغب الى نيل الدرجات ولا ترشد الى شيء اخر.
واستدل على الصحة والاجزاء:-
الرواية الاولى:- زيد الشحام ((قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) : اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، واوصيكم بتقوى الله عزّ وجّل، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله) أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برا أو فاجرا، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر باداء الخيط والمخيط صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر، والله، لحدثني أبي ( عليه السلام ) ان الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي ( عليه السلام ) فيكون زينها آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول من مثل فلان إنه آدانا للأمانة، وأصدقنا للحديث))[4].
فاطلاق هذه الرواية يشمل حتى في مورد الفعل فانه مجزي ولو كان هناك تقييد لبينه.
الرواية الثانية:- هشام الكندي ((قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : اياكم أن تعملوا عملا نعير به، فإن ولد السوء يعير والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا، ولا تكونوا عليه شينا، صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم، والله ما عبدالله بشيء أحب اليه من الخبء، قلت : وما الخب ء ؟ قال التقية))[5].
الرواية الثالثة:- موثقة سماعة ((قال : سألته عن رجل كان يصلي فخرج الامام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة ؟ قال : إن كان إماما عدلا فليصل اخرى وينصرف ويجعلهما تطوعا وليدخل مع الامام في صلاته كما هو، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ويصلي ركعة اخرى ويجلس قدر ما يقول : « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله ) » ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع، فان التقية واسعة، وليس شيء من التقية إلا وصاحبها مأجور عليها، إن شاء الله))[6].
فلم يبين الامام (عليه السلام) ان هذه الصلاة التي يصليها انها لا تجزي وعليه الاعادة والقضاء.
هذه الاخبار وغيرها من الاخبار ظاهرة في الصحة وعدم اعتبار عدم المندوحة فتجوز التقية حتى مع المندوحة.
الرواية الرابعة:- أبي الصباح ((قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمد (عليهما السلام) : إن الله علّم نبيه (صلى الله عليه وآله) التنزيل والتأويل، فعلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام)، ثم قال : وعلّمنا والله))[7].
فهذه الرواية مثل الرواية السابقة تدل على سعة التقية فلا يجب القضاء ولا تجب الاعادة فان العمل صحيح ومجزي.
الا انه يمكن الاشكال في هذه الرواية وهو ان التقية اتت من فعل المكلف نفسه فهو الذي حلف على نفسه وحينئذ اذا كان الفعل من جهة المكلف نفسه فالامام يقول له انه في سعة من ذلك وحينئذ لا تدل هذه الروايات على ما نحن فيه لان كلامنا في الفعل الذي يأتي من تهديد الغير وظلم الغير ومحبة الغير واما الذي يأتي من نفس المكلف فلا.
ولكن يمكن الجواب عنه:- ان الروايات الدالة على الحث على التقية والترغيب فيها كافية، وحينئذ تكون ادلة التكاليف وعموماتها مقيدة بإطلاقات ادلة التقية وعمومات ادلة التقية، وكذا قاعدة الاشتغال محكومة بهذه الاطلاقات فلا يمكن الرجوع الى هذه القاعدة.



[1] - وسائل الشيعة، العاملي، ج10، ص132، ابواب الصوم، الباب57، ح5، ط آل البيت (عليهم السلام).
 -[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج10، ص132، ابواب الصوم، الباب57، ح4، ط آل البيت (عليهم السلام).
[3] - وسائل الشيعة، العاملي، ج10، ص132، ابواب الصلاة، الباب6، ح1، ط آل البيت (عليهم السلام).
[4] - وسائل الشيعة، العاملي، ج12، ص6، ابواب العشرة، الباب1، ح2، ط آل البيت (عليهم السلام).
[5] - وسائل الشيعة، العاملي، ج16، ص219، ابواب العشرة، الباب26، ح2، ط آل البيت (عليهم السلام).
[6] - وسائل الشيعة، العاملي، ج8، ص405، ابواب صلاة الجماعة، الباب56، ح2، ط آل البيت (عليهم السلام).
[7] -  وسائل الشيعة، العاملي، ج23، ص224، ابواب اليمين، الباب12، ح2، ط آل البيت (عليهم السلام).