الأستاذ السيد علي السبزواري

بحث الفقه

37/03/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- بحث التقية.
كان الكلام في الاحاديث التي وردت في كتب العامة على التقية واباحتها وجوازها.
ومن تلك الاحاديث هو حديث الرفع المعروف بين الفريقين (رفع عن امتي ما استكرهوا عليه وما اضطروا اليه)، فهذه الفقرتان يمكن ان نستفاد منهما جواز التقية واباحتها، وهذا الحديث كما سياتي مصادره معروفة بين الفريقين.
لا اشكال في ان الاكراه يختلف عن الاضطرار، فان الاكراه انما يتحقق بفعل فاعل يضطر المكرَه على اتيانه، فانه يأتي فاعل ويكرهه على اتيان فعلٍ فيضطر المكرَه الى اتيانه، فهذا هو الاكراه، اذن لابد ان يكون هناك فاعل يكرهه ومكرَه يُضطر الى فعله.
وقد ذكرنا سابقا في قوله تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[1] الصلةَ الوثيقة بين التقية والاكراه، بحيث ان العامة لم يذكروا التقية وانما اقتصروا على ذكر الاكراه، وقلنا ان هذا لا يضر لان احكام كل من الاكراه والتقية متماثلة ومتشابهة، فسواء ذكرنا لفظ التقية او لم نذكر لفظ التقية فهما من باب واحد.
واما الاضطرار فقد لا يكون من فعل فاعل، بل قد يكون سبباً تكوينيا وان كان في بعض الاوقات يكون من فعل فاعل، فلا يشترط في الاضطرار دائما ان يكون من فعل فاعل، بل يمكن ان يتحقق من دون فعل فاعل كالمرض والحوادث الكونية التي تحدث.
اذن الاضطرار اعم من الاكراه، حينئذ الاكراه على قسمين:-
القسم الاول:-  الاكراه التام وهو فيما اذا كان الاكراه سبباً في اضطرار المكره على اتيان الفعل المكره عليه، وبهذا تتحقق التقية ويجوز للمكره اتيان ذلك الفعل الذي اكره عليه.
القسم الثاني:- الاكراه غير التام أي الناقص وهو ما كان الاكراه لا يستلزم اضطرار الطرف الاخر (المكره) لإتيان ذلك الفعل المكره عليه وهذا القسم لا يرتبط بالتقية فانه يحتاج الى مبرر ودليل لإتيان ذلك الفعل.
فالقسم الاول يدخل في الحديث والثاني لا يدخل.
ويدل على ذلك جملة من الاحاديث:-
منها:- عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ((قال: إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أكره واضطر إليه. وقال: ليس شئ مما حرم الله الا وقد أحله لمن اضطر إليه))[2].
فاذا اكره واضطر الى ذلك لم يضره الطلاق حينئذ، ولا يضره الحلف، فهذا الحديث يدل على الارتباط بين الاكراه والاضطرار، فان الاكراه والاضطرار قد يدخلان في مورد التقية ايضا فلا ريب ولا اشكال في صحة الاستدلال بالفقرتين على اباحة التقية وجوازها.
وببركة حديث الرفع الذي هو منة من الله على عباده المؤمنين انه حكم بناء على ذلك بصحة افعاله التي تصدر من ناحية الاكراه ومن ناحية الاضطرار فحكم بعدم صحة عتقه اذا اكره على العتق وحكم بعدم صحة الطلاق اذا اكره على الطلاق وعدم صحة بيعه اذا اكره على البيع ونحو ذلك، فان هذا الحديث انما يدل على رفع الحكم عن هذه الافعال التي تصدر اذا كان هناك اكراه او اضطرار اليه فلا اشكال في ذلك.
واما العامة يحكمون بذلك ويستدلون بهذا الحديث على عدم تحقق الفعل المكره عليه من المكره وكذا المضطر اليه اذا كان هناك اضطرار.
ولكن الفرق بين الاكراه والاضطرار هو ان الاضطرار يحكم بصحة بيعه وصحة طلاقه، واما الاكراه فلا يحكم بصحة طلاقه بل يتوقف على اذنه حينئذ.
وقد فصل الكلام الشيخ الانصاري (قدس سره) في مكاسبه وفصل الكلام في رسائله وباقي العلماء في حديث الرفع.
هذا بالنسبة الى مدلول هذا الحديث.
واما مصادر الحديث فقد روى العامة هذا الحديث في كتبهم فقد رواه المتقي الهندي في كنز العمال والعجلوني في كشف الخفاء.
 واما ما رواه المتقي الهندي هكذا ( رفع الله من امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [3].
وغيرهما ايضا ذكروه وعده السيوطي في كتابه الدرر المنتثرة في الاحاديث المشتهرة من الاحاديث المشهورة، بل عده ابن العربي المالكي[4] في احكام القران من الاحاديث المعروفة المشهورة فقد ذكره في قوله تبارك وتعالى (الا من اكره وقلبه مطمئن) فقال اتفاق العلماء على صحة معناه.
واما عند الخاصة فقد رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتاب التوحيد ((حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه ‌السلام)، قال : قال رسول الله (صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله) : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة))[5].
ولكن ابناء العامة يذكرون ثلاثة وكذلك في روايات للصدوق يذكر ثلاثة.
واروده ايضا مسندا في الخصال، ولكن يوجد فيه تقديم عبارة (ما لا يعلمون) على عبارة (ما لا يطيقون) وهو هكذا ((حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، ومالا يعلمون وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة))[6]، وارسله في الفقيه (وضع عن امتي تسعة اشياء)، وهو هكذا في الفقيه ((وقال النبي (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) : « وضع عن أمتي تسعة أشياء : السهو، والخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، والطيرة، والحسد، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفة »))[7].
واورده المحدث العاملي (قدس سره) ايضا في الوسائل في موردين تارة ينقله عن الصدوق (رحمه الله) وتارة ينقله عن نوادر احمد ابن عيسى.
ويدل  على بعض مفردات هذا الحديث الكتاب العزيز وهو قوله تعالى: ﴿الا من اكره﴾ وفي موارد اخرى ايضا.
الا ان الكلام في سند هذه الروايات فهي، اما مرسلة واخرى يوجد نقاش في سندها، ولكن المتفق عند الجميع ان الفقرات الثلاثة وهي (ما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما اضطروا اليه) فهي متفق عليها عند الجميع، اما البقية فقد وقع النزاع فيها، فهي لم ترد في رواية صحيحة السند، فمن يتتبع صحة الاسانيد لابد له من دليل على البقية ومن يكتفي بذكر الشيخ الصدوق (رحمه الله) ومعروفيته يكتفي بهذا الحديث.
ولكن نحن موضع الشاهد في المقام هو الفقرتين (ما اكرهوا عليه وما اضطروا اليه) وهما وردا عند العامة وعند الخاصة، ولا اشكال فيه، واما دلالته كما ذكرنا فقد ابدع علمائنا في الاستفادة من هذا الحديث الاشياء الكثيرة كما فصلة الشيخ الانصاري (قدس سره) في رسائله في بحث البراءة وغيره من العلماء رحمهم الله.
النتيجة هذا ما استدل به العامة على التقية وجوازها واباحتها، اما ما ورد عند الخاصة فهو كثير وسياتي ذكر بعضها.


[1] - القرآن الكريم، ج14، سورة النحل، ص279.
[2] - وسائل الشيعة، العاملي، ج16، ابواب الايمان، الباب12، ح18، ص137، ط آل البيت (عليهم السلام).
[3] - كنز العمال، المتقي الهندي.
[4] - ليس ابن العربي الصوفي.
[5] - التوحيد، للشيخ الصدوق، ص353، ط جماعة المدرسين.
[6] - الخصال، للشيخ الصدوق، ج417، ط جماعة المدرسين.
[7] - من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق، ج1،ص59، ح132، ط جماعة المدرسين.