الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

39/03/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: لا ضرر ولا ضرار(17)

أقول: إنَّ التخصيص المستهجن هو في خصوص القضيَّة الخارجية، أمَّا القضية الحقيقية فلا معنى لتخصيص الأكثر فيها، إذْ أنّ المولى لم يلحظ فيها الأفراد حتى يقال بأنّ تخصيص الأكثر مستهجناً.

وعليه، فهل قاعدة لا الضرر وكذا قاعدة لا حرج من قبيل القضية الحقيقية أو القضية الخارجية.

والإنصاف: أنَّ قاعدة لا ضرر وكذا قاعدة لا حرج من قبيل القضيّة الخارجيّة، لأنّها ناظرة إلى الأحكام الإلزاميّة التي جاء بها الشّارع المقدّس وهي محدودة، سواء أكانت من الواجبات أم المحرمات، فالواجبات الإلهيّة فوق الألف وكذا المحرمات.

وعليه، فاذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من النّظر في أنّ الخارج عن قاعدة لا ضرر هو الأكثر أو لا؟

فإن كان الخارج هو الأكثر فيكون الاستثناء قبيحاً، سواء كان بعناوين متعدّدة أم بعنوان واحد، وهذا ما نبحثه في المقام الثاني.

أمّا المقام الثاني: اِعلم أنَّ الأحكام المجعولة في باب «الديات والقصاص والحجّ والجهاد والكفارات المالية والزكاة»، كلّها خارجة عن قاعدة «لا ضرر» بالتخصّص لا بالتخصيص.

والسرّ فيه: هو ما ذكرناه سابقاً من أنَّ قاعدة «لا ضرر» إنّما تكون حاكمة على أدلّة الاحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية، كوجوب الوضوء ونحوه الذي قد يكون ضررياً وغير ضرريٍّ، فتقيّدها بصورة عدم الضرر.

وأمَّا الأحكام التي يكون موضوعها نفس الضرر من هذه الموارد المذكورة فلا يمكن رفعها بقاعدة «نفي الضرر»، لأنّ الموضوع بمنزلة العلّة التامّة للحكم، فيكون مقتضياً للحكم وداعياً إليه، فكيف يرفعه؟! وهذا خلف.

وعليه، فهذه الموارد خارجة عن قاعدة «لا ضرر» تخصّصاً لا تخصيصاً، فلا تكون مستثناة من قاعدة «لا ضرر».

وأمَّا بالنسبة للخمس: فقد يتوهّم أنّ فيه ضرراً على المالك.

ولكنّ الإنصاف: أنّ المالك لا يتضرّر بدفع الخمس، لأنّه من أوّل الأمر لم يكن مالكاً لمقدار الخمس وإنّما الخمس لأصحابه.

نعم، المالك هو الشّريك الأكبر لأصحاب الخمس. وبالجملة، فالضّرر هو النقص في المال أو النفس أو العرض، وهنا لا يوجد شيء من ذلك، والله العالم.

وأمَّا بالنسبة للضمان: فهو أيضاً خارج عن قاعدة «لا ضرر»، ولا تشمله من أول الأمر، وذلك لأنّ القاعدة امتنانيَّة، فلا تجري إذا كانت على خلاف الامتنان.

وعليه، فإذا حكمنا على المكلّف بالضمان فهي وإن كانت امتنانية بالنسبة للمالك إلَّا أنَّها على خلاف الامتنان بالنسبة للمتلِف.

وإن حكمنا بعدم الضمان على المتلِف فتكون على خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك.

وعليه، فقاعدة «لا ضرر» لا تجري في المقام حتّى يكون الضّمان خارجاً من تحت القاعدة تخصيصاً.

نعم، يجب الضّمان على المتلِف من باب آخر، وهو قاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن».

والخلاصة: أن كلّ دليل كان امتنانيّاً لا يجري إذا كان على خلاف الامتنان، مثل حديث «رفع عن أمتي تسعة...» المتقدِّم في مبحث البراءة، فإنّه امتنانيّ، فلا يجري إذا كان المورد على خلاف الإمتنان.

ويترتب على ذلك: أنّه لو اضطرّ الإنسان لبيع داره لعلاج ولده، فيكون البيع صحيحاً، مع أنّ الاضطرار مذكور في حديث الرّفع.

ومعنى رفعه: هو عدم ترتّب الحكم إذا صدر الفعل حال الإضطرار، فكان ينبغي أن يكون البيع الصّادر حال الاضطرار كأنَّه لم يكن، أي لا يترتب عليه أثر شرعي من النقل والانتقال، إلَّا أنَّه لمّا كان عدم ترتّب الأثر على البيع الصّادر حال الاضطرار منافياً للامتنان -إذ لا يستطيع حينئذٍ علاج ولده المريض إلّا ببيع الدَّار- فلا يكون الحديث شاملاً له.

إذا عرفت ذلك فنقول: ثبت عندنا بعض المخصِصات لقاعدة «لا ضرر» بحسب الاستقراء والتّتبع، وهي في موارد قليلة جداً:

المورد الأوَّل: الحكم بنجاسة الملاقي للنجس مع كونه مستلزماً للضَّرر على المالك، كما لو وقعت فأرة في دُهنٍ مثلاً، فالحكم بالنجاسة حينئذٍ موجب للضَّرر على المالك، ومع ذلك لا تكون قاعدة نفي الضّرر حاكمةً عليها، بل هي مستثناة من تلك القاعدة.

وكذا غير الدّهن ممّا كان الحكم بنجاسته موجباً لسقوطه عن الماليّة، وموجباً لنقصانها.

ففي هذا المورد نذكر روايتين حكم الشارع بنجاسته:

الرواية الأُولى: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) (قال: إذا وقعت الفأرة في السُّمن فماتت، فإن كان جامداً فألقها وما يليها، وكُل ما بقي، وإن كان ذائباً فلا تأكله، واستصبح به، والزَّيت مثل ذلك)[1].

الرِّواية الثانية: رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) (قال: أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن، أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام): لا تأكله، فقال له الرجل؟ الفأرة أهون عليَّ من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام): إنّك لم تستخفَّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إن الله حرّم الميتة من كلّ شيء)[2]، وهذه الرّواية ضعيفة بعَمْرو بن شمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الوسائل باب 5 من أبواب الماء المضاف ح1.

[2] الوسائل باب 5 من أبواب الماء المضاف ح2.