الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

39/03/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: لاضرر ولا ضرار(16)

 

وأما القول الثاني: فهو ما أفتى به السَّيد صاحب العروة (قدس سره) وجماعة كثيرة من المحشين على العروة، وقد فصل بين العلم بالضرر والعلم بالحرج، فحكم بالفساد في الأول، دون الثاني.

قال في العروة: (إذا تحمل الضرر وتوضأ أو اغتسل فإن كان الضرر في المقدمات من تحصيل الماء ونحوه وجب الوضوء أو الغسل وصح، وإن كان في استعمال الماء في أحدهما بطل.

وأما إذا لم يكن استعمال الماء مضرّاً، بل كان موجبًا للحرج والمشقة، كتحمل ألم البرد أو الشين مثلاً، فلا يبعد الصحة وإن كان يجوز معه التيمم، لأنّ نفي الحرج من باب الرخصة لا العزيمة، ولكن الأحوط ترك الاستعمال وعدم الاكتفاء به على فرضه فيتيمم أيضًا)(1)[1] .

وما ذكره (قدس سرُّه) مبني على ما هو المشهور بين المتأخرين من حرمة الإضرار بالنفس، فإذا كان الوضوء ضرريًّا، فهو غير قادر على استعمال الماء شرعاً، إذ لا يمكن التقرُّب به، لأنَّه من التقرّب بالمبعِّد، فيكون باطلاً.

وأمَّا الحرج فليس في مخالفته حرمة، لأنّ نفي الحرج من باب الرخصة لا العزيمة، وبالتالي لا إشكال في التقرُّب بالفعل الحرجي، بعد بقاء ملاكه، وكون رفعه مع الأمر خلاف الامتنان.

أقول: بعد القول بحرمة الإضرار بالنفس فإنَّه لا يمكن تصحيح الطهارة المائيَّة، سواء قلنا بسراية الحرمة من المسبب -وهو الاضرار بالنفس- إلى السبب -وهو الطهارة المائيَّة- أم لم نقل بها.

أمَّا على القول بالسِّراية فواضح، لأنّ نفس الطَّهارة حينئذٍ محرّمة ومبغوضة، ولا يمكن التقرُّب بالمبعِّد.

وأمَّا على القول بعدم السِّراية فلأنّ حرمة المسبَّب وإن لم تسرِ إلى السَّبب، إلَّا أنَّه لا يمكن القول بكون السبب واجباً بالفعل والمسبَّب حراماً، للزوم التكليف بما لا يطاق، لأنَّ المكلف غير قادر على امتثال كليهما، كما لو قال المولى: يجب الاستقبال، ويحرم الاستدبار.

وعليه، فلا يمكن القول بوجوب الطهارة المائية فعلاً مع حرمة الإضرار بالنفس، وإذا لم يوجد أمر بالطَّهارة فتكون باطلةً.

والإنصاف: أنَّه ليس كلّ ضرر يعدّ محرمًا، بل لا يحرم الإضرار بالنفس إلَّا إذا أدَّى إلى التهلكة، أو جناية على النفس، كقطع عضو، أو إدخال النفس في الحمى.

وأمَّا التوهين: فإنَّه داخل ضمن تشخيص العرف.

وأما الأدلَّة التي ذُكِرت في كتاب الأطعمة والأشربة، من قبيل ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم....)(2)[2] ، فإنَّها ليست تامَّة.

وببطلان هذا التفصيل يتبين لك أن الصّحيح هو القول الثالث، فإنَّه بالإمكان تصحيح الطّهارة المائية، بطريقين:

الأوَّل: ببقاء الملاك، باعتبار أنَّ ارتفاع الملاك بعد الأمر، خلاف الامتنان، فلو كان القيام حال القراءة يعد ضرريًّا أو حرجيًّا مثلاً، فإنَّه تجب الصَّلاة جالسًا، فلو تحمل المكلَّف ذلك، فقام وصلى، مع العلم بكونه ضرريًّا، فإنّنا نحكم بصحّة صلاته، لأنَّ الملاك لم يرتفع بعد.

الثاني: بأمر آخر، كما في الوضوء والغسل، حيث ثبت الأمر الاستحبابي بهما.

 

التنبيه الخامس: ذكر الشَّيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في كتابه الرسائل أنّ كثرة التخصيصات موهنة للتمسّك بالقاعدة.

قال في الرسائل ما لفظه: (ثمّ إنّك قد عرفت بما ذكرنا أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سنداً أو دلالة، إلّا أنّ الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها، بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي، كما لا يخفى على المتتبع، خصوصاً على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدَّم.

بل لو بُنيَ على العمل بعموم هذه القاعدة حصل فقه جديد.

ومع ذلك فقد استقرت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام، وعدم رفع اليد عنها إلّا بمخصصٍ قويّ في غاية الاعتبار بحيث يعلم منهم انحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة.

ولعلّ هذا كافٍ في جبر الوهن المذكور وإن كان في كفايته نظر، بناء على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك.

غاية الأمر تردد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى، واستدلال العلماء لا يصلح معينا، خصوصاً لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة.

إلا أن يقال -مضافًا إلى منع أكثريّة الخارج وإن سَلُمت كثرته -: إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحدٍ جامعٍ لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل.

وقد تقرّر أن تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوانٍ واحدٍ جامعٍ لأفرادٍ هي أكثر من الباقي، كما إذا قيل: أكرم الناس، ودلّ دليلٌ على اعتبار العدالة، خصوصاً إذا كان المخصص مما يَعلم به المخاطب حال الخطاب).

وحاصل ما ذكره مع توضيح منّا: أنَّ كثرة التخصيصات الواردة على قاعدة لا ضرر بالإجماع والنصوص الخاصّة، موهنة للتمسّك بها في غير الموارد المنصوص عليها، والمنجبرة بعمل الأصحاب، كالأحكام المجعولة في باب الضمانات والحدود والديات والقصاص والتعزيرات، وكذا الزكاة والكفارات المالية والحج والجهاد، فإنّها كلها ضررية، وقاعدة (لا ضرر) ليست حاكمةً عليها ورافعة لها؛ وكذا غيرها من الموارد التي سنذكرها إن شاء الله تعالى.

وعليه، فما خرج عن عموم القاعدة أكثر مما بقي تحتها.

وباعتبار أنَّ تخصيص الأكثر مستهجن عند العرف، فلا بدّ من القول: بأنّ الضّرر المنفي في قاعدة (لا ضرر) هوّ ضرر خاصّ، لا يشمل هذه الموارد، فتكون خارجة تخصّصاً لا تخصيصاً حتّى يلزم منه تخصيص الأكثر.

ولازم هذا الكلام كون مدلول حديث لا ضرر مجملاً، فلا يمكن الاستدلال به حينئذٍ.

ثمّ أجاب (قدس سره) عن ذلك بأنّه يمكن أن يكون التخصيص بالموارد الخارجة عن قاعدة (لا ضرر) بواسطة عنوان واحد جامع لهذه الموارد فلا يكون هناك تخصيص للأكثر، بل هناك تخصيص واحد له أفراد كثيرة، وهذا لا قبح فيه.

والإنصاف: أنَّ الكلام يقع في مقامين:

الأوَّل: من حيث الكبرى، بأنّه متى يكون تخصيص الأكثر مستهجناً؟

الثاني: من حيث الصُّغرى، فهل ثبت فعلاً خروج أفراد كثيرة، بحيث توجب كثرتها الاستهجان العرفي؟

أمَّا الأوّل: فاعلم أنَّ العموم تارة يكون على نحو القضيّة الخارجيّة، وأخرى على نحو القضيّة الحقيقية.

أمَّا القضية الخارجيّة: ما كان النظر فيها مقصوراً على الأفراد الخارجيّة المتحقّقة فعلاً.

كما لو قال المولى: أكرم علماء البلد الفلاني، وكان عددهم عشرون فرداً، فإذا استثنى المولى منهم أكثر من عشرة، فإنَّ الاستثناء يكون مستهجناً، سواء أكان الاستثناء بعنوان واحد أم بعناوين متعددة، إذ لا وجه عرفاً لإثبات حكم على عدد معيّن، ثمّ يستثني المولى أكثره بأي نحو كان هذا الاستثناء.

وأما القضية الحقيقيّة: فهي ما لو كان الحكم فيها ثابتاً للموضوع المقدّر وجوده، من دون النظر إلى الأفراد الخارجية، فإنَّه لا يكون الاستثناء بالغ ما بلغ مستهجنًا، مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾.

ثمَّ إنَّ أغلب الأحكام الشرعيّة واردة على نحو القضيّة الحقيقيّة الثابت فيها الحكم على تقدير وجود الموضوع.

إذا عرفت ذلك فنقول: هل قاعدة (لا ضرر) من قبيل القضيّة الحقيقيّة، أو القضيّة الخارجيّة؟

 


[1] العروة الوثقى (المحشاة): 2/ 171، م18.
[2] الوسائل باب1 من أبواب الأطعمة المحرمة ح1.