الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

39/03/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: لاضرر ولا ضرار(11)

 

بقي عندنا صورة: وهي ما لو كان تصرف المالك في ملكه بحفر البالوعة موجباً للضرر على الجار، وعدم التصرف فيه موجباً للحرج على المالك، إلا أنه ليس ضرراً عليه، ومرادنا من الحرج المشقة الشديدة التي لا تُتَحمل عادة لا مجرد الكلفة والضيق. كما لو ترك ماء الإستعمال في الدار، فإنه وإن لم يوجب الضرر عليه إلا أنه يوجب الحرج الشديد عليه والمشقة.

وعليه فقاعدة «نفي الحرج» تتعارض مع قاعدة «نفي الضرر» ولا موجب لتقديم قاعدة «نفي الحرج» على قاعدة «نفي الضرر» لأنهما في مرتبة واحدة وكل منهما قاعدة امتنانية.

والخلاصة أنَّ ما قلناه في صورة دوران الضرر بين المالك والجار يأتي هنا.

نعم لو لم يتضرر المالك بترك الحفر ولم يكن ذلك أيضاً حرجياً عليه، بل كان الضرر فقط على الجار بحفر البالوعة، ففي هذه الحالة لا يجوز للمالك الحفر في ملكه، لحرمة الإضرار بالغير فضلاً عن الجار كما انه يضمن له ما اتلفه لقاعدة الاتلاف «مَن أتلف مال الغير فهو له ضامن».

 

[تنبيهات قاعدة لا ضرر]

 

التنبيه الأول: قد ذكرنا سابقاً أنّ قاعدة «لا ضرر» معناها عدم تشريع الحكم الذي يلزم منه الضرر، وبما أنها قاعدة امتنانية فتختصّ حينئذٍ بنفي الحكم الإلزامي من الوجوب والحرمة، لأن الحكم الإلزامي هو الذي يوقع المكلف في الضرر دون الحكم الترخيصي فإنه لا يوقعه في الضرر.

وعليه فلا يكون مشمولاً للقاعدة لأنّ المولى إذا رَخّص في شيءٍ وكان ضررياً وأقدم العبد على ارتكابه فيكون الضرر في هذه الحالة مستنداً إلى العبد، إذْ الشارع المقدس لم يلزمه بالإتيان به حتى يكون الضرر من الحكم الشرعي.

والخلاصة أن قاعدة "لا ضرر» لا تنفي الحكم الترخيصي لأن نفيه يكون خلاف الامتنان، إذْ ارتكاب الضرر في تلك الحالة لم يكن ناشئاً من إلزام الشارع، بل العبد أقدم باختياره على ارتكابه، وليس حال «نفي الضرر» إلا كحال «نفي الحرج» المستفاد من أدلة نفي الحرج، فكما أن المنتفي بها هو الحكم الإلزامي الموجب لوقوع المكلف في الحرج دون الترخيص. إذ الترخيص في شيء حرجي لا يكون سبباً لوقوع المكلف في الحرج، فكذلك قاعدة «نفي الضرر».

ومن هنا نحكم بصحة الوضوء والغسل الحرجييّن أو الضررييّن.

والوجه في ذلك أن الوضوء مستحب في نفسه، وكذا الغسل، وقد عرفت أن دليل «لا ضرر» و «لا حرج» ينفيان الأحكام الإلزامية التي يلزم منها الضرر والحرج، دون الأحكام غير الإلزامية كالاستحباب والإباحة.

وعليه فالضرر والحرج في موارد الإباحة والاستحباب مستند إلى اختيار المكلف وإرادته، وليس مستنداً إلى الشارع المقدس، لأن المكلف هو الذي أقدم على الوضوء الضرري والحرجي، إذْ الشارع لم يلزمه بذلك، بل رخّص له ترك المباح والمستحب، وقد عرفت أن الحكم غير الإلزامي ليس منفياً، فالوضوء الضرري والحرجي في هذه الحالة وإن كان وجوبه منفياً بأدلة «نفي الضرر والحرج» إلا أن استحبابه ليس منفياً بل هو باقٍ على حاله. فيصح حينئذٍ الاتيان بالوضوء الضرري أو الحرجي بداعي استحبابه النفسي، وكذا الحال في الغسل الضرري أو الحرجي، ولا يصح نفي الوضوء الضرري أو الحرجي هنا، لأن نفيه بقاعدتَي «نفي الضرر والحرج» منافٍ للامتنان، وكذا الغسل.

هذا كله إذا لم يكن الوضوء الغسل الضررييّن محرماً.

أما لوكان محرماً كما لو أدى إلى هلاك النفس أو قطع عضوٍ من أعضاء المكلف فيبطل حينئذٍ لأن الوضوء والغسل في هذه الحالة يكونان مبغوضين ويمتنع أن يكون محبوباً ومقرباً إلى الله تعالى. والله العالم.

 

التنبيه الثاني: أن موضوع قاعدة «لا ضرر» هو الضرر الشخصي لا الضرر النوعي، إذ مقتضى كون قاعدة «لا ضرر» امتنانية هو ذلك، إذ لا مِنّة في رفع الحكم بالنسبة إلى غير المتضرر. فلو كان زيد متضررا من الوضوء فوجوبه منفي بالنسبة إلى زيد المتضرر، ولا موجب لنفي وجوب الوضوء عن غيره الغير متضرر، بل هو خلاف الامتنان. ولا فرق فيما ذكرناه بين العبادات والمعاملات.

أما ما ذكره بعض الأعلام ومنهم الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله) في الرسائل من: التفصيل بين العبادات والمعاملات بكون الضرر شخصياً في العبادات ونوعياً في المعاملات في غير محله.

ولعل منشأ توهم التفصيل هو التمسك بقاعدة «نفي الضرر» لثبوت خيار الغبن في البيع، مع أن الضرر لا يكون في جميع مصاديق خيار الغبن. والنسبة بين الضرر وثبوت خيار الغبن هي: «العموم والخصوص من وجه»، إذ قد يكون الخيار ثابتاً مع عدم تحقق الضرر، كما إذا اشترى زيد من عمرو سلعةً وكان مغبوناً فيها، بأن اشتراها بأكثر من ثمنها المتعارف شراؤها به وكان جاهلا، ثم ارتفعت قيمة السلعة حين ظهور الغبن بما يتدارك به الغبن.

وعليه فلا يكون الحكم باللزوم في مثله موجباً للضرر على المشتري.

وقد لا يكون الخيار ثابتاً مع تحقق الضرر، كما إذا كان البيع غير مشتملٍ على الغبن ولكن تنزلت السلعة من حيث قيمتها السوقية.

وقد يجتمعان في موارد كثيرة كما هو واضح. ولأجل ذلك ذكروا أن الضرر في المعاملات نوعي لا شخصي.