الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

39/03/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: لاضرر ولا ضرار(10)

 

لا زال الكلام في تعارض الضررين، وقلنا أنّ عندنا مسائل ثلاثة: المسألة الأولى أن يكون عندنا ضررين على شخص واحد.

المسألة الثانية أن يكون عندنا ضرر على شخصين.

المسألة الثالثة أن يكون عندنا ضرر واحد على شخصين.

وذكرنا المسألة الأولى بالتفصيل.

أما المسألة الثانية: ما لو دار أمر الضرر بين شخصين. كما إذا أدخل حيوان رأسه في قِدرِ شخصٍ آخر، فإنّ تخليص الحيوان موقوفٌ على كسر القِدرِ، وتخليص القِدرِ موقوفٌ على ذبح الحيوان وفي المسألة ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن يكون ذلك بفعل أحدهما، كما لو أدخل مالك الحيوان رأسَ دابته في قِدرِ الغير، فالحكم في هذه الصورة لزوم تخليص القِدرِ من دون لزوم ضمان على صاحب القِدرِ بذبح الحيوان، لأن مالك الحيوان هو المعتدي والمفرّط وليس له كسر القِدرِ ودفع قيمتها لكونه تصرّفاً في مال الغير بدون إذنه، ومتى أمكن ردُّ العين وجب ردّها، ولا تصل النوبة إلى المِثل أو القِيمة.

الصورة الثانية: أن يكون ذلك بفعل شخصٍ ثالثٍ غير المالكَيْنِ. وعليه فيتخيَّر في إتلاف أيهما شاء، ويضمن مِثْلَه أو قِيمَته لمالكه، لأنه هو المعتدي، ولَمّا تعذّر عليه ردُّ كلٍّ من العينين بخصوصهما إلى أصحابهما، فلا بدَّ حينئذ من ردِّ أحدهما بخصوصها إلى مالكها، والأخرى بماليّتها من المثل أو القيمة.

الصورة الثالثة: أن يكون ذلك مستنداً إلى آفّةٍ سماوية، لا إلى فعل شخص. والإنصاف في هذه الصورة هو أنه إذا رَضِيَ كلّ من المالِكَيْن بتقسيم الضرر عليهما، سواءٌ كان على نحو المناصفة أو بالتفاوت، فَبِها ونِعمَت، والصلح سيد الأحكام، وإلا فيترافعان عند الحاكم الشرعي. وقد ذكر الأعلام أنه في هذه الحالة أنَّ الحاكم له إتلاف أيهما شاء، وتقسيم الضرر بينهما بقاعدة «العدل والإنصاف» الثابتة عند العقلاء.

وأما إن كان أحدهما أقل قيمة من الآخر فليس للحاكم إلا إتلاف ما هو أقل قيمة، لأنَّ إتلاف ما هو أكثر قيمة سبب لزيادة الضرر على المالِكَيْن بلا سبب.

أقول إنَّ هذه القاعدة في نفسها غير تامة إذْ لم يثبت بناءٌ ولا سيرةٌ من العقلاء على ذلك حتى تكون ممضاة لدى الشارع. اللهم إلا اذا تصالحا وتراضيا على التقسيم على وجه التنصيف فإنه أمر آخر، وإلا فجريان السيرة على ذلك بالتعبد من العقلاء أو الشارع استناداً إلى ما يسمى بقاعدة "العدل والإنصاف» لا أساس له وإن كان التعبير حسناً مستحسناً.

أقول: نعم جرت هذه القاعدة «العدل والإنصاف» في موردين للروايات الخاصة: المورد الأول في مسألة «الوَدَعي» في الدرهم التالف المردد بين كونه لصاحب الدرهم أو الدرهمين.

المورد الثاني: فيما لو تداع شخصان مالاً، وأقام كل منهما بينة.

والخلاصة أن حالتنا هذه تكون من باب الصلح القهري كما لا يخفى والله العالم.

 

المسألة الثالثة: فيما لو دار الأمر بين ضرر نفسه وغيره، كما إذا حفر في داره بالوعةً بحيث كان ذلك موجباً للضرر على الغير، وَتَرْكُ الحفر موجبٌ لضرر نفسه بحيث إذا لم يحفر بالوعة في داره لذهبت مياه الاستعمال الى جدران داره فَتُوجِبْ خرابها.

والإنصاف أن قاعدة «لا ضرر» لا تجري في هذه الصورة، لأنَّ هذه القاعدة امتنانية، فلا تجري في مورد كان خلاف الامتنان على أحد المسلمين.

وعليه فلو تمسك بها مالك الدار لكان خلاف الامتنان على الجار. وإذا تمسك بها الجار فهي خلاف الامتنان على المالك، فتسقط حينئذٍ. فإن كان هناك إطلاقٌ يدل على جواز تصرف المالك في ملكه، فيؤخذ به كما في المقام فإنه يصح التمسك بقاعدة «الناس مسلطون على أموالهم» ولا معارض لها.

نعم لو فرضنا عدم وجود الإطلاق فالمعروف فيه أنه يُرجع الى «الأصل العملي الشرعي»، وهو أصالة البراءة عن حرمة التصرف.

ولكن ذكرنا أن حديث الرفع حديثٌ امتناني، فلا يجري في موردٍ كان فيه خلاف الامتنان كما في المقام، فإن جريان البراءة الشرعية بالنسبة الى المالك مخالفٌ للامتنان على الجار.

نعم يمكن القول بجريان «البراءة العقلية»، لأنَّ موضوعها عدم البيان وهو مُحْرَزٌ فيقبح العقاب بلا بيان. هذا كله بالنسبة للحكم التكليفي.

أما بالنسبة للحكم الوضعي وهو ضمان النقص الوارد على الجار بسبب تصرف المالك في ملكه فنقول: أنَّ مقتضى الإنصاف هو ضمان المالك، لأنّه وإن جاز له التصرف بملكه لقاعدة «الناس مسلطون على أموالهم»، إلا أنه لا ملازمة بين جواز التصرف وعدم الضمان، فنحكم بالضمان لقاعدة الإتلاف «مَن أتلف مال الغير فهو له ضامن» وهي مطلقة تشمل تصرف المالك في ملكه إذا لزم منه الضرر على الغير.

لا يقال: إنّ الضمان ضررٌ على المالك وبالتالي فهو منفي بقاعدة «نفي الضرر».

فإنَّه يقال: أن هذه القاعدة لا تجري هنا لأنَّ الحكم بالضمان ضرريٌّ في جميع موارده.

وقد ذكرنا سابقاً أنَّ الأحكام التي يكون موضوعها نفس الضرر لا يمكن رفعها، لأنَّ الموضوع بمنزلة العلة التامة للحكم، فيكون مقتضياً للحكم فكيف يرفعه، وهذا خلف.

وعليه، فحديث «نفي الضرر» يكون حاكماً على أدلة الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية كوجوب الوضوء ونحوه الذي قد يكون ضررياً وغير ضرري، فنقيدها بصورة عدم الضرر.