الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

39/02/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: لاضرر ولا ضرار(9)

لا زال الكلام في تقديم قاعدة «لا ضرر» على على أدلة الأحكام الثابتة للأفعال بعناونها الأولية. وقلنا أن هذا التقديم من باب الحكومة. وقلنا أن دليل الحاكم يقدم على الدليل المحكوم بلا ملاحظة النسبة بينهما، وبلا ملاحظة الترجيحات الدلالية والسندية.

والسرّ فيه:

أنَّ الدليل الحاكم إن كان ناظراً إلى عقد الوضع -بالتوسعة أو التضييق- فالوجه في عدم ملاحظة النسبة عند تقديم الدليل الحاكم واضح. لأن القضية الحقيقية المتكفلة لإثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع، لا تتعرض لبيان وجود الموضوع نفياً وإثباتً. فإن مفاد قولنا الخمر حرام إثبات الحرمة على تقدير وجود الخمر، وأما كون هذا المائع خمراً أو ليس بخمر فهو أمر خارج عن مدلول الكلام. وحيث أن دليل الحاكم شأنه التصرف في الموضوع، فلا منافاة بينه وبين الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على أن هذا المائع ليس بخمر. وكذا لا منافاة بين قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾. وبين قوله (عليه السلام): «ليس بين الرجل وولده وبينه وبين عبده ولا بينه وبين أهله ربا». إذ مفاد الأول ثبوت الحرمة على تقدير وجود الربا ومفاد الثاني عدم وجوده وبعد انتفاء الربا بينهما ينتفي الحرمة قطعاً.

هذا كله إذا كان الدليل الحاكم ناظراً إلى عقد الوضع.

وأما إذا كان الدليل ناظراً إلى عقد الحمل فالوجه في تقديمه عليه، هو أن حجية الظهور ثابتة ببناء العقلاء، فإن السيرة العقلائية قد استقرت على كون الظاهر هو المراد الجدي. ومورد هذا البناء هو الشك في المراد. وبعد ورود الدليل الدال على بيان المراد لا يبقى شك حتى يعمل بالظهور فيكون الدليل الحاكم مبيّناً للمراد من الدليل المحكوم، وبه يرتفع الشك.

وعليه فلم يبق مورد للعمل بأصالة الظهور. وهذا هو السر في تقديم الحاكم على المحكوم من دون ملاحظة النسبة والترجيح بينهما والله العالم.

هذا تمام الكلام في نسبة القاعدة مع أدلة الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية.

وأمَّا نسبة قاعدة لا ضرر مع أدلة الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الثانوية -غير عنوان الضرر- كأدلة نفي العسر والحرج ونحوها. كما إذا حفر بالوعة في ملكه مضراً بجاره، ولو لم يحفر البالوعة لكان حرجاً على نفسه، ففي هذه الحالة يقع التنافي بين قاعدة «لا ضرر» وبين أدلة «نفي الحرج»: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ وكل منهما عنوان ثانوي. وقد ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): أنه يعامل معهما معاملة المتعارضين إن كان المقتضي للحكم في أحدهما دون الآخر فيرجح ذو المزيّة منهما على الآخر. وعلى تقدير التكافؤ يتخير بينهما أو يتساقطان ويرجع إلى الأصل العملي إن لم يكن هناك عموم أو إطلاق دلّ على جواز تصرف المالك في ملكه -على الخلاف في المسألة-. وإن كان المقتضي في كليهما موجوداً فيعامل معهما معاملة المتزاحمين فيقدم الأقوى منهما مناطاً وإن كان أضعف سنداً.

أقول: قد يشكل في المقام وأن المسألة لا تدخل لا في باب التزاحم ولا في باب التعارض، بل اللازم إجراء حكم تعارض الضررين -الذي سيأتي حكمه- والسرّ في عدم دخول المسألة لا في باب التعارض ولا في باب التزاحم هو أن أدلة نفي الحرج ونفي العسر كأدلة نفي الضرر إمتنانية، لا تجري في مورد يلزم من إجرائها خلاف الامتنان. وعليه فنفي الضرر إذا كان يلزم منه الحرج فهو خلاف الامتنان فلا يجري. كما أن نفي الحرج إذا كان يلزم منه الضرر فهو خلاف الامتنان فلا يجري أيضاً. فدليل كل منهما قاصر عن الشمول لمورد الآخر فلا يجتمعان حتى يعمل فيهما قواعد التزاحم أو التعارض. وسيأتي تحقيق الحال إن شاء الله تعالى عند الكلام عن تعارض الضررين والله العالم.

 

*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): وأما لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه أن الدوران إن كان بين ضرري شخص واحد أو إثنين، فلا مسرح إلّا لاختيار أقلهما لو كان، وإلاّ فهو مختار ...*

ما ذكرناه سابقاً كان راجعاً إلى حكم تعارض دليل نفي الضرر مع دليل حكم العنوان الأولي والثانوي -غير عنوان الضرر- وقد عرفت ما هو الإنصاف في المسألة.

وأما هنا فيقع البحث في نسبة دليل نفي الضرر مع مثله ويعبّر عنه بتعارض الضررين.

أقول: عندنا مسائل ثلاث: المسألة الأولى أن يكون عندنا ضررين على شخص واحد. المسألة الثانية أن يكون عندنا ضرر على شخصين. المسألة الثالثة أن يكون عندنا ضرر واحد على شخصين.

أما المسألة الأولى: ما لو دار أمر شخص واحدٍ بين ضررين، بحيث لا بدّ له من الوقوع في أحدهما. وفيها ثلاث أقسام:

القسم الأول: أن يكون كلّ من الضررين مباحين، بناء على ما هو الصحيح من عدم حرمة الإضرار بالنفس إلا في حال التهلكة. أو ما كان مبغوضاً في الشريعة المقدسة كقطع الأعضاء ونحوها حيث ثبت حرمة التهلكة وقطع الأعضاء. وأما ما عداهما فلا يحرم، إذ العقل لا يرى محذوراً في إضرار الإنسان بنفسه، بأن يتحمل ما يضرّ ببدنه فيما إذا كان له غرض عقلائي. كما أن العقل لا يرى محذوراً في إضرار الإنسان بماله بأن يصرفه كيف يشاء بداعٍ من الدواعي العقلائية ما لم يبلغ حدّ الإسراف والتبذير. كما أنه لا يوجد في الروايات ما يدل على حرمة الإضرار بالنفس إلا بعض الروايات وهي ليست تامة سنداً ولا دلالة ولا حاجة لبيانها.

والخلاصة أنه إذا دار أمر شخصٍ بين ضررين مباحين فيختار أيهما شاء بلا إشكال.

القسم الثاني: أن يكون أحد الضررين جائز الإرتكاب، -كتلف المال وبعض الإضرار بالنفس- والآخر محرم الارتكاب كقطع بعض الأعضاء. فلا إشكال في لزوم اختيار فعل المباح وترك الحرام.

القسم الثالث: أن يكون كل من الضررين حراماً كما لو دار الأمر بين قطع أحد عضويين من أعضاء الإنسان. فإن كان أحد الضررين أقل من الآخر ففي هذه الحالة لا بدّ له من اختيار ما هو أقل ضرراً واجتناب عمّا ضرره أكثر. وإن كان كل من الضررين متساويين يكون مخيراً في الاجتناب عن أيهما شاء.

(منقول من الموقع: http://al-roumayte.com/subject.php?id=1407