الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

39/02/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: لاضرر ولا ضرار(5)

كان الكلام في المعنى الثاني، وهو حمل كلمة (لا) على نفي الحقيقة، بلحاظ نفي الحكم والآثار والخواصّ.

وبعبارة أخرى: المنفي هو الحكم بلسان نفي الموضوع، فيكون المقصود نفي الحكم الثابت للطبيعة ضمن هذا الفرد.

وقد ذهب إلى هذا المعنى جماعة من الأعلام، منهم صاحب الكفاية (رحمه الله).

ويرد عليه: أنّه يعتبر في نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أن يثبت للطبيعة المنفيَّة حكم شرعيّ، أو عرفي، أو أيّ أثر، حتّى يكون النفي بلحاظ ذلك الحكم أو الأثر، كما ورد في نهج البلاغة في الخطبة السابعة والعشرين: (يا أشباه الرّجال ولا رجال)، ومرسلة الشَّيخ الطُّوسي (رحمه الله) المتقدِّمة (قال: قال النّبيّ (صلى الله عليه وآله): لا صلاة لجار المسجد إلَّا في مسجده)، حيث إنَّ للرِّجولة والصلاة آثارًا وخواصًّا.

إذا عرفت ذلك فنقول: هل تنطبق مسألة (نفي الحكم بلسان نفي الموضوع)، على محلِّ البحث أم لا؟

أقول: مسألة (لا ضرر ولا ضرار)، ليست من هذا القبيل، إذ الأحكام والآثار التي يكون موضوعها نفس الضَّرر لا يمكن رفعها، لأنَّ الموضوع بمنزلة العلَّة التامَّة للحكم، فلا يمكن رفع الحكم برفع الموضوع إلَّا بالنسخ.

فمثلاً: الضَّمان الذي موضوعه الإضرار-كما في صحيحة أبي الصُّباح الكناني (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من أضرَّ بشيءٍ من طريق المسلمين فهو له ضامن)(1)- كيف يمكن رفعه ما دام الموضوع باقياً بدون النسخ، إذ الموضوع بمنزلة العلَّة التامَّة له.

وعليه، فلا يمكن رفع الأحكام المترتِّبة على موضوع الضَّرر بقاعدة (لا ضرر).

إن قلت: إنَّ مقصودنا الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأوليَّة إذا أصبحت ضرريَّةً، كوجوب الوضوء المرفوع عند صيرورته ضرريًّا.

قلت: أمَّا الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأوليَّة -كوجوب الوضوء، ونحوه، والتي أُريد رفعها برفع الضَّرر فيما إذا كان الوضوء ضرريًّا- فهي ليست أحكاماً للضَّرر حتَّى تُرفع برفع موضوعه. بل هي أحكام للوضوء.

إن قلت: ما الفرق بينها وبين رفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع المتقدِّم، في مبحث البراءة، حيث كان الرفع رفعًا للحكم المتعلِّق بالفعل الصَّادر حال الخطأ والنسيان بلسان رفع الموضوع، مع أنَّ المرفوع في حديث الرفع هو نفس الخطأ والنسيان؟!

فَلْيكن المقام من هذا القبيل، فكما أنَّه ليس المنفي نفس حكم النسيان والخطأ، فكذلك (لا ضرر) فإنَّ المنفي هو حكم الفعل الضَّرري بلسان نفي الموضوع، وليس المنفيّ نفس حكم الضرر.

قلت: هناك فرق بينهما، وهو أنَّه في الخطأ والنسيان يتعيَّن أن يكون المرفوع فيهما هو الفعل الصَّادر عن خطأ أو نسيان، وذلك لانحصار المراد منهما بذلك، إذ لا يمكن رفع الخطأ والنسيان تكويناً، كما لا يمكن رفع الحكم الذي موضوعه الخطأ والنسيان، لأنَّ الموضوع بمنزلة العلَّة للحكم، فكيف يعقل أن يكون رافعاً له؟!

وهذا بخلاف ما نحن فيه، إذ لا ينحصر النفي بنفي الضَّرر تكويناً حتَّى يكونَ ذلك مستلزماً للكذب، لوجود الضَّرر خارجاً، ولا بالحكم الذي موضوعه نفس الضرر حتَّى يكون ذلك مستحيلاً، باعتبار أنَّ الموضوع بمنزلة العلَّة للحكم.

بل هناك أمر ثالث: بأن يكون المنفيّ هو الحكم الضَّرري، كما هو مختار الشَّيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله)، وأغلب الأعلام، وسيأتي توضيحه -إن شاء الله تعالى-.

إن قلت: إنَّ قوله (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، كالنبويّ القائل: (لا رهبانية في الإسلام)[2]، فكما أنّه رُفِع حكم الرهبنة -وهي ترك الزواج بنيَّة أن الترك ثابت في الشَّريعة، على ما هو أحد معانيها، وهي المشروعيَّة التي كانت ثابتةً لها في الشَّريعة السَّابقة- فكذلك رفع حكم الضَّرر، وهو الإباحة الأصليَّة الثابتة للأفعال والأشياء.

قلت: أيضاً هذا في غير محلِّه، لأنَّ مرجع هذا إلى أنَّ المرفوع بقاعدة (لا ضرر) هو الضَّرر الجائز شرعًا والمأذون فيه.

ومرجعه أيضًا إلى أنَّ الضرر منهيّ عنه شرعاً، لأنَّه إذا لم يكن جائزاً فهو محرَّم، فيرجع إلى المعنى الأوَّل الذي اختاره شيخ الشَّريعة (رحمه الله)، وهو كون (لا) ناهية، والذي رده الآخوند نفسه.

ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ النبوي -وهو لا رهبانية في الإسلام- ضعيفٌ بالإرسال.

والخلاصة: أنَّ المعنى الثاني الذي ذهب إليه صاحب الكفاية (رحمه الله)، وجماعة من الأعلام، ليس تامًّا.

ـــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل باب 8 من أبواب موجبات الضمان ح2.

(2) دعائم الإسلام: ج2، ص193.