الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

38/03/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مناقشة دليل العقل على الاحتياط

هذا غاية ما قيل في تقريب انحلال العلم الإجمالي بالجامع وانقلابه حقيقة إلى العلم التفصيلي بالتكليف في أحد الطرفين معينا والشك البدوي في الآخر. وفيه مضافا إلى عدم تماميته في الطرق غير العلمية لعدم حصول العلم التفصيلي منها بالواقع، أنه يتم ذلك في صورة العلم بانطباق المعلوم بالإجمال، وهو الجامع على الفرد المعلوم حرمته تفصيلا، وإلاّ فلا يقتضي مجرّد تعلّق العلم الإجمالي بالجامع الانحلال بمجرّد قيام العلم التفصيلي على التكليف في بعض الأطراف فإنه كما يحتمل انطباقه على الطرف المعلوم حرمته تفصيلا، كذلك يحتمل بالوجدان انطباقه على الطرف الآخر، إذ ليس احتمال التكليف فيه بدويا محضا كسائر الشبهات البدوية، وإنما كان ذلك من جهة احتمال الانطباق المعلوم بالإجمال عليه، ومع هذا فكيف يمكن دعوى ارتفاع العلم الإجمالي بالتكليف وتبدله بالعلم التفصيلي بل وجود هذا الاحتمال حينئذ كاشف قطعي على بقاء العلم الإجمالي لكونه من لوازمه.

وبذلك يظهر فساد مقايسة المقام بباب الأقل والأكثر، لأن في الأقلّ والأكثر لا يكون في الأوّل إلا علم تفصيلي بوجوب الأقلّ والشك البدوي في الزائد حتى الارتباطي منه، وإنما الاجمال فيه في حدّي الأقلّ والأكثر لا بالنسبة إلى ذات التكليف.

وأمّا ما أفيد من البرهان المتقدم في وجه الانحلال واتحاد العلمين بأنه لولا الانحلال يلزم اجتماع العلمين في موضوع واحد. ففيه أنه يرد هذا المحذور بناء على تعلق العلم بالخارجيات، وإلاّ فبناء على ما هو التحقيق من تعلقه بالعناوين والصور الذهنية غايته لا بالنظر إليها استقلالا وبنحو التخلية في الذهن بل بالنظر إلى كونها مرآتا للخارج بنحو لا يرى بذاك النظر إلاّ الخارج من دون اقتضاء هذا النظر أيضا لسرايته من العناوين والصور الذهنية إلى وجود المعنون في الخارج، فلا يلزم هذا المحذور إذ نقول إن وجود الجامع وان كان متحدا في الخارج مع الفرد والخصوصية، ولكن بعد كونهما في الذهن صورتين متباينتين، وبعد فرض قيام العلم بمثل هذه الصور المتباينة بلا سراية إلى الخارج لا محذور حينئذ من تعلق العلمين بشيء واحد بتوسيط عنوانين الإجمالي والتفصيلي، إذ لا يلزم من مثله محذور اجتماع المثلين في موضوع واحد.

نعم لا بأس بدعوى الانحلال الحكمي فيه بتقريب انه مع قيام المنجز في أحد طرفي العلم الإجمالي علما كان أو أمارة أو أصلا يخرج العلم الإجمالي عن تمام المؤثرية في هذا الطرف لما هو المعلوم من عدم تحمل تكليف واحد لتنجيزين وبخروجه عن قابلية التأثر من قبل العلم الإجمالي مستقلا، يخرج المعلوم بالإجمال وهو الجامع عن القابلية المزبورة فلا يبقى مجال لتأثير العلم الإجمالي في متعلقه لأن معنى منجزية العلم الإجمالي هو كونه مؤثرا مستقلا في المعلوم على الاطلاق.

وهذا المعنى غير معقول بعد خروج أحد الأطراف عن قابلية التأثر من قبله مستقلا فلا يبقى في البين إلاّ تأثيره على تقدير خاص، وهو أيضا مشكوك من الاوّل، إذ لا يكون التكليف على ذاك التقدير متعلقا للعلم، فما هو المعلوم وهو الجامع المطلق القابل للانطباق على كل واحد من الطرفين غير قابل للتأثر من قبل العلم الإجمالي وما هو القابل لذلك، وهو الجامع المقيّد انطباقه على الطرف الآخر لا يكون من الاوّل معلوما لعدم قابليته للانطباق على الطرف المعلوم بالتفصيل، وبذلك يسقط العلم الإجمالي عن السببيّة للاشتغال بمعلومه بجعله في عهدة المكلف، وبسقوطه تجري الأصول النافية في الطرف الآخر.

هذا كلّه إذا كان العلم التفصيلي أو الأمارة مقارنا للعلم الإجمالي، وأمّا إذا كان سابقا على العلم الإجمالي فلا شبهة في أنه لا يكون بوجوده السابق منشأ لانحلال العلم الإجمالي من جهة وضوح أن العلم بالتكليف في كل آن، إنما يكون منجزا للتكليف في ذلك الآن لا أنه بحدوثه منجز إلى الأبد فلا بدّ من بقائه إلى زمان حدوث العلم الإجمالي كي بتأثيره في تنجيز التكليف في ذلك الآن يخرج العلم الإجمالي عن المؤثرية ومعه يرجع إلى العلم المقارن.

وأما إذا كان العلم أو الأمارة التفصيلية متأخرة عن العلم الإجمالي، ففي انحلال العلم الإجمالي بمثله مطلقا ولو حكما أو عدم انحلاله كذلك أو التفصيل بين سبق التكليف المعلوم بالتفصيل أو تقارنه للتكليف المعلوم بالإجمال وبين لحوقه بانحلال العلم الإجمالي حقيقة أو حكما في الأوّل وعدمه في الثاني وجوه وأقوال أقواها أوسطها. فإن توهم الانحلال في هذه الصورة ولو حكما مبني على تأثير العلم المتأخر في تنجيز التكليف السابق على وجوده وهو ممنوع أشد المنع لإمتناع تأثير العلم المتأخر في تنجيز التكليف فيما قبل وجوده فيبقى العلم الإجمالي السابق على حاله فيؤثر من حين حدوثه في الاشتغال بمعلومه، فيجب مراعاته بحكم العقل بالاجتناب عن الطرفين وقد عرفت في أكثر من مناسبة أن التنجيز إنما هو من لوازم العلم لا المعلوم.

ومن هنا قد يتوهم صحّة دعوى الاخباري وجوب الاحتياط في الشبهات بمقتضى العلم الإجمالي بالمحرمات الواقعية، حيث يقال إن العلم التفصيلي بالمحرمات بمقدار المعلوم بالإجمال، لمّا لم يكن سابقا أو مقارنا للعلم الإجمالي بالوجدان بل كان متأخرا عنه لوضوح عدم حصوله إلاّ بعد الرجوع إلى الأدلّة والسبر التام فيها.

فلا بدّ حينئذ بمقتضى البيان المزبور من الاحتياط في كل ما شك كونه من المحرمات الواقعية ولو بعد حصول العلم التفصيلي بجملة من المحرمات بمقدار المعلوم بالإجمال. ولكن هذا التوهم في غير محله لأنه إنما يتم ما ذكر إذا لم يحكم العقل بمنجّزية احتمال الطرق القائمة على ثبوت التكاليف في بعض الأطراف.