الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

38/02/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:

قوله: (وأمّا العقل فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان بما كان حجّة عليه فإنهما بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان وهما قبيحان بشهادة الوجدان ...الخ)[1] .

ذكرنا سابقا أنه استدل على البرائة بالأدلّة الأربعة، وقد ذكرنا ثلاثة منها: الكتاب العزيز والسنّة النبويّة الشريفة والاجماع. وبقي الدليل الرابع وهو العقل، وقد أكده الشيخ الأنصاري بحكم العقلاء، قال: (من الأدلّة حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف ويشهد له حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم اعلامه أصلا بتحريمه)[2] .

أقول من المتفق عليه بين الأعلام هو استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف، ومن الواضح أنه لا يكفي في صحة المؤاخذة استحقاق العقوبة مجرّد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلف، فإن وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ما لم يصل إليه.

وبعبارة أوضح ان مجرد انشاء التكليف لا يؤثر في الانبعاث نحو العمل أو الانزجار عنه ما لم يصبح فعليا ويصل إلى المكلف، لأن الذي يحرك المكلف نحو العمل انما هو العلم بالتكليف لا مجرد وجوده الواقعي. ومن هنا لا تكون مخالفة التكليف غير الواصل موجبة لاستحقاق العقاب لعدم كونه هتكا للمولى ولا ظلما عليه، فلا يصح المؤاخذة مع عدم وصوله إلى المكلف لعدم استثناد فوت غرض المولى إلى تقصيره بل مستند إلى عدم البيان فلو عاقبه المولى في هذه الحالة لكان عقابه ظلما ولا شك في قبحه عقلا.

ثم أنه قد يستشكل في الاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان على جريان البرائة في الشبهات الموضوعية باعتبار كون المراد بالبيان ما هو وظيفة الشارع، أعني بيان الأحكام الكلّية وليست وظيفته بيان الموضوعات المشتبهة، وانما هي وظيفة العرف وهذا هو الفارق بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية فإن مرجع الشبهة الحكمية إلى الشارع المقدس، وأما مرجع الشبهة الموضوعية فهو العرف، وعليه فتختص قاعدة قبح العقاب بلا بيان –أي بلا بيان من الشارع – بالشبهة الحكمية.

إذ ليس من شأن الشارع المقدس بيان الموضوعات الخارجية، وقد يجاب عن هذا الإشكال بأن بيان التكليف لا يختص بالشارع المقدس بل قد يكون بالعقل كما في موارد الملازمات العقلية، وعليه فيمكن إزالة الجهل في الشبهة الموضوعية بإرشاد عقله الذي هو بيان، وقد يجاب أيضا بأن الشارع وان لم يكن من شأنه بيان الموضوعات المشتبهة ولكن من شأنه بيان الاحتياط فيها فإذا لم يبيّن فيها جرى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. والخلاصة إلى هنا ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان تجري في الشبهات الموضوعية كما تجري في الشبهات الحكمية.

قوله: (ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته فلا يكون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم أنها تكون بيان ...الخ).

أشار بذلك إلى ما قد يتوهم في المقام، وهو ورود قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل على قاعدة قبح العقاب بلا بيان باعتبار انه يكفي في البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن الشك في التكليف يلازم الشك في الضرر، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل فيرتفع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف. وبعبارة أخرى ان المراد بالبيان الرافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليس خصوص الطريق الشرعي على الواقع كخبر الواحد بل المراد به كل ما يكون صالحا لتنجّز الخطاب ورافعا لقبح المؤاخذة على مخالفة التكليف واحتمال التكليف صالح لتنجيز الخطاب، ويكون بيانا مقتضيا للاحتياط، وبهذا المعنى تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا.

وفيه ان مورد قاعدة قبح العقاب يختلف عن مورد قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ولا يجتمعان في مورد واحد، وتوضيحه ان المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، امّا أن يكون هو الضرر الأخروي من العذاب والعقاب، وامّا أن يكون هو الضرر الدنيوي من نقص في الانفس والأطراف والاعراض، واما أن يكون هو المفسدة المقتضية لجعل الحرمة فإن المفاسد التي تبتنى عليها الاحكام قد لا ترجع إلى الضرر الدنيوي ولا إلى العقاب الأخروي فإنه يمكن أن تكون مناطات الأحكام أمورا أخر غير المضار الدنيوية والعقاب الأخروي.

وعليه فإن كان المراد من الضرر هو العقاب الأخروي فوجوب دفعه، امّا أن يكون نفسيا أو غيريا أو طريقيا أو ارشاديا، أما الوجوب النفسي فهو غير وارد إذ على تقدير الوجوب النفسي يكون العقاب على مخالفة نفسه لا على مخالفة التكليف الواقعي المجهول وأيضا لو كان الوجوب نفسيا لما صلح لتنجيز الواقع لعدم ارتباطه به مع أن غرض المستدل به هو تنجيز الحكم الإلزامي المجهول. مضافا إلى أن الوجوب النفسي يستلزم تعدد العقاب عند مصادفة احتمال التكليف للواقع ولا يمكن الإلتزام به.

والخلاصة أنه على تقدير الوجوب النفسي فهو لا يصلح لتنجيز الواقع المجهول لعدم ارتباطه به فيكون التكليف الواقعي غير واصل إلى المكلف، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا مانع وبها يرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، وامّا الوجوب الغيري فأيضا غير محتمل في المقام، إذ ليس هنا واجب نفسي يترشح منه وجوب غيري على دفع الضرر حتى يصير واجبا مقدّميا ويتوقف عليه امتثال الواجب النفسي.

وبالجملة فالالزام الواقعي المجهول لا يتوقف على دفع العقاب حتى يكون دفع العقاب واجبا غيريا بل دفع العقاب يحصل بامتثاله وهو من آثاره العقلية، واما الوجوب الطريقي فهو أيضا غير محتمل هنا لأن الوجوب الطريقي انما جعل لأجل تنجيز الواقع ويكون هو المنشأ لاستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي في صورة الإصابة ولولاه لما كان العقاب محتملا، وعليه فإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن الإلتزام بأن

وجوب دفع الضرر المحتمل طريقي إذ لو كان طريقيا لكان الوجوب في رتبة سابقة على احتمال العقاب لأن الوجوب الطريقي منشأ لاحتمال العقاب، مع أن احتمال العقاب مأخوذ في موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل فلا بدّ من تقدّمه عليه تقدم الموضوع على الحكم. مع أنه متأخر عنه رتبة كما عرفت، وبذلك يبطل القول بالوجوب الطريقي.

وعليه فإذا انتفى الوجب النفسي والغيري والطريقي فيتعين أن يكون وجوب دفع الضرر الأخروي ارشاديا محضا وليس فيه شائبة المولوية ولا يمكن أن يستتبع حكما شرعيا لأن حكم العقل في ذلك انما يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا يكون موردا لقاعدة الملازمة، ولكن ذلك فرع احتمال العقاب ومع عدم وصول التكليف لا بنفسه ولا بطريقه لا يحتمل العقاب ليجب دفعه فينتفي أيضا الوجوب الإرشادي ولذلك يكون حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واردا على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل.

وعليه فتختص قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بموردين: أحدهما الحكم الواقعي الواصل إلى المكلف المنجّز في حقه كما في العلم الإجمالي بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف. ثانيهما الحكم الواقعي الذي هو في معرض الوصول كالشبهة البدوية قبل الفحص، فإن احتمال العقاب في هذه الصورة قائم، وأما بعد الفحص فحيث انه لم يصل حكم المولى وخطابه بأي نحو من انحاء الوصول فلا حكم للعقل بمجرّد احتمال وجود الملاك اللازم الاستيفاء بوجوب الامتثال.

وبالجملة فالشبهة البدوية بعد الفحص لا يحتمل فيها العقاب لأن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب، وبذلك ظهر أن مورد كل من القاعدتين يغاير مورد الآخر ولا تنافي بينهما لعدم اجتماعهما في مورد واحد أصلا. هذا كله بناء على كون المراد من الضرر هو الضرر الأخروي.

وأما لو كان المراد من الضرر هو الضرر الدنيوي فيرد عليه. أوّلا ان ارتكاب الشبهة التحريمية وان كان يلزم منها احتمال المفسدة إلا انه لا يلازم احتمال المضّرة بل ربما يكون في ارتكاب الحرام المعلوم منفعة دنيوية فضلا عن ارتكاب المشتبه، فإن غصب مال الغير وان كان حراما وفيه مفسدة إلاّ أن فيه منفعة للإنسان. نعم قد يكون ارتكاب الحرام فيه مضرّة كشرب السم الذي فيه ضرر على البدن ولكن لا ملازمة دائما بين ارتكاب الحرام ولزوم الضرر الدنيوي.

وبالجملة فإن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية التي هي العلل للأحكام الشرعية، وهي التي توجب حسن الفعل أو قبحه وليست تابعة للمنافع والمضار الدنيوية. نعم قد يكون في بعض الضرر الدنيوي مفسدة يدركها العقل فيستقل بقبح الإقدام على الفعل ويتبعه حكم الشرع بحرمته لقاعدة الملازمة، فإن الحكم العقلي في ذلك واقع في سلسلة علل الأحكام، وكلّما كان الحكم العقلي واقعا في هذه السلسلة يكون موردا للملازمة فسيتتبعه الحكم الشرعي.

 


[1] كفاية الأصول، الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، ص343.
[2] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص56.