الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

38/02/02

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: مناقشة حديث الناس في سعة

قوله: (ومنها قوله عليه السلام الناس في سعة ما لا يعلمون فهم في سعة ما لم يعلم أو مادام لم يعلم وجوبه أو حرمته ...الخ)[1] .

أقول هذا الحديث بهذه الالفاظ غير موجود في كتبنا وانما هو محكي عن بعض كتب العامة. ونقل المحقق القمي (ره) الحديث بنحو آخر قال في القوانين: (الناس في سعة ممّا لم يعلموا ...الخ). ونقله في الحدائق هكذا: (الناس في سعة ما لم يعلموا ...الخ)[2] ومهما يكن فالرواية ضعيفة بالارسال.

نعم ورد في رواية ما يقرب منه لفظا ويوافقه معنى، وهي موثقة السكوني عن أبي عبد الله (ع): (ان أمير المؤمنين (ع) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين. فقال أمير المؤمنين (ع): يقوّم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له: يا أمير المؤمنين (ع) لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي. فقال: هم في سعة حتى يعلموا)[3] . ولكن هذه الموثقة موردها الشبهة الموضوعية وهو اللحم والخبز والجبن والبيض ولا اطلاق فيها.

وثانيا انها خارجة عن محل الكلام لأن الحل فيها مستند إلى أمارة وهي كون هذه الأمور في أرض المسلمين، وهي أمارة على التذكية فالحل فيها مستند إليها لا إلى قاعدة الحل. نعم باقي الامور في الرواية مستند إلى أصالة الطهارة.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أصل المطلب وهي الرواية التي ذكرها صاحب الكفاية والشيخ الانصاري وغيرهما من الاعلام وهي المرسلة المتقدمة، الناس في سعة ما لا يعلمون. قال الشيخ الانصاري: (فإن كلمة ما إما موصولة أضف إليها السعة وأما مصدرية ظرفية وعلى التقديرين يثبت المطلوب)[4] .

ووافقه على ذلك كثير من الاعلام منهم صاحب الكفاية. وحاصل الكلام ان كلمة (ما) إما موصولة قد أضيف إليها السعة بلا تنوين فحالها حال الموصول فيما لا يعلمون في حديث الرفع فنستدل بها على البرائة في الشبهات الحكمية الكلية والموضوعية، ولا يخفى ان الضمير العائد إلى الموصول محذوف أي الناس في سعة الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه وإما مصدرية ظرفية فيدل أيضا على المطلب لدلالتها حينئذ على ان المكلف في سعة ما دام جاهلا، وحيث انه لا بدّ للسعة من متعلق فليس متعلقها الموسع فيه الا الحكم الواقعي المجهول مطلقا سواء كان منشأ الشك والجهل به فقد النص أو اجماله أو تعارض النصين أم اختلاط الأمور الخارجية، ولكن حكي عن الميرزا النائيني انه بناء على ان كلمة (ما) مصدرية ظرفية لا يصح الاستدلال بالرواية، إذ المعنى حينئذ ان الناس في سعة ما داموا لم يعلموا، فيكون مفاد الرواية مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان فليس متعلق السعة الموّسع فيه هو الحكم الواقعي المجهول لتدل على المطلب.

وبناء عليه تكون أدلة وجوب الاحتياط بناء على تماميتها حاكمة على هذه الرواية لانها بيان. أقول ما ذكره الميرزا النائيني - بناء على كون كلمة (ما) مصدرية ظرفية – من عدم دلالة الرواية على المطلب هو الصحيح إذ لا حكم شرعي مجهول في موردها حتى يكون الناس في سعة منه فيكون مفادها مفاد قبح العقاب بلا بيان.

ولكن الانصاف ان كلمة (ما) ليست مصدرية ظرفية بل هي موصولة لان كلمة (ما) المصدرية لا تدخل على الفعل المضارع وانما تدخل على الفعل الماضي لفظا أو معنى فقط ولو سلّم دخولها على المضارع أحيانا فلا ريب في شذوذه، وعليه فلو تمت الرواية سندا لصحّ الاستدلال بها على المطلب

قوله: (لا يقال قد علم به وجوب الاحتياط فإنه يقال لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا...الخ).

أشار بذلك إلى إشكال الشيخ الانصاري، وحاصله ان أدلة الاحتياط واردة على هذا الحديث ورافعة لموضوعه وجدانا. وتوضيحه ان الشيخ استظهر من العلم بالحكم المجهول الذي كنّا في سعة منه، هو العلم بالوظيفة الفعلية مطلقا وان كانت حكما ظاهريا كوجوب الاحتياط، فإذا لم يعلم المكلف بشيء من الحكم الواقعي والظاهري – الذي هو وجوب الاحتياط – فيكون حينئذ في سعة، وأما إذا علم بالحكم الواقعي أو بالوظيفة الفعلية التي هي وجوب الاحتياط فلا سعة له.

وعليه فإن الأخباريين يدعون العلم بوجوب الاحتياط الذي هو وظيفة الجاهل بالحكم الواقعي فيخرج العالم بوجوبه عن الجهل وعدم البيان، فيكون ما دل على وجوب الاحتياط رافعا للموضوع وهو عدم العلم وعدم البيان، ويكون واردا على هذا الحديث – أي الناس في سعة ما لا يعلمون- لانه عالم بالوظيفة الفعلية وهي وجوب الاحتياط وان كان جاهلا بالحكم الواقعي.

وحاصل الجواب عن إشكال الشيخ هو أن وجوب الاحتياط امّا أن يكون طريقيا أي شرّع لأجل حفظ الواقع المجهول فلا ثواب على موافقة أمر هذا الاحتياط كما لا عقاب على مخالفته بل الثواب والعقاب على موافقة الحكم الواقعي ومخالفته، وامّا أن يكون نفسيا بمعنى أنه يجب الاحتياط في نفسه بفعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة، وليس له نظر إلى الواقع المجهول أي ليس الامر بالاحتياط ناشئا عن مصلحة إدراك الواقع بل يكون ناشئا عن مصلحة في نفس الاحتياط كحصول قوة للنفس باعثة على الطاعات وترك المعاصي.

وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (ع) في مرسلة الصدوق: (حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك ما أشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك...الخ) [5] ، فإن حصول الملكات الحميدة والمذمومة تدريجي وللاحتياط في ذلك – أي ترك المشتبهات - أثر بيّن، وعليه فيترتب الثواب والعقاب على موافقة أمر هذا الاحتياط ومخالفته.

وعليه فإن كان وجوب الاحتياط طريقيا فلا يتم كلام الشيخ لان العلم بوجوب الاحتياط طريقيا لا يستلزم العلم بالوجوب أو الحرمة الواقعيين، فالمكلف لا زال جاهلا بالحكم الواقعي فلم تتحقق الغاية – وهي العلم بالحكم الواقعي – بمجرد العلم بوجوب الاحتياط.

واما ان كان وجوب الاحتياط نفسيا فيذكر صاحب الكفاية ان ما ذكره الشيخ يكون تامّا لأن المكلف بعد العلم بوجوب الاحتياط يقع في الضيق لكون وجوبه حينئذ ممّا يعلم فيكون رافعا لموضوع حديث السعة فيقدم عليه، وبالجملة فمع العلم بوجوب الاحتياط لا يبقى موضوع لحديث السعة ولكن وجوبه النفسي غير ثابت بل الوجوب طريقي شرّع لأجل الحفاظ على الواقع المجهول وعدم الوقوع في مخالفة الواجب أو الحرام.

أقول مقتضى الانصاف ان أدلّة الاحتياط – لو تمّت – لا تكون واردة على هذا الحديث وان قلنا بأن وجوب الاحتياط نفسي لأنها لا توجب العلم بالحكم الواقعي فلا يخرج بها المكلف عن كونه ممّا لم يعلم. وعليه فلّو تمّت أدلة الاحتياط تكون معارضة لهذا الحديث لا واردة وعليه لما عرفت ان الغاية هي العلم بالحكم الواقعي والعلم بوجوب الاحتياط وان كان نفسيا لا يستلزم العلم بالحكم الواقعي.

نعم لو كانت أدلة الاحتياط متكفلة لإثبات العلم بالواقع كالأمارات كانت حينئذ حاكمة على الحديث ولكن الامر ليس كذلك بل مفادها كما عرفت هو إثبات وجوب التوقف والاحتياط عند الجهل ومجرد صلاحيتها – بناء على الطريقية – لتنجيز الواقع عند الموافقة لا يقتضي كونها كاشفة عن الواقع. نعم لو كان العلم في الرواية كناية عن مطلق قيام الحجّة على الواقع لأمكن دعوى ورود أدلة ايجاب الاحتياط عليها، ولكنه خلاف ما يقتضيه ظهور الحديث من كون العلم الذي جعل الغاية هو العلم بالواقع، والذي يهوّن الخطب أن حديث السعة ضعيف كما عرفت، والله العالم.

قوله: (ومنها قوله (ع) كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ...الخ) [6] . من جملة الروايات التي استدل بها على البرائة مرسلة الشيخ الصدوق في الفقيه. قال: (وقال الصادق (ع):(كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي)، وهي ضعيفة بالإرسال وقد استدل بها الشيخ الصدوق على جواز القنوت بالفارسية. قال في الفقيه: (وذكر شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه عن سعد بن عبد الله أنه كان يقول لا يجوز الدعاء في القنوت بالفارسية، وكان محمد بن الحسن الصفار يقول: أنه يجوز والذي أقول به أنه يجوز لقول أبي جعفر (ع): (لا بأس أن يتكلم الرجل في صلاة الفريضة بكل شيء يناجي ربّه عز وجل)[7] . ولو لم يرد هذا الخبر لكنت أجزه بالخبر الذي روي عن الصادق (ع) أنه قال: (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي. والنهي عن الدعاء بالفارسية في الصلاة غير موجود. والحمد لله ربّ العالمين).


[1] كفاية الأصول، الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، ص342.
[2] الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني (صاحب الحدائق)، ج5، ص411.
[3] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج3، ص493، أبواب النجاسات والأواني والجلود، باب50، ح11، ط آل البیت.
[4] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص41.
[5] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص10.
[6] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص317.
[7] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص316.