الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

37/05/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أدلة الحرج حاكمة على الإحتياط

أمّا ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم صحّة حكومة أدلّة نفي العسر والحرج على قاعدة الإحتياط فلأن ظاهر أدلّة نفي العسر والحرج هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع حيث ان متعلق النفي في ظاهر أدلّة نفيهما انما هو فعل العسر أو الحرج كما في قوله (ع): (لا ربا بين الوالد وولده). ومعه لا تكون ادلّة نفيهما حاكمة على قاعدة الإحتياط إذ ليس في الفعل الذي تعلّق به التكليف في موردها عسر وحرج على المكلف وانما العسر والحرج في الجمع بين المحتملات إحتياطاً بحكم العقل.

وبالجملة الحاكم بوجوب الإحتياط المستلزم للعسر والحرج وان كان هو العقل إلا أن منشأ حكمه بذلك انما هو ثبوت الأحكام الواقعية وعدم سقوطها عن المكلف حال الجهل بها فالأحكام الشرعية هي التي توجب لزوم العسر والحرج على المكلف لا متعلق التكليف فلا تكون حينئذٍ أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على قاعدة الإحتياط بل حتى لو قلنا بأن العسر والحرج هنا في المتعلق ومع ذلك لا تكون أدلة نفيهما حاكمة على قاعدة الإحتياط.

وذلك ان أدلّة نفي العسر والحرج كأدلة نفي الضرر إنما تكون حاكمة على الأدلة الأوّلوية المتكفلة لبيان الأحكام المترتبة على الموضوعات الواقعية الشاملة بإطلاقها لحالة الضرر والعسر الحرج فلا بدّ وان يكون لمتعلق الحكم الواقعي حالتان: حالة يلزم منها الضرر والعسر والحرج وحالة لا يلزم منها ذلك لتكون أدلة نفيها حاكمة على دليل الحكم الواقعي وموجبة لنفي الحكم عن المتعلق أو الموضوع الذي يلزم منه الضرر والعسر والحرج.

وأمّا لو اختص الحكم الواقعي بما يلزم منه الضرر أو العسر أو الحرج دائماً بحيث لم يكن له حالة لا يلزم منها ذلك – كوجوب الخمس والزكاة والجهاد ونحو ذلك من الأحكام الضررية – فلا يمكن أن تكون أدلة نفي الضرر والعسر والحرج حاكمة على دليل الحكم ورافعة له، لأن الحكم رتّب من أول الأمر على الموضوع الضرري، فكيف يمكن أن يكون دليل نفي الضرر حاكماً على دليله، مع أن الضرر محقق لموضوع الحكم ومتعلقه فلا يعقل ان ينفيه.

والإحتياط في المقام يكون كالخمس والزكاة والجهاد ليس له حالة لا يلزم منها العسر والحرج فإن الإحتياط عبارة عن الجمع بين المحتملات من المظنونات والمشكوكات والموهومات في الوقايع المشتبهة، والإحتياط على هذا الوجه يوجب العسر والحرج دائماً. فإيجاب الإحتياط كإيجاب الخمس والزكاة لا يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على دليل إيجابه وموجبة لنفي وجوبه.

وأمّا الشيخ الأعظم ومن تبعه بإحسان فقد عرفت أنه ذهب إلى حكومة أدلة نفي العسر والحرج على قاعدة الإحتياط كحكومة أدلّة نفي الضرر على الأدلة الواقعية المتكفلة لإثبات الأحكام على موضوعاتها الواقعية الشاملة بإطلاقها لحالة العسر والحرج والضرر فإن أدلتها حاكمة على أدلة الأحكام الواقعية سواء أريد بأدلتها النهي كما التزم به بعضهم بأن يكون المراد النهي عما يوجب العسر والحرج على حدّ قوله سبحانه وتعالى:(فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ).

وقوله (ص):(ان الرهبانية لم تكتب علينا)، حيث أن المراد بالأول نهي المحرم عن الأمور المذكورة في الأية الشريفة. وبالثاني نهي المسلمين عن اتخاذ الرهبانية شعاراً لهم أو أريد بها النفي – كما هو الإنصاف – لا تكويناً لعدم صحة نفي العسر والحرج والضرر تكويناً، كما لا يبعد حيث ان الظاهر من قوله سبحانه وتعالى:﴿ولا يريد بكم العسر[1] . و﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ وقوله (ص):(لا ضرر ولا ضرار) هو نفي الأحكام العسريّة والحرجيّة والضرريّة في الشريعة المقدسة دون النهي عما يوجب ذلك.

فإنها على كلا التقديرين حاكمة على الأدلة الأولية ومبيّنة بأن المراد من الأحكام الثابتة بها انما هو ثبوتها فيما إذا لم تستلزم حرجاً أو ضرراً على المكلف دون ما إذا استلزمت ذلك. والحاكم بوجوب الإحتياط التام هنا المستلزم للعسر والحرج وان كان هو العقل إلاّ ان منشأ حكمه بذلك هو ثبوت الأحكام الواقعية وعدم سقوطها عن المكلف حال الجهل بها فالأحكام الشرعية هي التي توجب لزوم العسر والحرج على المكلف فتكون مرتفعة بأدلة نفيهما فيرتفع حكم العقل بوجوب الإحتياط بإرتفاعها وهذا هو الصحيح.

أما ما ذكره صاحب الكفاية فيرد عليه عدّة أمور: أولاً: ان ظاهر أدلة نفي العسر والحرج كأدلة نفي الضرر ليس هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بأن يكون النفي فيها ابتدائاً الفعل العسري والحرجي والضرري، إذ ليس المأخوذ لسان في أدلة نفيها عنوان الفعل وانما المأخوذ في لسانها عنوان العسر والحرج أو الضرر ومن الظاهر ان ذلك ليس عنواناً للفعل العسري والحرجي والضرري ليكون النفي راجعاً إليه.

ثانياً: ان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع انما تكون فيما إذا كان مدخول النفي موضوعاً ذا حكم، اما في الشرايع السابقة واما في زمان الجاهلية وإما في هذه الشريعة ليرد النفي على الموضوع بلحاظ نفي حكمه، كما في قوله (ص): (ان الرهبانية لم تكتب علينا)، وقوله تعالى: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج[2] ، وقوله (ع):(لا شك لكثير الشك)، (ولا سهو للإمام مع حفظ المأموم) ، وغير ذلك من القضايا التي يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع وفي مثل نفي الضرر والعسر والحرج لا يمكن ذلك فإن الحكم المترتب على الضرر مع قطع النظر عن ورود النفي عليه ليس هو إلا الحرمة فيكون مفاد قوله (ص):(لا ضرر...)، بناءً على أن يكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع – هو نفي حرمة الضرر، وهو كما ترى يلزم منه عكس المقصود فإن المقصود منه عدم وقوع الضرر لا عدم حرمته والترخيص فيه، وأمّا العسر والحرج فمع قطع النظر عن أدلة نفيهما فليس كل منهما موضوعاً لحكم في الشريعة ليكون نفي حكمهما بلسان نفيهما.

وثالثاً: ان توهم كون المفاد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع انما يكون في مثل قوله (ص):(لا ضرر ولا ضرار)، وأما قوله تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج[3] ، فهو ممّا لا سبيل له فإن النفي فيه ورد على الدين، وهو عبارة عن الأحكام والتكاليف الشرعية فمعنى قوله تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾، هو أنه لم يجعل في الأحكام حكماً حرجياً فالنفي من أول الأمر ورد على الأحكام لا على الموضوع حتى يتوهم أنه من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

رابعاً:ان وجوب الإحتياط يسقط عند بلوغه إلى حدّ العسر والحرج في أمثال المقام، ممّا تكون أطراف الشبهة من التدريجيات وان قلنا بعدم حكومة أدلة نفي العسر والحرج على قاعدة الإحتياط، لأنه انما يبلغ إلى حدّ العسر والحرج فيها بعد الإتيان بجملة من أطراف الشبهة ومن الظاهر أنه يعلم بسقوط التكليف حينئذٍ أما للاتيان بمتعلقه او لكونه عسراً وحرجياً على المكلف مثلاً إذا نذر المكلف صوم يوم معيّن ودار أمره بين يومين، وفرض أن صوم كل من اليومين حرجي عليه، فإنه إذا صام اليوم الأول يعلم حينئذٍ بسقوط التكليف عنه اما للإتيان بمتعلقه على تقدير كونه صوم اليوم الأول أو كونه حرجياً عليه على تقدير كونه صوم اليوم الثاني.

والمقام من هذا القبيل فإن المكلف إذا أتى بالمقدار الميسور من أطراف الشبهات الوجوبية وترك المقدار الميسور من أطراف الشبهات التحريمية يعلم بسقوط التكليف عنه بالإضافة إلى بقية الأطراف اما لإمتثاله على تقدير كونه في ضمن ما أتى به من الأطراف أو لكونه حرجياً

عليه على تقدير كونه في ضمن ما بقي منها فالتكليف الواقعي حين بلوغ الإحتياط إلى حدّ العسر والحرج في أمثال المقام يسقط سواء قلنا بحكومة أدلة نفي العسر والحرج على قاعدة الإحتياط أو قلنا بعدم حكومتها عليها وعليه، فلا تظهر الثمرة بين القولين هنا.

نعم تظهر الثمرة بينهما في مثل خيار الغبن بناءً على كون دليله قاعدة لا ضرر، كما عن الشهيد الثاني وغيره من الأعلام، حيث ان الضرر فيه ناشىء من حكم الشارع باللزوم دون الموضوع أعني به العقد فبناءً على كون المنتفي بها هو الموضوع الضرري لا تجري فيه القاعدة لتكون حاكمة على ادلة اللزوم لعدم ضرر في الموضوع بخلاف ما لو كان المنفي بها الحكم الناشىء منه الضرر فإن عليه تجري القاعدة وتكون حاكمة على أدلّة اللزوم.


[1] البقرة/السورة2، الآية185.
[2] البقرة/السورة2، الآية197.
[3] الحج/السورة22، الآية78.