الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

37/04/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الدليل العقلي على حجّية خبر الواحد

((فصل))

في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجّية خبر الواحد. أحدها أنه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الإئمة عليهم السلام بمقدار واف بمعظم الفقه بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لا نحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات ...ألخ)[1] .

أقول لا يخفى أن هذه الوجوه العقلية الثلاثة التي ذكرت في المقام لا تثبت حجّية الخبر وإنما غاية ما يترتب على صحتها هو لزوم العمل بالأخبار من باب الإحتياط ولكن بناءً على ما ذكروه من أنها تثبت حجّية الخبر فيكون الغرض من ذكر هذه الوجوه هو إثبات حجّية خبر الواحد بالخصوص في مقابل ما سيأتي من الوجوه العقلية المثبتة لحجّية مطلق الظن.

وقد ذكر هذا الوجه الأول الشيخ الأعظم وأشكل عليه بعدّة إشكالات لكن صاحب الكفاية تخلصاً عن الإشكال الأوّل – الذّي أشكله الشيخ الأنصاري – عدل عن بيان الشيخ لهذا الوجه. وأمّا تعريف الشيخ لهذا الوجه العقلي فهو قوله: (أولها ما اعتمدته سابقاً وهو أنه لا شك للمتتبّع في أحوال الرواة المذكورة في تراجمهم في أن أكثر الأخبار بل جلّها إلاّ ما شذّ وندر صادرة عن الإئمة (ع)، وهذا يظهر بعد التأمل في كيفية ورودها إلينا وكيفيّة إهتمام أرباب الكتب من المشايخ الثلاثة ومن تقدمهم في تنقيح ما أودعوه في كتبهم إلى أن... قال: والمقصود مما ذكرنا رفع ما ربما يكابره المتعسّف الخالي عن التتبّع من هذا العلم الإجمالي ثم إن هذا العلم الإجمالي إنما هو متعلق بالأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة وإلا فالعلم بوجود مطلق الصادر لا ينفع فإذا ثبت العلم الإجمالي بوجود الأخبار الصادرة فيجب بحكم العقل العمل بكل خبر مظنون الصدور لأن تحصيل الواقع الذي يجب العمل به إذا لم يكن على وجه العلم تعيّن المصير إلى الظن في تعيينه توصلاً إلى العمل بالأخبار الصادرة ...ألخ)[2] .

هذا وقد أشكل الشيخ على نفسه بثلاثة إشكالات: الأول ما حاصله: أن وجوب العمل بالأخبار الصادرة عن الإئمة (ع) ليس إلا من جهة كاشفيتها عن احكام الله الواقعية المدلول عليها بتلك الأخبار وعليه فالعلم الإجمالي بالأخبار الصادرة فيما بين أيدينا من الأخبار يساوق العلم الإجمالي بالتكاليف الشرعية، وحينئذ فنقول إن العلم الإجمالي بها ليس مختصاً بالأخبار بل العلم الإجمالي بها حاصل في مجموع ما بأيدينا من الأخبار والأمارات الأخر كالشهرة في الفتوى ونحوها، فهنا علم إجمالي حاصل في الأخبار وعلم إجمالي حاصل بملاحظة مجموع الأخبار وساير الأمارات ولذا لو فرضنا عزل طائفة من الأخبار بمقدار المعلوم بالإجمال منها وضممنا إلى الباقي ساير الأمارات كان العلم الإجمالي باقياً على حاله فلو كان العلم الإجمالي مختصاً بالأخبار فقط لانحل العلم الإجمالي بمجرّد عزل طائفة منها بمقدار المعلوم بالإجمال منها وإن انضم إلى الباقي ساير الأمارات.

وعليه فلا بد من الإحتياط في مجموع الأخبار وساير الأمارات ومع تعذّره أو تعسّره أو قيام الدليل على عدم وجوبه يرجع إلى كل ما أفاد الظن بصدور الحكم عن الحجّة سواء كان خبراً أو شهرة أو غيرهما.أقول هذا الإشكال الأول لا يرد على تقرير صاحب الكفاية وسنذكر إن شاء الله قريباً دفع هذا الإشكال.

والإشكال الثاني حاصله: ان اللازم من هذا العلم الإجمالي هو العمل بالظن في مضمون تلك الأخبار لا العمل بالظن في صدور تلك الأخبار وذلك لما عرفت من أن العمل بالخبر الصادر إنما هو بإعتبار كون مضمونه حكم الله الذي يجب العمل به، وحينئذٍ فكلمّا ظن بمضمون خبر منها ولو من جهة الشهرة على طبقه يؤخذ به ولو لم يكن مظنون الصدور وكل خبر لم يحصل الظن يكون مضمونه حكم الله لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصدور...ألخ.

وفيه إن هذا الإشكال غير مهم لأن المقصود من الإستدلال بهذا الوجه هو حجّية الخبر ولو في الجملة سواء كان مظنون الصدور أو مظنون المطابقة.

الإشكال الثالث: حاصله أنه لا يثبت بهذا الدليل إلا وجوب العمل بالخبر المثبت للتكاليف وأمّا الخبر النافي للتكليف فلا يجب العمل به وإن جاز ذلك إلاّ إذا كان في المسألة عموم أو إطلاق ونحوهما، ممّا يثبت التكليف وكان في الأخبار ما ينفيه لم يجز العمل بالنافي لأن الأخبار النافية وإن كنا نعلم إجمالاً بصدور كثير منها إلاّ أننا لا نعلم بصدور جميعها فلعل هذا الخبر النافي هو من الأخبار الغير الصادرة فلا يمكن رفع اليد عن الحجّة المثبتة للتكليف.

أقول هذا الإشكال الثالث وارد لا محالة ولا دافع له وعليه فلا يجب العمل بالخبر النافي للتكليف. وأمّا الإشكال الأوّل فيمكن الجواب عنه بأنه عندنا ثلاثة مراتب للعلم الإجمالي. الأولى العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بأيدينا من الأخبار. الثانية: العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بين الأخبار والأمارات الظّنية. الثالثة: العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في مجموع الوقائع المشتبهة المظنونة والمشكوكة والموهومة.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إن العلم الإجمالي في المرتبة الثالثة وإن كان يقتضي الإحتياط في جميع الوقائع المشتبهة إلا أنه ينحل بالعلم الإجمالي في المرتبة الثانية لإن المعلوم بالإجمال بين الوقائع المشتبهة المظنونة والمشكوكة والموهومة لا يزيد قدراً عن المعلوم بالإجمال بين جميع الأمارات الظّنية والذي يؤكد ذلك هو أنه لو عزلنا طائفة من الأمارات الظّنية بقدر المعلوم بالإجمال بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها عليها ثم ضممنا الوقايع المشتبهة إلى الباقي من الأمارات الظّنية لم يكن لنا علم إجمالي بتكليف بين الوقايع المشتبهة مع الباقي من الأمارات.

مثلاً لو فرضنا أن المتيقن من المعلوم بالإجمال بين الوقائع المشتبهة ألف حكم وفرضنا هذا القدر بين الأمارات الظّنية ألف حكم وعزلنا بذلك المقدار منها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعزول فلا يبقى العلم الإجمالي فيما بقي من الأمارات الظّنية ولو ضممنا إلى الباقي الوقائع المشكوكة لا يحصل لنا العلم الإجمالي بثبوت حكم فيما بين بقية الأمارات الظّنية والوقائع المشكوكة.

وعليه فالعلم الإجمالي الكبير الذي يكون منشأ العلم بثبوت التكاليف في الشريعة ينحل ببركة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف فيما بين الأمارات الظّنية المتوسط بين ذلك وبين العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار المودعة في الكتب.

وأيضاً العلم الإجمالي بالمرتبة الثانية ينحل بالعلم الإجمالي بالمرتبة الأولى الذي يكون أطرافه خصوص الأخبار لأنه لا يعلم بثبوت التكاليف أزيد ممّا في بين الأخبار فلا أثر للعلم الإجمالي بالمرتبة الثانية نظير ذلك ما لو علم إجمالاً بوجود عشر شياه موطوئة بوطىء الإنسان في قطيع غنم بعضه أسود وبعضه أبيض وعلم أيضاً بوجود عشر شياه موطوئة في القسم الأبيض منه فالعلم الإجمالي الأوّل ينحل بالعلم الإجمالي الثاني لأن إفراز عشر شياه موطوئة من قسم الأبيض يوجب زوال العلم الإجمالي بوجود الموطوئة في البقية وإن انضم إليها الغنم الأسود منه لإحتمال انطباق المعلوم بالإجمال في الجميع على ما أفرز من القسم الأبيض فلو احتمل وجود الموطوئة بعد ذلك فهو إحتمال بدوي غير معتمد على العلم الإجمالي.

نعم لو كان المعلوم بالإجمال في أطراف العلم الإجمالي الصغير أقل عدداً من المقدار المعلوم بالإجمال في أطراف العلم الإجمالي الكبير كما لو كان المعلوم بالإجمال في القسم الأبيض من قطيع الغنم في مفروض المثال سبع شياه فالعلم الإجمالي الصغير حينئذٍ لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير لإن إفراز السبع من القسم الأبيض لا يوجب زوال العلم الإجمالي بوجود عشر شياه موطوئة في المجموع لعدم انطباق العشرة على السبعة. والخلاصة إلى هنا أن العلم الإجمالي بالمرتبة الثانية ينحل بالعلم الإجمالي بالمرتبة الأولى.

ولكن العجب من الميرزا النائيني هو انكاره انحلال العلم الإجمالي بالمرتبة الثانية وأصرّ على أنه لا ينحل بالعلم الإجمالي بالمرتبة الأولى، حيث ذكر أن الأمارات الظّنية ما عدا الأخبار لو لم تكن بنفسها متعلقة للعلم الإجمالي فلا أقل من كونها من أطراف العلم الإجمالي لأن متعلق الإجمالي هو المجموع من الأخبار ومن بقية الأمارات الظّنية، وهذا لا ينافي أن تختص الأخبار بعلم إجمالي آخر فيما بينها وليس العلم الإجمالي في المجموع مستنداً إلى العلم الإجمالي في الأخبار لينحل العلم الإجمالي فيه بالعلم الإجمالي فيها. وقد أطال الكلام في بيان ذلك.

ولكن الإنصاف هو ما قلناه فإذا كنّا نعلم إجمالاً بثبوت ألف حكم الزامي بين الأخبار التي بأيدينا والأمارات الظّنية مثل الإجماع والشهرة الفتوائية ونحوهما. ونعلم أيضاً بثبوت ألف حكم الزامي في خصوص الأخبار التي بأيدينا فينحل العلم الإجمالي الأوّل لأنه لا يزيد عدداً عن الثاني. والذي يؤكد ذلك هو أنه عزلنا طائفة من الروايات بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعزول فينحل العلم الإجمالي المتعلق بالأخبار والأمارات الظّنية لأن المقدار المعلوم بوجود الأحكام في الأمارات الظنية والأخبار لا يزيد على الأحكام الموجود في خصوص الأخبار فكيف لا ينحل.


[1] کفاية الاصول، الآخوند الخراساني، ص304.
[2] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص351.