الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

37/01/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حجّية قول اللغوي

قال صاحب الكفاية: (وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى لإنسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أوخروجه وإن كان المعنى معلوماً في الجملة. لا يوجب اعتبار قوله ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام كما لا يخفى ...ألخ).

هذا هو الدليل الرابع على حجّية قول اللغوي، وحاصله التمسّك بالإنسداد الصغير، وتوضيحه ان إنسداد باب العلم في بعض الموضوعات التي يتوقف عليه العلم بالحكم إن أوجب إنسداد باب العلم في معظم الأحكام بحيث استلزم منه الخروج عن الدين أو العسر والحرج عند إعمال الأصول النافية أو العمل بالإحتياط فهو يرجع إلى الإنسداد الكبير كما لو فرض انسداد باب العلم بوثاقة الرواة وانحصر الطريق بالظنون الحاصلة من توثيقات أهل الرجال فإن إنسداد باب العلم في ذلك يوجب إنسداد باب العلم في معظم الأحكام لأن غالب الأحكام إنما تثبت بأخبار الآحاد فإنسداد باب العلم بوثاقة الرواة يستلزم انسداد باب العلم في معظم الأحكام ويرجع إلى الإنسداد الكبير حكماً وان كان بحسب الإصطلاح يسمّى الإنسداد الصغير، وتوضيح الفرق بين الإنسداد الصغير والإنسداد الكبير يتوقف على بيان كيفيّة إستفادة الحكم الشرعي فنقول إن إستفادة الحكم الشرعي من الخبر يتوقف على أمور:

الأول: العلم بصدور الخبر.

الثاني:العلم بجهة صدوره من كونها لبيان حكم الله الواقعي لا للتقية ونحوها.

الثالث: كون الخبر ظاهراً في المعنى المنطبق عليه.

الرابع:حجّية الظهور ووجوب العمل على طبقه.

فهذه الأمور لا بدّ من إثباتها في مقام إستنباط الحكم الشرعي من الرواية وإقامة الدليل على كل واحد منها. فإن لم يقم الدليل على شيء منها وانسّد طريق إثباتها فلا بدّ حينئذٍ من جريان مقدمات الإنسداد لإثبات حجّية مطلق الظن بالحكم الشرعي. وقد جرى الإصطلاح على التعبير عن ذلك بالإنسداد الكبير وان قام الدليل على إثبات بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية دون بعض كما لو فرض أنه قام الدليل على الصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ولكن لم يمكن تشخيص الظهور وتوقف على الرجوع إلى كلام اللغوي في تعيين أن اللفظ الكذائي كلفظ الصعيد مثلاً موضوع للمعنى الكذائي ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار قوله فاعتبار الظن الحاصل من كلام اللغوي وعدمه مبنيّ على صحة جريان مقدمات الإنسداد في خصوص معاني الألفاظ لإستنتاج حجّية الظن الحاصل من كلام اللغوي في معنى اللفظ وان لم يحصل الظن بالحكم الشرعي من قوله. وقد جرى الإصطلاح على التعبير عن ذلك بالإنسداد الصغير.

إذا عرفت ذلك، فقد تمسّك جماعة من الأعلام بالإنسداد الصغير لإثبات حجّية قول اللغوي بتقريب ان باب العلم بتفاصيل اللغة منسدّ. والرجوع إلى البراءة غير جائز لإستلزامه الخروج عن الدين أو المخالفة القطعية في كثير من الموارد والإحتياط غير واجب للعسر ويرد عليه، أن فرض الإنسداد في تفاصيل اللغة مع انفتاح باب العلم في الأحكام الشرعية لا يجدي في حجّية قول اللغوي إذ لا يلزم من الإحتياط أو جريان أصل البراءة في موارد إنسداد باب العلم باللغة المحذور اللازم من إنسداد باب العلم بالنسبّة إلى معظم الأحكام من العسر والحرج الناشئين من الإحتياط والخروج عن الدين أو المخالفة القطعية الكثيرة الناشئة من جريان البراءة مع أن جريان مقدمات الإنسداد منوط بترتب أحد هذين المحذورين وأما أنه لا يلزم ذلك لأن الحاجة إلى قول اللغوي قليلة جدّاً فإن الغالب انفتاح باب العلم بمعاني الألفاظ فعدم العمل بالظن فيما لا يعلم - كلفظ الصعيد ولفظ الغناء ونحوهما- والأخذ بالإحتياط فيها لا يوجب المحذور المذكور أي العسر والحرج.

والألفاظ التي ذكرها جماعة من الأعلام من إنسداد باب العلم فيها- مع أنها ليست بتلك المثابة من الكثرة- أغلبها يكون لمعانيها قدر متيقن معلوم كلفظ الغناء ولفظ الصعيد، فإن الغناء وان تردد بين كونه مطلق الصوت المطرب وبين كونه الصوت المطرب المشتمل على الترجيع إلا أن القدر المتيقن منه هو المشتمل على الترجيع وكذا لفظ الصعيد فإنه لا يعلم أنه مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب الخالص والثاني قدر متيقن منه. وبالجملة فإن أغلبها يكون لمعانيها قدر متيقن معلوم والزائد المشكوك ليس بشيء يقتضي إنسداد باب العلم بمعظم الأحكام.

ومن جملة الأدلة على حجّية قول اللغوي ما ذكره جماعة من الأعلام منهم السيد محسن الحكيم (ره) بل جعله أقوى الأدلة، هو ما دلّ على حجّية خبر الثقة في الأحكام، ولكن أشكل عليه بإختصاص أدلة حجّية خبر الواحد بالأحكام الشرعية وعدم شمولها للموضوعات الخارجية، وقد أجاب السيد محسن الحكيم (ره)عن هذا الأشكال بما حاصله، أن المراد من الخبر الذي هو حجّة في الأحكام كل خبر ينتهي إلى خبر عن الحكم ولو بالإلتزام ولذلك ترى الفقهاء لا يتوقفون في العمل بخبر ابن مسلم لو أخبر بإنه دخلنا على المعصوم في يوم الجمعة فقال هذا يوم عيد أو انتهينا إلى مكان كذا فقال هذا مكان يجب على من مرّ به الإحرام أو الوقوف أو سأله رجل فقال كذا حيث يفتون بإن الجمعة يوم عيد ووادي العقيق أو عرفات يجب الإحرام منه والوقوف فيه أو أنه يجب على الرجل كذا وليس المستند لهم إلا خبر ابن مسلم عن الموضوعات الخارجية وهو كون اليوم يوم جمعة والمكان وادي العقيق أو عرفات والسائل رجل لا إمرأة فإذا جاز الإعتماد على خبر ابن مسلم في الموضوعات المذكورة لإنه ثقة لِمَ لا يجوز الإعتماد على الجوهري فيها لإنه ثقة وما الفرق ...ألخ

أقول لسنا بحاجة إلى كل هذا الكلام على ما فيه من المناقشة من حيث تبعية الدلالة الإلتزامية للدلالة المطابقية في الحجّية وعدم تبعيتها، وقد ذكرنا سابقاً أنها تابعة لها من حيث الوجود ومن حيث الحجّية فراجع وعلى كل حال فالجواب الصحيح عن أصل الإشكال هو أن أدلة حجّية الواحد لا تختص بالأحكام بل تشمل الموضوعات فإن عمدة الدليل على حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء، ومن المعلوم أن السيرة العقلائية قائمة على العمل بخبر الواحد حتى في الموضوعات.

واما إشكال جماعة من العلماء منهم الآغا ضياء الدين العراقي من أنه يكفي في الردع عن بنائهم قوله في رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله(ع) قال: (سمعته يقول كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته ولعلّه سرقة أو المملوك يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً أو إمرأة تحتك ولعلّها أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البيّنة).

ففيه أن الرواية لا تصلح للرادعية لإنها ضعيفة السند بعدم وثاقة مسعدة بن صدقة، وقد أشكل أيضاً على هذا الإستدلال بأن قول اللغوي من حيث تضمنه لإعمال الإجتهاد والرأي يكون من الإخبار عن الحدس فلا يكون مشمولاً لأدلة حجّية خبر الواحد لإختصاصها بالإخبار عن حسّ أو الحدس القريب منه.

وفيه ان إخباره إذا كان مستنداً إلى اللوازم المحسوسة العادية أو القرائن النوعية الملازمة مع المخبر به كشياع المعنى عند أهل اللغة كان داخلاً في الحدسيات القريبة من الحس فتشمله أدلة حجّية خبر الواحد. نعم الذي يرد على هذا الإستدلال ما أوردناه سابقاً من أن دأب اللغويين غالباً ليس إلا بيان موارد الإستعمالات لا بيان المعنى الموضوع له.