الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/12/29

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا الآثار الأربعة المعروفة لحجية الأمارة، وهي: المنجزية، والمعذرية، والانقياد، والتجري. وقد ألحق أغلب الأعلام بهذه الآثار الأربعة أثرين آخرين لحجية الأمارة، وهما: صحة إسناد الحكم إلى الله عز و جل، وصحة الاستناد إليه قولا وعملا؛ فإذا ثبتت حجية الأمارة، فيصح إسناد الحكم إلى الله عز و جل، كما يصح الاستناد إليها في مقام العمل؛ بأن يعمل على مقتضاها.

هذا هو المعروف بين الأعلام، ولكن صاحب الكفاية ناقش فيه صريحا؛ حيث نفى أن يكون صحة الإسناد والاستناد من آثار الحجية. وهذا الكلام في الواقع ردٌّ على الشيخ الأنصاري الذي استدل بالأدلة الأربعة على أن الأمارة مشكوكة الاعتبار لا يصح إسناد مؤداها إلى المولى والاستناد إليها في مقام العمل؛ قال: "التعبد بالظن الذي لم يدل على التعبد به دليل، محرَّم بالأدلة الأربعة. ويكفي من الكتاب: قوله تعالى: ﴿ قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ[1] . دل على أن ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع، فهو افتراء. ومن السنة: قوله × في عداد القضاة من أهل النار: "ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم" [2] . ومن الإجماع: ما ادعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله: من كون عدم الجواز بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء. ومن العقل: تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى"[3] .

حاصل كلامه: يحرم التعبد بالظن الذي لم يثبت التعبد به من الشارع؛ أي كل ظن لم تثبت حجيته، فيحرم إسناده إلى المولى والاستناد إليه، واستدل على ذلك بالأدلة الأربعة.

أما القرآن الكريم، فقوله: ﴿ قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾، فإن معنى الافتراء هنا هو التشريع، وهو على معنيين، فتارة يراد منه إدخال في الدين ما عُلِم أنه ليس منه، وهو القدر المتيقن من التشريع المحرم، وأخرى يراد منه إدخال في الدين ما لم يُعلم أنه منه. فإن فسرنا الافتراء بالتشريع على المعنى الأول، فتكون الآية مختصة بمعلوم عدم الحجية، ولا تشمل مشكوك الحجية موضوعا، وإن كانت تشمله حكما؛ لأن الافتراء مقابل الإذن، وليس من المأذون إدخال مشكوك الحجية في الدين. وإن فسرناه بالتشريع على المعنى الثاني، فتكون الآية شاملة لمشكوك الحجية، وبالتالي يكون داخلا فيها موضوعا وحكما. ومهما يكن من شيء، فقد استدل الشيخ الأنصاري بهذه الآية الشريفة على حرمة التعبد بالظن الذي لم يثبت التعبد به شرعا.

وأما السنة، فقول الصادق × في عداد القضاة من أهل النار: "ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم"، وإنما يصلح الاستدلال بهذه الرواية على حرمة التعبد بالظن الذي لم يثبت التعبد به شرعا، فيما لو حملناها على من هو أهل للقضاء، إلا أنه قضى بلا دليل؛ أي استند إلى ما لم يثبت اعتباره، فهو في النار وإن أصاب الواقع اتفاقا. أما لو حملناها على من ليس أهلا للقضاء، ليصير المعنى: من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه التصدي له، فتكون الرواية خارجة عن محل الكلام.

وأما الإجماع، فكون عدم جواز التعبد بالظن الذي لم يثبت التعبد به بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء.

وأما العقل، فتقبيح العقلاء من يسند شيئا إلى مولاه بلا حجة.

وبناء عليه، يكون الشيخ الأنصاري - ومن خلال هذه الأدلة - قد استفاد من نفي اللازم، وهو عدم جواز التعبد بالظن؛ أي عدم جواز الإسناد والاستناد، نفي الملزوم، وهو عدم حجية الأمارة؛ إذ لو كانت حجة لجاز الإسناد والاستناد. ومن هنا تبين أن الإسناد والاستناد من آثار الحجية أيضا.

هذا حاصل ما استدل به الشيخ الأنصاري على كون الإسناد والاستناد من آثار الحجية، ولكن صاحب الكفاية نفى ذلك؛ بدعوى أنه إنما يستفاد نفي الملزوم من نفي اللازم فيما إذا كانا متساويين، أو كان اللازم أعم من الملزوم. والحال أن النسبة بين اللازم، وهو جواز الإسناد والاستناد، والملزوم، وهو حجية الأمارة، هي العموم والخصوص من وجه؛ إذ قد توجد الحجية دون جواز الإسناد والاستناد، كما قد يجوز الإسناد والاستناد ولا توجد الحجية. وعليه، فلا يلزم من نفي أحدهما نفي الآخر.

وأما مثال وجود الحجية دون جواز الإسناد والاستناد؛ فكما في مبحث الانسداد الكبير بناء على أن مقدماته أنتجت الحكومة؛ حيث يصبح الظن الانسدادي بناء على الحكومة حجة عقلا، ومع ذلك لا يجوز الإسناد والاستناد؛ لأن الذي اعتبر الحجية للظن هو العقل لا الشرع.

وأما مثال جواز الإسناد والاستناد دون وجود الحجية؛ كما لو فرضنا قام دليل على جواز الإسناد والاستناد، فإنه لا يلزم منه حجية الأمارة، بل تبقى مشكوكة الاعتبار.

هذه خلاصة كلام صاحب الكفاية، والإنصاف: أولا: ما ذهب إليه المشهور هو الصحيح من أن جواز الإسناد والاستناد من آثار الحجية أيضا، فتكون النسبة بينهما هي التساوي، فيلزم من نفي الملزوم، وهو حجية الأمارة نفي اللازم، وهو جواز الإسناد والاستناد. وأما ما ذكره صاحب الكفاية من أن النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، فهو في غير محله؛ فأما بالنسبة إلى مثال وجود الحجية دون جواز الإسناد والاستناد؛ فلأن لا نقول بحجية الظن في هذه الصورة؛ إذ ليس من شأن العقل الحكم وإعطاء الحجية للظن، وإنما المراد من حجية الظن هنا، هو التبعيض في الاحتياط؛ بمعنى إدراك العقل الأخذ بالمظنونات وترك المشكوكات والموهومات. نعم، بناء على الكشف يكون مطلق الظن حجة شرعا إلا ما خرج بالدليل، فيجوز الإسناد والاستناد حينئذ. وأما بالنسبة إلى فرض قيام الدليل على جواز الإسناد والاستناد دون وجود الحجية، فهو غير متعقل إلا إذا قلنا بجواز التشريع والافتراء على الله. فتأمل.

والخلاصة: إن جواز الإسناد والاستناد من آثار الحجية؛ بحيث كلما ثبتا ثبتت الحجية، وكما ثبتت الحجية ثبتا.

بقي في هذا الأمر الثالث مسألتان:

المسألة الأولى: لا إشكال في قبح التشريع واستتباعه استحقاق العقوبة، وإنما الكلام في أن النهي عن التشريع الوارد في الآيات والروايات إرشاد لحكم العقل بقبح التشريع، ولا يستتبعه حكما شرعيا؛ وذلك من قبيل حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية؛ فإن الأوامر بالطاعة والنواهي عن المعصية الواردة في الآيات والروايات إرشاد لحكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية، ولا يستتبعه حكما شرعيا، أم أن حكم العقل بقبح التشريع يستتبعه حكما شرعيا، وأن النهي عن التشريع الوارد في الآيات والروايات مولوي؟

هناك رأيان: ذهب صاحب الكفاية في بعض مطالبه إلى الأول، وهو أن النهي عن التشريع الوارد في الآيات الشريفة إرشاد إلى حكم العقل بقبح التشريع، فلا يستتبع حكما شرعيا بحرمته. وذهب الشيخ الأنصاري والنائيني وجماعة من الأعلام إلى الثاني، وهو أن حكم العقل بقبح التشريع يستتبع حكما شرعيا مولويا، وليس النهي الوارد في الآيات الشريفة إرشاديا، وهو الإنصاف.

وتوضيحه: قلنا سابقا: إن الحكم العقلي على قسمين: فهو تارة يقع في سلسلة المعلولات؛ كحكم العقل بقبح التجري بفعل الحرام، وكحكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية؛ فهنا لا يكون حكم العقل مستتبِعا ومستلزما لحكم شرعي، فإذا ورد نهي من الشارع حينئذ يكون نهيا إرشاديا لحكم العقل.

وأخرى يقع الحكم العقلي في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح العقلي الناشئ عن إدراك المصالح والمفاسد؛ فإن الأحكام العقلية الراجعة إلى هذا الباب كلها تكون مورد لقاعدة الملازمة؛ كحسن العدل وقبح الظلم.

إذا عرفت ذلك، فنقول: أما حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية[4] ، فهو واقع في سلسلة المعلولات؛ لأن حكم العقل بحسن الطاعة إنما يصح فيما إذا كان هناك حكم شرعي حتى تجب إطاعته أو لا تجب، فموضوع حكم العقل بحسن الطاعة هو وجود الحكم الشرعي. وهكذا حكمه بقبح المعصية معلول لمخالفة حكم شرعي يسبقه. وبالتالي هنا لا يكون حكم العقل مستتبعا لحكم شرعي، وإلا لزم الدور.

وهذا بخلاف الحكم العقلي بقبح التشريع؛ فإن حكمه بقبحه ليس واقعا في سلسلة معلولات الأحكام، بل هو حكم ابتدائي من العقل؛ لما فيه من المفسدة من تصرف العبد فيما ليس له. وإن شئت قلت: إن التشريع من أفراد الكذب الذي يستقل العقل بقبحه، وبالتالي يستتبع ويستلزم حكما شرعيا مولويا؛ حيث تأتي قاعدة التلازم بين الحكم العقلي والحكم الشرعي: (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع)[5] ؛ لأن العقل حينما أدرك المفسدة التامة من التشريع والافتراء على الله عز و جل من دون أن تزاحمها مصلحة، يحكم الشارع على طبق إدراك العقل؛ بأن ينهى عن التشريع لكي لا يوقع المكلفين في المفسدة الملزمة. والله العالم.


[1] يونس/السورة10، الآية59.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج27، ص22، أبواب صفات القاضي، باب4، ح6، ط آل البیت.
[3] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص126.
[4] أجود التقريرات، السيد أبوالقاسم الخوئي، ج2، ص28.
[5] فوائد الأصول‌، الآخوند الخراساني، ج1، ص129.