الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الأصول
36/12/28
بسم الله الرحمن الرحيم
الأمر الثالث: تأسيس الأصل فيما شك في اعتباره
قال صاحب الكفاية &: "ثالثها: إن الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التعبد به واقعا، عدم حجيته جزما؛ بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا، فإنها لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا، ولا يكاد يكون الاتصاف بها، إلا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا؛ ضرورة أنه بدونه لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته، ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها، ولا يكون مخالفته تجريا، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا، وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه، للقطع بانتفاء الموضوع معه، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان"[1] .
هذا هو الأمر الثالث من مبحث الأمارات غير العلمية، ونبحث فيه عن الأصل فيما شك في حجيته منها واعتباره، فهل الأصل يقضتي حجية الأمارة والعمل على طبقها، أم يقتضي عدم حجيتها؟
أولا: ينبغي التنبيه على أنه ليس المراد من الأصل هاهنا الأصل العملي، وإنما المراد القاعدة العقلية المستفادة من عمومات الأدلة.
ثانيا: إن المقصود من الحجية هنا، هي الحجية الفعلية؛ أي خصوص الواصلة إلى المكلفين، لا مجرد الحجية الإنشائية.
إذا عرفت ذلك، فإن آثار الحجية الأربعة المعروفة، وهي: المنجزية، والمعذرية[2] ، والانقياد[3] ، والتجري[4] ، مترتبة على خصوص الحجية الفعلية؛ أي على جعل الحجية ووصولها إلى المكلفين. ومن هنا يكفي للقطع بعدم ترتب هذه الآثار أن تكون الحجية مشكوكة. ومن هنا قيل: (الشك في الحجية يساوق القطع بعدم الحجية)[5] ؛ أي الشك بجعل الحجية يلزمه القطع بعدم ترتب آثارها.
وبعبارة أخرى: إن الشك في الحجية إنشاءً يساوق القطع بعدم الحجية فعلا. إذًا النتيجة أن الأصل في حال الشك في الحجية، هو القطع بعدمها.
وأما ما قاله البعض من إمكانية إثبات عدم حجية مشكوك الحجية من خلال الاستصحاب؛ بأن يقال: كنا على يقين بعدم ورود دليل على حجية الأمارة والتعبد بها، والآن نشك بوروده، فنستصحب عدمه، فهو في غير محله؛ لما عرفت من أنه يلزم من الشك في الحجية القطع بعدمها فعلا، فلا يبقى محل للاستصحاب حينئذ، بل يكون الرجوع إليه لإثبات عدم الحجية من تحصيل الحاصل، بل من أردأ أنحائه؛ لأننا نريد أن نثبت بالتعبد ما هو ثابت بالوجدان.
وبعبارة أخرى: إنه يشترط في جريان الاستصحاب أن يكون للمتيقن السابق أثر عملي يُتعبد ببقائه باعتبار ذلك الأثر. وفي المقام لا يترتب على مقتضي الاستصحاب أثر عملي؛ فإنه يكفي في حرمة العمل والتعبد نفس الشك في الحجية، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة حتى يجري استصحاب العدم؛ فإن الاستصحاب إنما يجري فيما إذا كان الأثر مترتبا على الواقع المشكوك فيه، لا على نفس الشك في الحجية؛ كحرمة التعبد بها.
وبالجملة، فليس لإثبات عدم الحجية أثر إلا حرمة التعبد بها، وهو حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا؛ فجريان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل، بل أسوأ حالا منه؛ فإن تحصيل الحاصل إنما هو فيما إذا كان المحصِّل والحاصل من سنخ واحد، إما أن يكون كلاهما وجدانيين أو تعبديين، وفي المقام يلزم إحراز بالتعبد ما هو محرز بالوجدان.
ثم اعلم أن تنجز الواقع لا يتوقف على الحجية؛ لأنه ثابت بالعلم الإجمالي الكبير؛ أي العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية، بل قد يكون التنجيز ثابتا بمجرد الاحتمال؛ كما في الشبهات الحكمية قبل الفحص؛ ففي هذه الحالة يكون التنجيز ثابتا قبل قيام الأمارة على التكليف، ومه قيامها عليه لا يجيء تنجيز آخر.
صحة الإسناد والاستناد:
ثم قال صاحب الكفاية &: "وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الأحكام، وصحة نسبته إليه تعالى، فليسا من آثارها؛ ضرورة أن حجية الظن عقلا - على تقرير الحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحتهما، فلو فرض صحتهما شرعا مع الشك في التعبد به، لما كان يجدي في الحجية شيئا ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها، ومعه لما كان يضر عدم صحتهما أصلا، كما أشرنا إليه آنفا"[6] .
ذكرنا الآثار الأربعة المعروفة للحجية، وهي: المنجزية، والمعذرية، والانقياد، والتجري. وقد ألحق بعض الأعلام بهذه الآثار الأربعة أثرين آخرين، وهما: صحة إسناد الحكم إلى الله عز و جل، وصحة الاستناد إليه قولا وعملا.