الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/12/23

بسم الله الرحمن الرحیم

والإنصاف: إن ما نسبه السيد الخوئي للميرزا من أنه يقول بأن الحكم الواقعي لا يشمل بإطلاقه حال الشك، وبالتالي فيكون مهملا من هذه الجهة، وهو محال في مرحلة الجعل؛ لما عرفت أنه يلزم منه الجهل أو العجز على المولى - هذه النسبة في غير محلها؛ لأن الميرزا قد صرح في الفوائد بأن إطلاق الحكم الواقعي يشمل حال الشك، غايته أنه لما لم يكن يرى إطلاقا وتقييدا لحاظيا، فالتجأ إلى متمم الجعل.
ثم يشكل السيد الخوئي على كلام الميرزا المتقدم إشكالا في محله، ومفاده: صحيح أن الشارع يوجب الاحتياط فيما إذا كان الملاك بمرتبة من الأهمية لا يمكن تفويتها، ويحكم بالبراءة فيما إذا كان الملاك دون ذلك، ولكن ليس في محله تخصيص الاحتياط بصورة المطابقة للواقع دون صورة المخالفة؛ حيث ينكشف أن الاحتياط تخيلي؛ وذلك لأن الملاك الذي لا يرضى المولى بتفويته ليس بالضرورة ملاكا شخصيا متعلقا بفرد معين، بل قد يكون نوعيا؛ بمعنى أنه حيث لا يتميز في الشبهات مورد وجود الملاك الواقعي عن مورد عدم وجوده، فأوجب الشارع الاحتياط كلية تحفّظا على الملاك في مورد وجوده.
وبالجملة، فإذا أراد الشارع الحفاظ على المصلحة الواقعية أوجب الاحتياط بإتيان الجميع، وإذا أراد التحفظ عن الوقوع في المفسدة الواقعية أوجب الاحتياط بترك الجميع.
إذا عرفت ذلك، فنأتي إلى كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري بالنسبة إلى الأصول غير المحرزة، فنقول: قد عرفت أن الأحكام لا تضاد بينها بنفسها؛ لأن الأحكام اعتبارات؛ أي اعتبار شيء في ذمة المكلف من الفعل أو الترك، ومن الواضح عدم التنافي بين الأمور الاعتبارية؛ فهي سهلة المؤونة، وإنما يقع التضاد بينها من حيث المبدأ؛ لاستحالة أن تجتمع المصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة بلا كسر وانكسار كما عليه الإمامية والمعتزلة، أو الشوق والكراهة كما علي الأشاعرة؛ لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، ومن ناحية المنتهى؛ لاستحالة أن يبعث الشارع نحو شيء ويزجر عنه في الآن نفسه.
إذًا، التنافي بين الأحكام من حيث المبدأ والمنتهى فحسب، فما لم يقع تنافٍ بينهما من هاتين الجهتين، فلا تنافي. وعليه، فلا تنافي بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري؛ إذ لا تنافي بينهما لا من حيث المبدأ ولا من حيث المنتهى.
وتوضيحه: أما من حيث المبدأ؛ فلأن المفسدة في حرمة شرب الخمر الواقعية مثلا قائمة في المتعلق، وهو شرب الخمر، بينما مصلحة الترخيص الظاهري في البراءة - وهي مصلحة التسهيل -  فيما لو فرضنا الشك في حرمة شرب الخمر، قائمة في نفس الحكم الظاهري، ومع اختلاف المتعلق لا تنافي بينهما.
وأما من حيث المنتهى؛ فلأن الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي؛ بمعنى أنه لا مسرح للحكم الظاهري إلا فيما إذا لم يصل الحكم الواقعي للمكلفين ويتنجز، وإذا لم يكن منجزا فلا يكون فيه بعث ولا زجر أصلا، فلا ينافي الحكم الظاهري فيما لو أوجب الفعل أو الترك.
وبعبارة أخرى: حكم العقل بلزوم الامتثال إنما هو بعد وصول الحكم إلى المكلف، بلا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري، ووصول كلا الحكمين إلى المكلف في عرض واحد محال؛ لكون الحكم الظاهري دائما في طول الحكم الواقعي؛ فمع وصول الحكم الواقعي ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل إلا بلزوم امتثال الحكم الواقعي، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا يحكم العقل إلا بلزوم امتثال الحكم الظاهري، فلا تنافي بين الحكمين في مقام الامتثال أبدا.
وهذا الوجه في دفع التنافي بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري بالنسبة إلى الأصول غير المحرزة، يمكن الاستناد إليه أيضا لدفع التنافي بينهما بالنسبة إلى الأصول المحرزة فيما لو قلنا أنها منضوية على حكم شرعي. والله العالم.