الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/11/24

بسم الله الرحمن الرحيم

إذًا ، السببية وفق المصلحة السلوكية تفترق عن السببية الأشعرية والمعتزلية، ولكنها باطلة أيضا، وتوضيحه: إنه لما كانت الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، وبعد فرض أن العمل على طبق الأمارة يعوِّض المصلحة الفائتة بمخالفة الواقع، مما يعني تساوي كلتا المصلحتين، كان من المفروض أن يكون الواجب على المكلف أحدهما تخييرا، وإلا يلزم الترجيح بلا مرجح؛ فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يومها، وكان الواجب واقعا هو صلاة الظهر، لكان الحكم الواقعي في حق الجاهل أحد أمرين على سبيل التخيير، بينما الحكم الواقعي في حق العالم هو صلاة الظهر فقط، مما يعني تبدل الواقع من جهة، وعدم اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، وهذا نوع من التصويب الباطل.

وبعبارة أوضح: بعد فرض كون الوجوب تابعا للمصلحة في المتعلق، وكون كل من صلاة الظهر وسلوك الأمارة مشتملا عليها، تعين على الشارع الحكم بوجوبهما تخييرا، فيكون الواجب الواقعي في حق من قامت عنده الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة أحد أمرين على سبيل التخيير. أما صلاة الظهر أو سلوك الأمارة، فلا يكون الحكم الواقعي مشتركا بين العالم والجاهل بنحو واحد، بل في حق العالم تعييني، وفي حق الجاهل تخييري، وهذا نوع من التصويب.

إذًا، التعبد بالأمارة ممكن وإن لزم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة؛ لأن هناك مصلحة أهم تلزم رعايتها، وهي مصلحة التسهيل النوعية.

ثم قال صاحب الكفاية : ( والجواب : إن ما ادعي لزومه، إما غير لازم، أو غير باطل؛ وذلك لأن التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب، وصحته الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجريا وانقيادا مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجة الغير المجعولة، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين، ولا طلب الضدين ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى. وأما تفويت مصلحة الواقع، أو الالقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلا، إذا كانت في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء )[1] .

بعد تمام الكلام في إشكال المحذور الملاكي على التعبد بالأمارة؛ حيث علمت وجه اندفاعه، بقي إشكال المحذور الخطابي، واندفاعه واضح على المبنى الصحيح من أن الأمارة مجرد طريق كاشف عن الحكم الشرعي، لا أنها منطوية عليه؛ لأن الإشكال حينئذ باجتماع المثلين أو الضدين يكون منتفيا بانتفاء موضوعه، وسيأتي توضيحه بشكل مفصل.

وأما على المبنى الآخر من أن الأمارة منطوية على حكم شرعي، فأما بالنسبة إلى إشكال اجتماع المثلين، فهو غير وارد أيضا؛ إذ لو فرضنا أن الأمارة دلت على وجوب شيء مثلا، وكان واجبا في الواقع، للزم اندكاك أحد الوجوبين في الآخر، فيصبح عندنا حكما واحدا مؤكَّدا لا حكمين متماثلين، فينتفي الإشكال.

وأما بالنسبة إلى إشكال اجتماع الضدين، فقد أجيب عنه بعدة أجوبة:

الأول : وهو جواب الشيخ الأنصاري، وحاصله: إن إشكال المحذور الخطابي على التعبد بالأمارة من اجتماع الضدين مرجعه إلى اجتماع النقيضين باعتبار أن وجود كل من الضدين يلازم عدم الآخر. ولا يتحقق اجتماع النقيضين إلا بتحقق وحداته الثمان مجتمعة، وهي: وحدة الموضوع، ووحدة المحمول، ووحدة الزمان، ووحدة المكان، ووحدة القوة والفعل، ووحدة الكل والجزء، ووحدة الشرط، ووحدة الإضافة. وفي موردنا لم تتحقق وحدة الموضوع؛ لأن موضوع الحكم الواقعي هو الشيء بعنوانه الأولي، بينما موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي؛ فموضوع حرمة الخمر الواقعية هو الخمر بما هو، بينما موضوع إباحته الظاهرية هو الخمر مشكوك الحرمة، وباختلاف الموضوع تنتفي دعوى لزوم اجتماع الضدين.

هذا الكلام لم يكتب له التوفيق طويلا؛ لأن الحكم الواقعي لا يخلو إما أن يكون مطلقا من حيث العلم والجهل أو مقيدا بالعلم؛ إذ لا يعقل الإهمال في مقام الثبوت؛ للزومه العجز أو الجهل المحالين على المولى تعالي ، وبما أن الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل، فهي مطلقة من هذه الجهة، فيكون الحكم الواقعي محفوظا في حالة الشك، فيلزم اجتماع الضدين. وبالجملة، فيجتمع في حق الجاهل بحرمة الخمر الواقعية مثلا حكمان، الحرمة الواقعية لشمولها له، والإباحة الظاهرية، فيجتمع الضدان، فيعود المحذور.

ثم لا يخفى أنه ليس كل أمارة غير علمية أخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي، وإنما يختص ذلك بخصوص الأصول العلمية، وحينئذ حتى لو سلمنا بكلام الشيخ الأنصاري، فإنه يتم فقط في الأصول العملية دون الأمارات.


[1] کفاية الاصول، الآخوند الخراساني، ص277.