الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/08/01

بسم الله الرحمن الرحیم

هذه هي أشهر الأقوال في المسألة. وبعد استبعاد القول الأول، يصبح البحث هنا في الأقوال الثلاثة الباقية، وهو أنه بعد التسليم بتنجيز العلم الإجمالي التكليف، فهل تنجيزه له على نحو الاقتضاء أم على نحو العلة التامة؟ أما التفصيل بين القول الثالث والرابع، وهو أنه هل العلم الإجمالي علة تامة لتنجز التكليف بالنسبة إلى المخالفة القطعية فحسب، أم بالنسبة إليها وإلى الموافقة القطعية أيضا، فهذا ما نرجئه إلى محله في مباحث البراءة والاشتغال.
وقبل التطرق إلى قول صاحب الكفاية، نشير إلى أنه قد يقال: إن ما يستقل العقل في إدراكه من حسن الطاعة وقبح المعصية، إنما هو فيما إذا كان الواجب والمحرَّم معلومين تفصيلا لا إجمالا؛ فإن التارك لأطراف العلم الإجمالي في الشبهة الوجوبية لا يحرز خلال تركه أنه مخالف لأمر المولى، وكذا المرتكب لأطراف العلم الإجمالي في الشبهة التحريمية لا يحرز خلال ارتكابه أنه مخالف لنهي المولى. إذ لا علم بالمخالفة حين العمل؛ لاحتمال أن يكون التكليف في الطرف الآخر. نعم، بعد ارتكاب جميع الأطراف، يحصل العلم بالمخالفة، إلا أن هذا ليس عصيانا؛ لأن مناط العصيان إحراز المخالفة حال الارتكاب، أما إحرازها بعد الارتكاب، فليس عصيانا.
وفيه: إن العقل لا يفرِّق بين العلم التفصيلي والإجمالي؛ إذ كل منهما انكشاف تام للواقع، غايته أن المعلوم غير محرز في العلم الإجمالي.
وبعبارة أخرى: إن العقل يستقل بقبح مخالفة التكليف المحرز الواصل إلى المكلف بأحد طرق الوصول، ومن جملتها العلم الإجمالي؛ فإن التكليف في موارد العلم الإجمالي واصل إلى المكلف ومحرز لديه، وإنما يكون الإجمال في المتعلق، وإلا فنفس التكليف والإلزام معلوم تفصيلا. وأما تمييز متعلق التكليف عن غيره، فغير لازم. ومن هنا لو تردد الخمر بين مائعين، فلا إشكال في حكم العقل بقبح المخالفة بارتكابها، ومراجعة الوجدان تشهد بذلك.
والخلاصة: إنه يكفي في تحقق عصيان التكليف أن يكون التكليف واصلا بأحد طرق الوصول الحجة، ومنها العلم الإجمالي؛ فلو علمنا بكبرى حرمة الخمر، وصغرى أن المائع في أحد الإناءين خمر، أدرك العقل قبح المخالفة.
إذا عرفت ذلك، نأتي إلى قول صاحب الكفاية، وهو أن العلم الإجمالي مقتض لتنجز التكليف؛ أي أنه جزء علة التنجيز لا علته التامة، فيتوقف اقتضاؤه للتنجيز على الشرط وعدم المانع، وبما أن المانع موجود، وهو انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري - أي الشك في الحكم الواقعي - في أطراف العلم الإجمالي، فيجري الأصل فيها جميعا، فلا يؤثر المقتضي أثره. وبعبارة أخرى: طالما الحكم الفعلي الواقعي غير واصل، فموضوع الحكم الظاهري، وهو الشك في الحكم الواقعي، محفوظ في جميع الأطراف، فيجري الأصل فيها جميعا.
إن قلت: ولكن جريان الأصل في جميع أطراف العلم الإجمالي مناف للحكم الإلزامي الواقعي. قلت: حتى تتم المنافاة لا بد أن يكون الحكم الفعلي الواقعي واصلا، والفرض أننا غير عالمين به، فلا يكون واصلا أصلا، فتخلو الساحة للحكم الظاهري.
وعليه، فلا مضادة بين الحكم الظاهري والواقعي؛ إذ لو كانت بينها مضادة، لما أمكن جعل الحكم الظاهري في الشبهات غير المحصورة، بل ولا في الشبهة البدوية؛ لاستلزامه احتمال الجمع بين الضدين. ومن المعلوم استحالة احتمال الجمع بين الضدين كالقطع به، فما به التفصي عن المحذور فيهما، كان به التفصي في المقام.
وعليه، فلا مانع ثبوتا من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي، ولا يتنافى ذلك مع الحكم الإلزامي الواقعي.
 والجواب : أولا : قلنا سابقا: إن التنافي بين الأحكام ليس في أنفسها؛ إذ لا مانع من أن يجعل الشارع الوجوب والحرمة على شيء واحد في آن واحد؛ إذ الاعتبار سهل المؤونة، وإنما التنافي من حيث المبدأ والمنتهى.
أما من حيث المبدأ؛ فلأنه يلزم من اجتماع الحكمين؛ كالوجوب والحرمة مثلا، اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلق بلا كسر وانكسار، وهو من اجتماع الضدين. وكذا الحال في اجتماع الوجوب والترخيص، أو اجتماع الحرمة والترخيص؛ فإنه يلزم وجود المصلحة الملزمة وعدم وجودها في شيء واحد، أو وجود المفسدة الملزمة وعدم وجودها في شيء واحد، وهو من اجتماع النقيضين.
وأما من حيث المنتهى؛ فلأنه لا يمكن أن يبعث الشارع المكلف نحو شيء ويزجره عنه في آن واحد، أو يبعثه نحوه ويرخصه في تركه، أو يزجره عنه ويرخصه في فعله.
إذا عرفت ذلك، اتضح أنه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري من حيث المبدأ؛ لأن المصلحة والمفسدة بالنسبة إلى الحكم الواقعي قائمتان في متعلقه، بينما المصلحة في الحكم الظاهري - سواء كانت المصلحة هي التسهيل على المكلفين أو شيء آخر - قائمة في نفس الحكم لا في متعلقه. وعليه، فلا يقع التنافي بينهما من حيث المبدأ.
أما من حيث المنتهى، فالتنافي غير حاصل أيضا؛ لأن موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي وعدم وصوله. وعليه، فما لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلف، لا يحكم العقل بلزوم امتثاله، فلا مانع حينئذ من امتثال الحكم الظاهري.
أما لو كان واصلا ولو بالعلم الإجمالي، كما في فرض المسألة، فلا يكون موضوع الحكم الظاهري متحققا أصلا. وعليه، فلا مناف حينئذ للحكم الواقعي.
وبعبارة أخرى: الحكم الظاهري يكون دائما في طول الحكم الواقعي، فمع وصول الحكم الواقعي، ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل إلا بلزوم امتثال الحكم الواقعي.
والخلاصة : إنه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري، لا في مرحلة المبدأ ولا في مرحلة المنتهى.
أما التشبيه بالشبهة البدوية، فهو في غير محله؛ لأن الحكم في مواردها لا يكون واصلا أصلا، وبالتالي تكون الساحة خالية للحكم الظاهري وحده بلا مناف له. وكذا التشبيه بالشبهة غير المحصورة في غير محله؛ فقد ذهبنا إلى أنه إذا وصلت أطراف العلم الإجمالي من الكثرة إلى درجة لا يمكن ارتكابها جميعا أو تركها جميعا، فهنا لا يكون العلم الإجمالي منجزا أصلا؛ أي لا يكون موجودا حكمًا، فكذلك تخلو الساحة للحكم الظاهري وحده بلا مناف له. وأما إذا لم تصل الأطراف إلى هذه الدرجة، فلا فرق حينئذ بين الشبهة المحصورة وغيرها.
والخلاصة: بما أن التكليف واصل في موارد العلم الإجمالي، فلا تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في أطرافه؛ لانتفاء موضوعه، وهو الشك في الحكم الواقعي وعدمه وصوله. وعليه، ينتفي أن يكون العلم الإجمالي منجزا للتكليف على نحو الاقتضاء وجزء العلة، فيتعين أن يكون علة تامة لتنجزه. أما أنه علة تامة لتنجز التكليف بالنسبة إلى المخالفة القطعية فحسب، أم بالنسبة إليها وإلى الموافقة القطعية أيضا، فهذا ما نرجئه إلى محله في مباحث البراءة والاشتغال.
بقي شيء في هذه الجهة الأولى، وهو أنه لو سلمنا جدلا بإمكانية جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي بالنسبة إلى مقام الثبوت، فهل تشمل أدلة الأصول العملية أطراف العلم الإجمالي في مقام الإثبات، أم أن موردها الشبهات البدوية فقط؟