الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/03/15

بسم الله الرحمن الرحیم

وأما إذا كانت النسبة بين العام والمفهوم، سواء بين مفهوم الموافقة أم المخالفة، عموما وخصوصا من وجه، فهنا صورتان:
الصورة الأولى:
وهي فيما إذا لزم من تقديم أحدهما إلغاء عنوان موضوع الآخر، وهو ممتنع على الحكيم؛ لقبحه؛ إذ لو لم تكن لهذا العنوان خصوصية لما خصَّه الشارع الحكيم بالذكر. وعليه، فيقدم العنوان الآخر الذي لا يلزم من تقديمه لغوية عنوان الأول.
ومثاله: صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله  قال: "إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء"[1]، وصحيحة ابن بزيع عن الرضا: "ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فيُنـزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه؛ لأن له مادة "[2]، فإن مفاد مفهوم صحيحة معاوية هو أنه (إذا كان الماء قليلا ينفعل بالنجاسة سواء كان ماء بئر أم لا)، والنسبة بين هذا المفهوم وبين عموم صحيحة ابن بزيع التي مفادها أن (ماء البئر واسع لا ينفعل بالنجاسة سواء كان قليلا أم كثيرا) هي العموم والخصوص من وجه؛ لأن مفهوم صحيحة ابن عمار يدل على انفعال غير الكر - أي القليل - بالنجاسة سواء كان الماء القليل ماء بئر أم لا، ومنطوق صحيحة ابن بزيع "ماء البئر واسع لا يفسده شيء" يدل على أن ماء البئر لا ينفعل سواء كان كثيرا أم قليلا، فيجتمعان في ماء البئر القليل، فأيهما يقدَّم على الآخر؟
        ولمعرفة الإنصاف لا بد من الرجوع إلى الضابطة المتقدمة لمعرفة أيّ من التقديمين يلزمه إلغاء عنوان موضوع الآخر. والتحقيق أنه لو قدمنا مفهوم صحيحة ابن عمار وأبقيناه على إطلاقه، وهو أن (الماء القليل ينفعل بالنجاسة سواء كان ماء بئر أم لا)، وبالتالي قيّدنا صحيحة ابن بزيع فصارت (ماء البئر لا ينفعل بالنجاسة إلا إذا كان قليلا)، للزم إلغاء عنوان موضوع صحيحة ابن بزيع، وهو عنوان (البئر)؛ لأن اعتصام ماء البئر يكون راجعا حينئذ إلى كريته، فلا يكون لكونه ماء بئر أية خصوصية، وهذا مناف لحكمة الشارع الذي لم يذكر هذا العنوان إلا لخصوصية فيه.
        وأما إذا قدّمنا صحيحة ابن بزيع وأبقيناها على إطلاقها، وهو أن (ماء البئر لا ينفعل بالنجاسة سواء كان الماء قليلا أم كثيرا)، وقيّدنا مفهوم صحيحة ابن عمار فصار (الماء القليل ينفعل بالنجاسة إلا ماء البئر)، لم يلزم إلغاء عنوان موضوعه، وهو الماء القليل، وإنما لزم تضييقه فقط؛ حيث يصبح الموضوع للانفعال هو الماء القليل غير البئر. ومن هنا لزم تقديم صحيحة ابن بزيع استنادا إلى المرتكز في ذهن العرف، وهو أن الحكيم لا يخصِّص عنوانا بالذكر لغوًا.
        هذا بالنسبة إلى صدر صحيحة ابن بزيع، أما بالنسبة إلى التعليل في ذيلها، وهو أن (ما له مادة معتصم لا ينفعل بالنجاسة)، فلو سألنا: هل كل ماء سواء قليلا أم كثيرا معتصم بالمادة، أم خصوص القليل؟ لأجبنا: خصوص القليل؛ لأن الكثير بنفسه معتصم، فيقبح تعليل اعتصامه بالمادة. وعليه، يصبح التعليل (لأن له مادة) في ذيل صحيحة ابن بزيع لخصوص القليل، فيكون أخص مطلقا من مفهوم صحيحة ابن عمار، وهو أن (الماء القليل لا ينفعل بالنجاسة سواء كان ماء بئر أم لا)، فنقدم الأخص، لتصبح النتيجة: (الماء القليل ينفعل بالنجاسة إلا ماء البئر القليل).
        ثم اعلم أن هذه الضابطة في تقديم ما لا يلزم من تقديمه إلغاء عنوان موضوع الآخر، لا تختص فيما لو كانت نسبة العموم والخصوص من وجه بين منطوق دليل ومفهوم دليل آخر، بل تعم ما كانت النسبة بين منطوق دليلين؛ ومثاله: حسنة أبي بصير، عن أبي عبد الله: "كل شيء يطير لا بأس ببوله وخرئه"[3]، وحسنة عبد الله بن سنان، قال: "قال أبو عبد الله: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه"[4]، فالنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه؛ لأن المراد من (كل شيء يطير) في حسنة أبي بصير، هو مطلق الطير سواء كان مأكول اللحم أم لا، كما أن المراد من أبوال ما لا يؤكل لحمه في حسنة ابن سنان، هو مطلق ما لا يؤكل لحمه سواء كان طيرا أم لا، وهما يجتمعان في بول الطير غير مأكول اللحم؛ فالحسنة الأولى حكمت بطهارته، والثانية حكمت بنجاسته.فهنا إذا قدَّمنا الثانية وأبقيناها على إطلاقها، وهو (بول ما لا يؤكل لحمه نجس سواء كان طيرا أم لا)، وبالتالي قيّدنا الأولى، فصارت (بول الطائر طاهر إلا إذا كان غير مأكول اللحم)، للزم إلغاء عنوان (الطائر) وانتفت خصوصيته، ويصبح موضوع الطهارة هو (الطائر مأكول اللحم)، ولا خصوصية حينئذ للطائر؛ إذ يكون موضوع الطهارة في الواقع هو (مأكول اللحم سواء كان طيرا أم لا)؛ وهذا مناف لحكمة الشارع من ذكره.
وأما إذا قدّمنا الأولى، وأبقيناها على إطلاقها، وهو (بول الطائر طاهر سواء أكان مأكول اللحم أم لا)، وبالتالي قيّدنا الثانية، فصارت (بول ما لا يؤكل لحمه نجس إلا الطائر)، فلا تلزم لغوية عنوان (بول ما لا يؤكل لحمه) في موضوع حسنة ابن سنان المحكوم عليه بالنجاسة، وإنما يلزم تضييقه فقط، وهذا لا محذور فيه.
        الصورة الثانية:
وهي فيما إذا لم يلزم من تقديم أحدهما إلغاء عنوان موضوع الآخر، فيتعارضان، فحينئذ إن إمكن ترجيح أحدهما فبها، وإلا فيتساقطان، ونرجع إلى الأصول العملية، فإن دار الأمر بين حكمين إلزاميين، وذلك كما لو قال: (أكرم العلماء)، ثم قال: (لا تكرم الفساق)، فاجتمعا في العالم الفاسق؛ واستفدنا من الأول وجوب إكرامه، واستفدنا من الثاني حرمته، فالمرجع حينئذ إلى التخيير. وإن دار الأمر بين حكم إلزامي وآخر غير إلزامي؛ وذلك كما لو استفدنا من الأول استحباب إكرامه، واستفدنا من الثاني حرمته، أو استفدنا من الأول وجوب إكرامه، واستفدنا من الثاني كراهته، فالمرجع حينئذ إلى البراءة. والله العالم.


[1] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملی، ج1، ص158، أبواب الماء المطلق، باب9، ح2، ط آل البیت.
[2] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملی، ج1، ص140، أبواب الماء المطلق، باب3، ح10، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملی، ج3، ص412، أبواب النجاسات، باب10، ح1، ط آل البیت.
[4] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملی، ج3، ص405، أبواب النجاسات، باب8، ح2، ط آل البیت.