الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/03/14

بسم الله الرحمن الرحیم

قال: "وتحقيق المقام: أنه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين، ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كل منهما إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة، أو بالوضع، فلا يكون هناك عموم،
ولا مفهوم؛ لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما؛ لأجل المزاحمة؛ كما في
مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك، فلا بد من العمل بالأصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر، وإلا كان مانعا عن انعقاد الظهور، أو استقراره في الآخر"[1].
        حاصل هذا التحقيق: أنه إذا ورد العام وما له المفهوم، سواء في كلام واحد، أو في كلامين يصلح كل منهما لأن يكون قرينة للتصرف في الآخر، ودار الأمر بين تقديم العام وإلغاء المفهوم وبين تقديم المفهوم وتخصيص العام، فلا يخلوا حينئذ: فإما أن تكون الدلالة على كل منهما بالوضع، أو بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة. وهناك صورة ثالثة لم يذكرها صاحب الكفاية، وهي فيما لو كانت دلالة أحدهما بالوضع ودلالة الآخر بالإطلاق.
        فأما إن كانت الدلالة على كل منهما بالوضع، فيتزاحم حينئذ ظهور العام مع ظهور المفهوم، فيتساقطان، وبالتالي لا يمكن العمل بأيٍّ منهما.
وأما إن كانت الدلالة على كل منهما بالإطلاق، سواء في كلام واحد أو في كلامين بحيث يصلح كل منهما قرينة للتصرف بالآخر، فلا ينعقد ظهور في كل منهما؛ لعدم تمامية مقدمات الحكمة في شيء منهما، ولا بد من الرجوع إلى الأصل العملي في محل الشك. نعم، إن كان كل منهما في كلام منفصل على الآخر بحيث لا يصلح قرينة للتصرف بالآخر، فهنا ينعقد ظهورهما، ولكن مع وجود علم إجمالي منجز بأن أحدهما غير مراد، يصبح كل منهما مجملا حكما، وبالتالي لا يمكن العمل به، بل يرجع إلى الأصول بعد تعارض الظهورين.
وأما الصورة التي لم يذكرها صاحب الكفاية، وهي فيما لو كانت الدلالة على أحدهما بالوضع، والدلالة على الآخر بالإطلاق، فبما أن ما كانت دلالته بالوضع صالحا لأن يكون بيانا مانعا عن الظهور بالإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان، فيقدم عليه.
هذا ما أدلى به صاحب الكفاية، والإنصاف: أما بالنسبة للمفهوم الموافق، فهو - كما تقدم - يخصص العام؛ لأن التعارض في الواقع بين العام والمنطوق، وبما أن المنطوق يخصص العام، فمفهوم الموافقة يخصصه كذلك.
هذا فيما كان المفهوم أخص مطلقا من العام، وأما إذا كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه، فسيتضح حكمها إن شاء الله تعالى عند الكلام في مفهوم المخالفة.
وأما بالنسبة للمفهوم المخالف، فلا يخلو الحال بينه وبين العام، فإما أن تكون النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا، أو عموما وخصوصا من وجه؛ إذ لا يعقل في حقهما التساوي مع فرض التنافي بينهما.
أما إذا كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا، فلا فرق حينئذ بين أن تكون الدلالة على كل منهما بالوضع أو الإطلاق، أو أن تكون الدلالة على أحدهما بالوضع وعلى الآخر بالإطلاق؛ إذ النتيجة في كل هذه الصور واحدة، وهي تقديم المفهوم المخالف وتخصيص العام به؛ لأن المفهوم أخص وأضيق، فهو بالتالي أقوى ظهورا، كما أنه يلزم من تقديم العام إلغاء المفهوم، ولا موجب لإلغائه.
وتوضيحه:
أولا: قد أشرنا سابقا إلى أن المفهوم المخالف في القضية الشرطية دائما تكون الدلالة عليه بالإطلاق لا بالوضع؛ لما عرفت من أن المفهوم في القضية الشرطية جاء من خصوصية كون الشرط علة انحصارية للجزاء، واستفادة العلية التامة من الإطلاق الواوي، واستفادة الانحصارية من الإطلاق الأوي. وعليه، تكون الدلالة على المفهوم المخالف في الشرط بالإطلاق؛ مثلا: قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[2]، في هذه الآية المباركة هناك مفهوم مخالفة، وهو (إن جاء العادل بالنبأ فلا تتبينوا)، بناء على أن لهذه الآية المباركة مفهوما، وقد عرفت الاحتمالات المتعددة فيها عند الكلام في مفهوم الشرط.
هذا بالنسبة إلى المفهوم في الآية المباركة، وفيها عام أيضا متصل بالمفهوم، وهو (أن تصيبوا قوما بجهالة) الشامل لعموم النبأ؛  فهو يدل على عدم العمل بمطلق النبأ الظني سواء كان عن فاسق أم ثقة؛ إذ إصابة القوم بحهالة لا تختص بما إذا جاء الفاسق بالنبأ، بل يشمل نبأ العادل الظني، والنسبة بين المفهوم وعموم التعليل هي العموم المطلق. وعليه، فيتعارض عموم التعليل مع المفهوم.
ويظهر من كلام للشيخ الأنصاري  في التقريرات التوقف؛ حيث قال: "وأمامفهوم المخالفة، فعلى تقدير القول بثبوته في قبال العام وعدم التصرف في ظاهر الجملة الشرطية والأخذ بظهورها، لا اشكال في تخصيص العام به كما عرفت. وإنما الإشكال في أن الجملة الشرطية أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاء بينهما أو العام أظهر في إرادة الأفراد منه، فمرجع الكلام إلى تعارض الظاهرين، ربما يقال: إن العام أظهر دلالة في شموله لمحل المعارضة، كما قلنا بذلك في معارضة منطوق التعليل في آية النبأ مع المفهوم على تقدير القول به بالنسبة إلى خبر العدل الظني، فإن قضية عموم التعليل عدم الاعتماد على الخبر الظني، ومقتضى المفهوم ثبوته، وعموم التعليل أظهر، ولا سيما إذا كان العام متصلا بالجملة الشرطية. وربما يقال بتقديم الظهور في الجملة الشرطية، كما قلنا في تعارض المفهوم مع العمومات الناهية عن العمل بغير العلم"[3].
حاصل كلامه في التقريرات والفرائد أن مقتضى القاعدة تقديم المفهوم وتخصيص العام به، إلا أن عموم التعليل في الآية المباركة آبٍ عن التخصيص، وهذا بخلاف الآيات الناهية عن العمل بالظن؛ كقوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[4]، و﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا[5]، و﴿آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ[6]، فإنها مخصصة بغير الظن الحاصل من إخبار الثقة، وليست آبية عن ذلك.
والإنصاف:
أولا: إنا لم نجد فرقا بين عموم التعليل في آية النبأ والآيات الناهية عن العمل بالظن، فكلاهما يمكن الادعاء بحقهما أنهما آبيان عن التخصيص. وكيف يخصَّص قوله: >إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا<؟!
ثانيا: إن كل هذه الآيات خارجة عن محل النـزاع، لأن الأدلة التي دلت على حجية خبر الثقة نافخة فيه صورة العلم تعبدا.
وعليه، فخبر الثقة خارج من تحت عمومات هذه الآيات المباركة؛ لأن موضوعها الظن، وهو ليس بظن، بل هو علم تعبدا، فيكون رافعا لموضوع هذه الآيات تعبدا لا وجدانا،  وهذا ما يعبر عنه ﺑ(الحكومة)؛ لكون المفهوم حاكما على العام لا مخصِّصا له.
وعليه، فمحل الكلام ما لم تكن هناك حكوم، فإن الإنصاف أنه لو دار الأمر بين العام والمفهوم المخالف، وكانت النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا، يقدم المفهوم على العام ويخصصه، سواء كانت الدلالة على العام بالوضع أم بالإطلاق؛ لأن تقديم العام يعني إلغاء المفهوم، ولا موجب لإلغائه؛ فإن لمفهوم الشرط مقوِّمين، هما: أن يكون القيد راجعيا للحكم لا للموضوع، وأن يكون الشرط علة تامة انحصارية، واستفادة العلة التامة بالإطلاق الواوي، واستفادة الانحصارية بالإطلاق الأوي. وإلغاء المفهوم يعني إلغاء أحد مقوِّميه على الأقل، ولا سبيل للعام إلى إلغاء المقوِّم الأول؛ لأن رجوع القيد إلى الموضوع له أسبابه الخاصة، وهي أن يكون الشرط مسوقا لبيان الموضوع؛ كما في قولك: (إن رزقت ولدا فاختنه)، أو أن يكون ترتب الجزاء على الشرط عقليا؛ كما في قولك: (إذ ركب الأمير فخذ بركابه). كما لا سبيل للعام إلى إلغاء المقوِّم الثاني؛ لأن مقدمات الحكمة الجارية في طرف المفهوم تكون بمنـزلة القرينة على أن المراد من العام هو الخاص، والعام لا يصلح لأن يكون قرينة على التصرف في القضية الشرطية.
وعليه، فالمفهوم تام غير ملغى، وهو أخص من العام وأضيق منه، وبالتالي هو أقوى ظهورا منه، فيقدم عليه ويخصِّصه. والله العالم.


[1]کفایة الاصول، آخوند خراسانی، ص233.
[2]حجرات/سوره49، آیه6.
[3] فوائدالأصول، نائینی، ج1-2، ص558.
[4]اسراء/سوره17، آیه36.
[5]یونس/سوره10، آیه36.
[6]یونس/سوره10، آیه59.