الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/03/13

بسم الله الرحمن الرحیم

ثم إن الكلام عن تقديم أصالة الظهور في العموم على أصالة عدم الاستخدام مبني على ما إذا انعقد للكلام ظهور في العموم، أما إذا لم ينعقد له ظهور فيه؛ كما لو كان الكلام محتفا بما يصلح للقرينية؛ أي مكتنفا بضمير صالح لأن يكون قرينة على المراد من العام؛ كما في الآية المباركة مع فرض أن الضمير في (بعولتهن) قرينة صالحة لتعيين المراد من (المطلَّقات)، وأنه خصوص الرجعيات أو عموم المطلَّقات، فهذا الضمير الصالح للقرينية يجعل العام مجملا، وبالتالي يمنع من انعقاد ظهور له في العموم. وعليه،لا يمكن تقديم أصالة العموم؛ لأنها فرع انعقاد الظهور، ولا أصالة عدم الاستخدام؛ لأنها فرع أصالة الحقيقة، وهي - كما تقدم - غير ثابتة فيما لو كان الشك في كيفية الإرادة. وعليه، فيكون المرجع إلى الأصل العملي.

والإنصاف: أنه ليس كل ما يكتنف به الكلام مما يصلح للقرينة على المراد يجعل الكلام مجملا، وبالتالي يمنع من انعقاد ظهور له، بل الضابطة في احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية هو أن يكون ذلك الصالح مجملا، أما إذا لم يكن مجملا، فلا موجب حينئذ لإجمال الكلام؛ مثلا لو قال: (أكرم العلماء إلا الفساق منهم)، وفرضنا الإجمال في مفهوم الفاسق؛ بحيث شككنا أنه مرتكب الكبيرة فقط، أم يشمل مرتكب الصغيرة أيضا، فهنا إجمال المفهوم يسري إلى العام، فيقال: الكلام محتف بمجمل صالح للقرينية جعل الكلام مجملا أيضا؛ بحيث لا يمكن بعدُ التمسك بالعموم بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة، ولا يمكن إدخاله تحت الخاص، فالمرجع إلى الأصول العملية.

أما الضمير في الآية المباركة، فليس مجملا ليسري إجماله إلى العام؛ لأن فيها حكمين منفصلين، الأول هو وجوب تربص عموم المطلَّقات ثلاثة قروء، والثاني هو أحقية بعولة المطلَّقات الرجعيات برد زوجاتهم، ولا موجب لأن يجعل الحكـمُ الثاني
العامَّ مجملا والفرض أنه ليس مجملا.
وعليه، فكلام صاحب الكفاية القاضي بالتوقف لإجمال العام، والرجوع إلى الأصول العملية، لا ينطبق على محل الكلام، لأن العام قد انعقد له ظهور في العموم، ولا يمنعه الضمير من الانعقاد طالما لم يتسم بالإجمال.
ولكن الآية الشريفة - كما تقدم - خارجة عن محل الكلام أصلا، لأن الضمير لا يعود على بعض أفراد العام ليتحقق موضوع الاستخدام حتى يدور الأمر بين تقديم أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام، وإنما يعود على الكل.
ثم اعلم أننا لم نجد لهذه المسألة، وهي تقديم أصالة العموم على أصالة عدم الاستخدام بحال اكتنف الكلام بضمير يعود على بعض أفراد العام، مثالا في الفقه من آية أو رواية. وبذلك تبقى المسألة علمية لا مورد لها. والله العالم.

الفصل الخامس: تخصيص العام بالمفهوم
        قال صاحب الكفاية : "فصل: قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف، مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق، على قولين، وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور".[1]
        حاصل هذه المسألة أنه لدينا عام ومفهوم موافق أو مفهوم مخالف معارض للعام، فهل يقدم العام على المفهوم، أم نخصص العام بالمفهوم؟ اختلف الأعلام على قولين فيما لو كان المفهوم مخالفا، بينما اتفقوا على جواز التخصيص فيما لو كان المفهوم موافقا.
نقول: تقدم في مقدمة المقصد الثالث أنه قد قسم المفهوم إلى قسمين:
مفهوم مخالفة: وهو فيما لو كان الحكم في المفهوم مخالفا للحكم في المنطوق إيجابا وسلبا؛ كمفهوم (إن جاءك زيد فأكرمه)، فإن الحكم في المنطوق إيجابي، وهو (أكرم)، والحكم في المفهوم سلبي، وهو (لا تكرم). وتطبيقه هنا: لو قال: (أكرم العلماء)، ثم قال: (أكرم العلماء إذا كانوا عدولا)، فإن مفهومه (إذا لم يكونوا عدولا فلا تكرمهم)، فيتنافى مع عموم (أكرم العلماء).
ومفهومالموافقة: وهو فيما لو كان الحكم في المفهوم موافقا للحكم في المنطوق إيجابا وسلبا؛ كمفهوم الأولوية في قوله : >فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ<، فإن الحكم في المنطوق سلبي، وهو (لا تتأفف)، والحكم في المفهوم سلبي أيضا، وهو (لا تشتم) أو (لا تضرب). وتطبيقه هنا: لو قال: (اضرب كل أحد)، ثم قال: (ولا تقل لهما أف)، فإن مفهومه (لا تضرب الأبوين)، فيتنافى مع عموم وجوب ضرب كل أحد حتى الأبوين.
هذا وقد ذكرنا سابقا أول مبحث المفاهيم أول مبحث المفاهيم أن الآية الشريفة قد فسّرتها صحيحة أبي ولاد بالآداب، فراجع.
ولا بأس بالتطرق إلى ما ذكره بعض الأعلام مثالا على مفهوم الموافقة، وإن كان ليس من دأبنا المناقشة في المثال، إلا أنه لا يخلو من فائدة فقهية. وحاصله: أن من عقد على معتدة حرمت عليه مؤبدا[2]، فمفهوم الموافقة له هو الحكم بأنه من عقد على ذات بعل حرمت عليه مؤبدا من باب أولى. فيكون منافيا لعموم قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ[3].
وفيه: أولا: لا إشكال أنه من عقد على معتدة ودخل بها أثناء العدة تحرم عليه أبدا سواء أكان عالما أم جاهلا، وأما إذا لم يدخل، فإن كان قد عقد عليها عالما بأنها معتدة فتحرم عليه مؤبدا أيضا، وإن كان جاهلا لم تحرم عليه، وإنما يبطل العقد فقط، وبإمكانه أن يعقد عليها بعد انتهاء العدة.
ثانيا: من عقد على ذات البعل عالما فتحرم عليه مؤبدا، وأما مع الجهل، فالمشهور على أنه إن دخل بها تحرم عليه مؤبدا، وذهب البعض إلى عدم الحرمة، واحتاط البعض.
وكذا ورد أنه إذا عقد على امرأة معتدة، وهو جاهل وهي عالمة، حرمت عليه مؤبدا وإن لم يدخل بها، وإذا عقد على ذات بعل، وهو جاهل وهي عالمة، لم تحرم عليه مؤبدا إذا لم يدخل بها، وأما مع الدخول، فقد تقدم حكمه.

وعليه، فبعد أن عرفت الاتفاق على الحرمة الأبدية فيما لو عقد ذات العدة ودخل بها وإن كان جاهلا، والاختلاف في ذلك فيما لو كانت ذات بعل وكان جاهلا، اتضح أن حال المعتدة أشد من ذات البعل، فدعوى الأولوية في غير محلها.
نرجع إلى أصل البحث، وهو أنه لو كان لدينا عام ومفهوم موافق أو مفهوم مخالف معارض للعام، فهل يقدم العام على المفهوم، أم نخصص العام بالمفهوم؟
يقول صاحب الكفاية: أما المفهوم الموافق فيخصص العام بلا خلاف، وقد علل بعض الأعلام ومنهم السيد محسن الحكيم  ذلك بأنه في المفهوم الموافق لا يمكن أن يقع التنافي بينه وبين العام إذا لم يكن هناك تناف بين العام والمنطوق، لأن الحكم في المفهوم موافق للحكم بالمنطوق، فهو ملازم له غير منفك عنه، بل إنما سيق الحكم في المفهوم لبيان الحكم في المنطوق، وأن الفرد الخفي إنما ذكر لأجل التنبيه على الفرد الجليّ؛ ﻓ(لا تضرب الأبوين) مثلا، جاء من (لا تقل لهما أف)، وموافق له من حيث السلب، فكيف يقع التعارض والتنافي بين العام (اضرب كل أحد) ومفهوم الموافقة، ولا يكون تناف بين العام والمنطوق؟! بل هناك ملازمة بين القول بالتنافي بين العام ومفهوم الموافقة، وبين العام والمنطوق، فلا يمكن أن نرفع اليد عن مفهوم الموافقة، وهو حرمة ضرب الأبوين، مع بقاء الحكم في المنطوق وهو حرمة التأفف. وعليه فالتنافي في الواقع ليس بين العام والمفهوم، بل بين العام والمنطوق.
وهكذا لو قال: (أكرم خدّام العلماء)، فمفهوم الموافقة (أكرم العلماء)، ثم قال: (لا تكرم الفساق)، فيتنافى هذا العام مع مفهوم الموافقة، فهنا بما أن وجوب إكرام العلماء جاء من وجوب إكرام خدّامهم، وهو مطابق له من حيث الحكم، فلا يمكن أن يقع التنافي بين العام ومفهوم الموافقة، ولا يقع التنافي بين العام والمنطوق. وبعبارة أخرى: لو قدَّمنا العام (لا تكرم الفساق)، ورفعنا اليد عن المفهوم (أكرم العلماء)، فلا يمكن أن يبقى المنطوق وهو (أكرم خدّام العلماء). وعليه، فالتنافي في الأصل ليس بين العام والمفهوم، بل بين العام والمنطوق ويتبعه التنافي بين العام والمفهوم، ومن هنا اتفقوا على تقديم المنطوق؛ لأنه أخص مطلقا من العام.

ولكن القول بعدم إمكانية رفع اليد عن المفهوم مع بقاء الحكم في المنطـوق
جار في مفهوم المخالفة أيضا؛ والسر فيه: أن مفهوم المخالفة جاء من الخصوصية في الكلام التي دل عليها المنطوق، ومن هنا قلنا: إن المفهوم من باب الدلالة الالتزامية إذا كان اللزوم على نحو البيِّن بالمعنى الأخص؛ مثلا: (إن جاءك زيد فأكرمه) دلت على خصوصية، وهي كون الشرط علة انحصارية للحكم، استتبعت المفهوم؛ بحيث أنهما - أي الخصوصية والمفهوم - متلازمان لا ينكفان عن بعضهما، فطالما الخصوصية ثابتة فالمفهوم ثابت أيضا. وعليه، لا يمكن رفع اليد عن المفهوم مع بقاء الخصوصية في المنطوق؛ لأن معنى رفع اليد عن المفهوم هو أن الخصوصية غير موجودة، وعدم وجودها يعني أن المنطوق غير موجود.
وبعبارة أخرى: المفهوم لما كان لازما مساويا للمنطوق، فلا يعقل رفع اليد عن اللازم مع بقاء الملزوم المساوي له، كما أنه لا يمكن رفع اليد عن الملزوم مع بقاء اللازم المساوي له. وبالتالي ما ذُكِر من أنه لا إشكال في تخصيص العام بالمفهوم الموافق وأنه موضع اتفاق بين الأعلام، لا بد أن يعم المفهوم المخالف أيضا؛ لأن منشأ التخصيص، وهو أنه لا يمكن رفع اليد عن المفهوم مع بقاء الحكم في المنطوق، موجود في كليهما. وبالجملة، إن تم هذا التعليل، فيتم في المفهومين معا، وإلا فلا معنى للتفصيل.
هذا ما قيل في مفهوم الموافقة وما أشكلنا عليها، وأما مفهوم المخالفة، فذهب الأكثر إلى لزوم تخصيص العام بالمفهوم المخالف، بينما ذهب مخالفوهم إلى عدم التخصيص.

وقد علَّل صاحب المعالم القول الأكثر بأن تقديم المفهوم نحو جمع بين الدليلين، وهو أولى من الطرح؛ كما ذكر ذلك صاحب المعالم ؛ حيث قال: "لنا: أنه دليل شرعي عارض مثله، وفي العمل به جمع بين الدليلين، فيجب". ثم ذكر حجة مخالفي هذا القول: "احتج المخالف: بأن الخاص إنما يقدم على العام؛ لكون دلالته على ما تحته أقوى من دلالة العام على خصوص ذلك الخاص، وأرجحية الأقوى ظاهرة. وليس الامر ههنا كذلك، فإن المنطوق أقوى دلالة من المفهوم، وإن كان المفهوم خاصا، فلا يصلح لمعارضته، وحينئذ فلا يجب حمله عليه"[4].
أما صاحب الفصول، فقد أشكل على كلا الدليلين قائلا: "وفيه أن الجمع كما يمكن بإلغاء العموم كذلك يمكن بإلغاء المفهوم، فيستدعي ترجيح الأول من مرجح، ومجرد كونه طريق جمع لا يكفي، فإن الثاني أيضا طريق جمع"[5].
أما بيان الإنصاف، فهو يستدعي التفريق بين ما لو كانت النسبة بين العام والمفهوم عموما وخصوصا مطلقا، أو عموما وخصوصا من وجه، والتفريق بين ما لو استفدنا العموم والمفهوم بالوضع أو بمقدمات الحكمة، أو أحدهما بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة. ولكن قبل ذلك فلنرى ماذا قال صاحب الكفاية.


[1]کفایة الاصول، آخوند خراسانی، ص233.
[2]وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملی، ج20، ص450، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب17، ح3، ط آل البیت.
[3]نساء/سوره4، آیه24.
[4] معالم الدين، الشهيد الثاني، ص140.
[5] الفصول الغروية، محمد حسین اصفهانی، ص212.