الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/02/29

بسم الله الرحمن الرحیم

المبحث الأول: تكليف الغائب والمعدوم

        قال صاحب الكفاية: "هل الخطابات الشفاهية؛ مثل: (يا أيها المؤمنون)[1]تختصبالحاضرمجلسالتخاطب،أوتعمغيرهمنالغائبين، بل المعدومين؟ فيه خلاف، ولا بد قبل الخوض في تحقيق المقام، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والإبرام بين الاعلام. فاعلم أنه يمكن أن يكون النـزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين، كما صح تعلقه بالموجودين، أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب،أوبنفستوجيهالكلامإليهم،وعدم صحتها، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيبأداة الخطاب للغائبين بل المعدومين، وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة".[2]

الخطابات الشرعية تارة تكون شفاهية؛ أي تستدعي وجود أشخاص مشافَهين؛ كالخطابات المحفوفة بأداة النداء أو كاف الخطاب؛ مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[3]، وأخرى لا تكون شفاهية؛ كما في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[4]، والسؤال في هذا الفصل هو: هل تختص الخطابات الشرعية سواء الشفاهية أم غير الشفاهية بالحاضرين في مجلس الخطاب، أم تعم الغائبين عنه بل المعدومين آنذاك؟ وأما الخطابات غير الشفهية، فلا إشكال في أنها تعم الغائبين والمعدومين آنذاك، وسيأتي إن شاء الله تعالى التنبيه على ذلك.
        وأما بالنسبة إلى الخطابات الشفاهية، فقد اختلف الأعلام في الإجابة على هذا السؤال، فيذكر صاحب المعالم  ذهاب الأصحاب وأكثر أهل الخلاف إلى عدم شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين؛ حيث قال: "أصل: ما وضع لخطاب المشافهة؛، نحو: (يا أيها الناس)، (يا أيها الذين آمنوا) لا يعم بصيغته من تأخر عن زمن الخطاب، وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر؛ وهو قول أصحابنا وأكثر أهل الخلاف، وذهب قوم منهم إلى تناوله بصيغته لمن بعدهم"[5].

        وكذلك ذكر صاحب الفصول  ناسبا إلى الحنابلة القول بالشمول؛ حيث قال: "فصل: اختلفوا في أن الألفاظ التي وضعت للخطاب ﮐ(يا أيها الناس) و(يا أيها الذين آمنوا) هل يكون خطابا لغير الموجودين ويعمهم بصيغته أو لا؟ ذهبت الحنابلة على ما حكي عنهم إلى الأول، والمعروف بين أصحابنا هو الثاني وعليه أكثر أهل الخلاف"[6].

        وحكي عن الشيخ الأنصاري  في التقريرات بعد ما اختار في صدر المسألة شمول الخطاب للمعدومين على وجه الحقيقة أقوالا عديدة: منها القول بالشمول من دون تصريح بكونه على وجه الحقيقة أو المجاز. ومنها القول بالشمول حقيقة لغة. ومنها القول بالشمول حقيقة شرعا. ومنها القول بإمكان الشمول على وجه المجاز بنحو من التنـزيل والادعاء إذا كان فيه فائدة يتعلق بها أغراض أرباب المحاورة وأصحاب المشاورة[7].

        ثم إن الأعلام صوَّروا محل النـزاع بوجوه ثلاثة:
        الأول: هل التكاليف التي تضمنتها أدوات الخطاب بالخطابات الشفاهية، تختص بالحاضرين في مجلس الخطاب، أم يمكن أن تشمل الغائبين عنه والمعدومين؟
        الثاني: هل يمكن مخاطبة الغائبين عن مجلس الخطاب، والمعدومين آنذاك؟ وقد ذهب صاحب الفصول إلى أن النـزاع ينبغي أن يقع على هذا الوجه.
        الثالث: هل المتلوّ بعد أداة الخطاب؛ مثل (الذين آمنوا)؛ أي الألفاظ العامة الواقعة عقيب (يا أيها) تعم الغائبين بل المعدومين بالوضع؛ بحيث لا يحتاج ثبوت التكليف لهم إلى دليل خارجي كالإجماع على الاشتراك في التكاليف، أم لا تعمهم بقرينة أدوات الخطاب؟ وقد حرر بعض الأعلام هذا الوجه على نحو آخر، وهو أنه هل أداة الخطاب موضوعة لخصوص الحاضرين أم الأعم؟
        ثم إن النـزاع على الوجه الأول والثاني نزاع عقلي؛ لأنه نزاع في الإمكان والامتناع، بينما النـزاع على الوجه الثالث بكلا تحريريه نزاع لغوي؛ لأن المرجع في عموم معاني الألفاظ وعدمه التي هي المعاني الحقيقية هي اللغة، وإن كان يرجع في النهاية إلى نزاع عقلي، وهو إمكان مخاطبة الغائب والمعدوم.
        إذا عرفت ذلك، فنقول: إن كان النـزاع بينهم على نحو الوجه الأول، فبيان الإنصاف فيه متوقف على المراد من التكليف، فإن كان المراد منه هو التكليف الفعلي المنجز، فلا إشكال في عدم شموله للغائب عن مجلس الخطاب والمعدوم آنذاك، بل لا يشمل الحاضر الغافل؛ لأن مناط التنجيز هو وصول التكليف إلى المكلف، والوصول غير متحقق بالنسبة لهؤلاء الثلاثة؛ أي الحاضر الغافل، والغائب، والمعدوم، فلا يكون التكليف منجزا عليهم. ثم إن معنى المنجزية هو إحداث الداعي، وهو البعث نحو الفعل بالنسبة إلى الوجوب، والزجر عنه بالنسبة إلى الحرمة، ولا يعقل إحداث الداعي عند من لم يصل إليه التكليف.

        وإن كان المراد من التكليف هو التكليف الفعلي غير المنجز، فهو ممكن بحق
الحاضر في مجلس الخطاب غير الملتفت، كما أنه ممكن بحق الغائب أيضا دون المعدوم؛ لأن مناط فعلية التكليف تحقق موضوعه، وهو المكلف القادر، والفرض عدمه، فلا يكون التكليف بحقه فعليا فضلا عن كونه منجزا.

        وإن كان المراد من التكليف التكليف الإنشائي؛ أي بلا طلب حقيقي، فيكون التكليف حينئذ صوريا؛ نظير التكليف الامتحاني، فلا محظورفي شموله حينئذ لجميع الموجودين والمعدومين معا؛ حيث إن الموضوع قد أخذ مفروض الوجود، ولا مانع من فرض وجود الموضوع وجعل الحكم له سواء أكان موجودا حقيقة أم لم يكن.

وبالجملة، فإنه مجرد إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر، ومن هنا صح تعلقه بالمعدوم؛ لأن الإنشاء مجرد اعتبار، والاعتبار سهل المؤونة. والتكليف على هذا النحو كالقضايا الحقيقية التي يشمل حكمها كل موضوع موجود ومقدَّر؛ كما في موثقة عمار، عن أبي عبد الله  - في حديث - قال: "كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك"[8]؛ فإن حكم النظافةفيها؛ أي الطهارة، منصب على كل شيء مشكوك الطهارة سواء كان موجودا زمن الخطاب أم لا. وكذا في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[9]، فإن وجوب الحج انصب على كل مستطيع مقدَّر الوجود؛ أي إذا وُجِدَ بالغ عاقل، له زاد وراحلة، مخلى السرب، صحيح البدن، فيجب عليه الحج.

        ثم نظَّر صاحب الكفاية لتعلق التكليف بالمعدوم؛ حيث قال: "ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون، فإن المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة، بعد وجوده بإنشائه، ويتلقى لها من الواقف بعقده، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا، إلا استعدادها لان تصير ملكا له بعد وجوده، هذا إذا أنشئ الطلب مطلقا. وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجد انه الشرائط، فإمكانه بمكان من الإمكان".[10]
        يذكر صاحب الكفاية نظيرا لتعلق التكليف بالمعدوم، وهو إنشاء التمليك في الوقت عل البطون، وهو فيما لو وقف عينا على البطون؛ كما لو قال: (وقفت هذه الدار على ذريتي بطنا بعد بطن)، فصحيح أن وقف الدار على البطن الأول وقف فعلي، إلا أن وقفها على البطن الثاني والثالث وقف إنشائي؛ لأنهما كانا معدومين حين الوقف، وبالتالي فيكون إنشاء الواقف متضمنا وقفا فعليا بالنسبة إلى البطن الأول، ووقفا إنشائيا بالنسبة إلى البطن الثاني والثالث وما بعدهما؛ لأن هذه البطون تتملك العين بواسطة إنشاء الواقف، وليس بوراثتها عن البطن السابق، فيصح كون المالك معدوما؛ كما في مثال الوقف المتقدم، ونظيره تملك الحمل للميراث.
        كما يصح كون المملوك معدوما؛ كما في المزارعة والمساقاة ونحوهما مما قام الدليل عليه بالخصوص، ومثاله في المزارعة والمساقاة؛ كما لو قال المالك للزارع: (سلمتك أرضي هذه لتزرعها لسنتين مثلا على أن يكون لك نصف حاصلها)، أو قال: (سلمتك أشجار أرضي هذه لتسقيها لسنتين مثلا على أن يكون لك ثلث حاصلها)، فإن الثمرة في المزارعة التي جعلت حصة للعامل معدومةٌ حال الإنشاء، وكذا المساقاة إذا كانت قبل ظهور الثمرة.
        ثم نبَّه صاحب الكفاية على أن هذا الكلام كله فيما لو كان الإنشاء مطلقا، أما لو كان مقيدا بوجود الموضوع ووجدانه الشرائط؛ كما لو قال: (إذا وُجِدَ بالغ عاقل مستطيع مخلى السرب صحيح البدن وجب عليه الحج)، فهنا لا إشكال في تعلق التكليف بالمعدوم وشموله له إنشائيا.

والخلاصة: إنه لا يعقل تعلق التكليف المنجز بالغائب والمعدوم، بل لا يعقل
تعلقه بالغافل وإن كان حاضرا في مجلس الخطاب. وكذا لا يمكن تعلق التكليف الفعلي غير المنجز بالمعدوم، ولكن يمكن تعلقه بالغائب عن مجلس الخطاب فضلا عن الموجود فيه غير الملتفت. أما التكليف الإنشائي فيصح تعلقه بالمعدوم فضلا عن الحاضر والغائب، سواء أكان مطلقا أم مقيدا بوجود الموضوع وسائر الشرائط.

المبحث الأول: تكليف الغائب والمعدوم

        قال صاحب الكفاية: "هل الخطابات الشفاهية؛ مثل: (يا أيها المؤمنون)[11]تختصبالحاضرمجلسالتخاطب،أوتعمغيرهمنالغائبين، بل المعدومين؟ فيه خلاف، ولا بد قبل الخوض في تحقيق المقام، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والإبرام بين الاعلام. فاعلم أنه يمكن أن يكون النـزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين، كما صح تعلقه بالموجودين، أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب،أوبنفستوجيهالكلامإليهم،وعدم صحتها، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيبأداة الخطاب للغائبين بل المعدومين، وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة".

الخطابات الشرعية تارة تكون شفاهية؛ أي تستدعي وجود أشخاص مشافَهين؛ كالخطابات المحفوفة بأداة النداء أو كاف الخطاب؛ مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[12]، وأخرى لا تكون شفاهية؛ كما في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[13]، والسؤال في هذا الفصل هو: هل تختص الخطابات الشرعية سواء الشفاهية أم غير الشفاهية بالحاضرين في مجلس الخطاب، أم تعم الغائبين عنه بل المعدومين آنذاك؟

        اختلف الأعلام في الإجابة على هذا السؤال، فيذكر صاحب المعالم
ذهاب الأصحاب وأكثر أهل الخلاف إلى عدم شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين؛ حيث قال: "أصل: ما وضع لخطاب المشافهة؛، نحو: (يا أيها الناس)، (يا أيها الذين آمنوا) لا يعم بصيغته من تأخر عن زمن الخطاب، وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر؛ وهو قول أصحابنا وأكثر أهل الخلاف، وذهب قوم منهم إلى تناوله بصيغته لمن بعدهم"[14].
        وكذلك ذكر صاحب الفصول  ناسبا إلى الحنابلة القول بالشمول؛ حيث قال: "فصل: اختلفوا في أن الألفاظ التي وضعت للخطاب ﮐ(يا أيها الناس) و(يا أيها الذين آمنوا) هل يكون خطابا لغير الموجودين ويعمهم بصيغته أو لا؟ ذهبت الحنابلة على ما حكي عنهم إلى الأول، والمعروف بين أصحابنا هو الثاني وعليه أكثر أهل الخلاف"[15].
        وحكي عن الشيخ الأنصاري  في التقريرات بعد ما اختار في صدر المسألة شمول الخطاب للمعدومين على وجه الحقيقة أقوالا عديدة: منها القول بالشمول من دون تصريح بكونه على وجه الحقيقة أو المجاز. ومنها القول بالشمول حقيقة لغة. ومنها القول بالشمول حقيقة شرعا. ومنها القول بإمكان الشمول على وجه المجاز بنحو من التنـزيل والادعاء إذا كان فيه فائدة يتعلق بها أغراض أرباب المحاورة وأصحاب المشاورة[16].
        ثم إن الأعلام صوَّروا محل النـزاع بوجوه ثلاثة:
        الأول: هل التكاليف المتضمنة لأدوات الخطاب؛ أي التكاليف بالخطابات الشفاهية، تختص بالحاضرين في مجلس الخطاب، أم يمكن أن تشمل الغائبين عنه والمعدومين؟
        الثاني: هل يمكن مخاطبة الغائبين عن مجلس الخطاب، والمعدومين آنذاك؟ وقد ذهب صاحب الفصول إلى أن النـزاع ينبغي أن يقع على هذا الوجه.
        الثالث: هل المتلوّ بعد أداة الخطاب؛ مثل (الذين آمنوا) مختص بالحاضرين في مجلس الخطاب، أم يشمل الغائبين عنه والمعدومين؟ وقد حرر بعض الأعلام هذا الوجه على نحو آخر، وهو أنه هل أداة الخطاب موضوعة لخصوص الحاضرين أم الأعم؟
        ثم إن النـزاع على الوجه الأول والثاني نزاع عقلي؛ لأنه نزاع في الإمكان والامتناع، بينما النـزاع على الوجه الثالث بكلا تحريريه نزاع لغوي؛ لأنه نزاع في الدلالة، وإن كان يرجع في النهاية إلى نزاع عقلي، وهو إمكان مخاطبة الغائب والمعدوم.

        إذا عرفت ذلك، فأما الكلام في الوجه الأول، فبيان الإنصاف فيه متوقف على المراد من التكليف، فإن كان المراد منه هو التكليف الفعلي المنجز، فلا إشكال في عدم شموله للغائب عن مجلس الخطاب والمعدوم آنذاك، بل لا يشمل الحاضر الغافل؛ لأن مناط التنجيز هو وصول التكليف إلى المكلف، والوصول غير متحقق بالنسبة لهؤلاء الثلاثة؛ أي الحاضر الغافل، والغائب، والمعدوم، فلا يكون التكليف منجزا عليهم. ثم إن معنى المنجزية هو إحداث الداعي، وهو البعث نحو الفعل بالنسبة إلى الوجوب، والزجر عنه بالنسبة إلى الحرمة، ولا يعقل إحداث الداعي عند من لم يصل إليه التكليف.

        وإن كان المراد من التكليف هو التكليف الفعلي غير المنجز، فهو ممكن بحق الحاضر في مجلس الخطاب سواء كان ملتفتا إليه أم غافلا عنه، كما أنه ممكن بحق الغائب  أيضا دون المعدوم؛ لأن مناط فعلية التكليف تحقق موضوعه، وهو المكلف، والفرض عدمه، فلا يكون التكليف بحقه فعليا فضلا عن كونه منجزا.

        وإن كان المراد من التكليف التكليف الإنشائي الصوري لا الحقيقي، فلا محظور في شموله حينئذ للجميع؛ إذ لا داعي فيه ليشترط فيه الوصول كما في التكليف المنجز، ولا فعلية فيه ليشترط فيه فعلية موضوعه، ومن هنا صح تعلقه بالمعدوم؛ لأن الإنشاء مجرد اعتبار، والاعتبار سهل المؤونة.

والتكليف على هذا النحو كالقضايا الحقيقية التي يشمل حكمها كل موضوع موجود ومقدَّر؛ كما في موثقة عمار، عن أبي عبد الله  - في حديث - قال: "كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك"[17]؛ فإن حكم النظافة فيها؛ أي الطهارة، منصب على كل شيء مشكوك الطهارة سواء كان موجودا زمن الخطاب أم لا. وكذا في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[18]، فإن وجوب الحج انصب على كل مستطيع مقدَّر الوجود.

        ثم نظَّر صاحب الكفاية لتعلق التكليف بالمعدوم؛ حيث قال: "ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون، فإن المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة، بعد وجوده بإنشائه، ويتلقى لها من الواقف بعقده، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا، إلا استعدادها لان تصير ملكا له بعد وجوده، هذا إذا أنشئ الطلب مطلقا. وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجد انه الشرائط، فإمكانه بمكان من الإمكان".[19]

        يذكر صاحب الكفاية شاهدا على وقوع تعلق التكليف بالمالك المعدوم في الشريعة، وهو فيما لو أوقف الواقف عينا على البطون المتلاحقة؛ كما لو قال: (أوقفت هذه الدار على ذريتي بطنا بعد بطن)، فصحيح أن إيقاف الدار على البطن الأول إيقاف فعلي، إلا أن إيقافها على البطن الثاني والثالث إيقاف إنشائي؛ لأنهما كانا معدومين حين الوقف، وبالتالي فيكون إنشاء الواقف متضمنا وقفا فعليا بالنسبة إلى البطن الأول، ووقفا إنشائيا بالنسبة إلى البطن الثاني والثالث وما بعدهما؛ لأن هذه البطون تتملك العين بواسطة إنشاء الواقف، وليس بوراثتها عن البطن السابق.
        هذا بالنسبة إلى تعلق التكليف الإنشائي بالمالك المعدوم، وكذا وقع في الشريعة تعلق التكليف بالمملوك المعدوم؛، كما في المزارعة والمساقاة؛ كما لو قال: (سلمتك أرضي هذه لتزرعها لسنتين على أن يكون لك نصف حاصلها)، أو قال: (سلمتك أشجار أرضي هذه لتسقيها لسنتين على أن يكون لك ثلث حاصلها)، فإن متعلق التكليف في كليهما معدوم حال إنشاء التكليف.
        ثم نبَّه صاحب الكفاية على أن هذا الكلام كله فيما لو كان الإنشاء مطلقا، أما لو كان مقيدا بوجود الموضوع؛ كما لو قال: (إذ وجد الناس وجبت عليهم الصلاة)، فهنا لا إشكال في تعلق التكليف بالمعدوم وشموله له إنشائيا.
ونتيجة الوجه الأول أنه لا يعقل تعلق التكليف المنجز بالغائب والمعدوم، بل لا يعقل تعلقه بالغافل وإن كان حاضرا في مجلس الخطاب. وكذا لا يمكن تعلق التكليف الفعلي غير المنجز بالمعدوم، ولكن يمكن تعلقه بالغائب عن مجلس الخطاب فضلا عن الموجود فيه غير الملتفت. أما التكليف الإنشائي فيصح تعلقه بالمعدوم فضلا عن الحاضر والغائب، سواء أكان مطلقا أم مقيدا بوجود الموضوع.


[1] تنبغي الإشارة إلى أنه لم ترد هذه العبارة في الكتاب الكريم، وإنما ورد أيها المؤمنون في قوله:. ﴿َتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ سورة النور، الآية 31.
[2]کفاية الاصول، الآخوند الخراساني، ص227.
[3]مائده/سوره5، آیه6.
[4]آل عمران/سوره3، آیه97.
[5] معالم الدين، الشهيد الثاني، ص108.
[6] الفصول الغروية، محمد حسین اصفهانی، ص179.
[7] عناية الأصول، سید مرتضی فیروزآبادی، ج2، 297.
[8] وسائل الشيعة، شیخ حر عاملی، ج3، ص467، من أبواب النجاسات، باب37، ح4، ط آل البیت.
[9]آل عمران/سوره3، آیه97.
[10] کفاية الاصول، الآخوند الخراساني، ص228.
[11]  تنبغي الإشارة إلى أنه لم ترد هذه العبارة في الكتاب الكريم، وإنما ورد أيها المؤمنون في قوله:. .﴿َتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ سورة النور، الآية 31.
[12]مائده/سوره5، آیه6.
[13]آل عمران/سوره3، آیه97.
[14] معالم الدين، الشهيد الثاني، ص108.
[15] الفصول الغروية، محمد حسین اصفهانی، ص179.
[16] عناية الأصول، سید مرتضی فیروزآبادی، ج2، 297.
[17]  وسائل الشيعة، شیخ حر عاملی، ج3، ص467، من أبواب النجاسات، باب37، ح4، ط آل البیت.
[18] آل عمران/سوره3، آیه97.
[19] کفاية الاصول، الآخوند الخراساني، ص228.