الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/02/24

بسم الله الرحمن الرحیم

ثانيا: لا فرق في انحلال العلم الإجمالي بنفسه بالنسبة إلى الأقل والأكثر الاستقلاليين بين أن يكون المعلوم إجمالا ذا علامة وتعيُّن أو بدون علامة؛ لأنه في الصورتين ينحل العلم الإجمالي إلى قضية حملية معلومة تفصيلا موضوعها الأقل، وأخرى مشكوكة بدوًا موضوعها الأكثر، فتجري في خصوصه البراءة. ولا يغير حالَ الأقل والأكثر الاستقلاليين ذوي العلامة تعلقُ العلم الإجمالي بكليهما بعدما عرفت أن هذا التعلق صوريّ؛ فإن هذا المورد - أي الأقل والأكثر الاستقلاليين سواء كانا ذوي علامة أم لا - ليس من العلم الإجمالي أصلا، وإن كان على صورته، فتأمل.
وعليه، ما ذهب إليه الميرزا النائيني من التفصيل بين ما لو كان المعلوم بالإجمال ذا علامة وتعيُّن وبين ما لم يكن كذلك، لم يكتب له التوفيق.

الوجه الرابع:
        إذا عرفت ذلك، فبعد الفراغ من اعتبار أصالة العموم من باب الظن الخاص، لا من باب الظن المطلق كما عن القمي، ومن باب الظن النوعي لا من باب الظن الشخصي، وبعد اعتبارها لعموم المكلفين، لا لخصوص المشافَهين كما عن القمي أيضا، وبعد أن أثبت صاحب الكفاية عدم صوابية هذه الوجوه الثلاثة، فما هو الوجه الصحيح لوجوب الفحص عن المخصِّصات قبل العمل بالعمومات؟ مع الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون محل الكلام هو ما لم يعلم بتخصيص العموم تفصيلا، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا.
بيَّن صاحب الكفاية الوجه الصحيح مفصِّلا؛ حيث قال: "فالتحقيق عدم جواز التمسك به قبل الفحص، فيما إذا كان في معرِض التخصيص؛ كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة؛ وذلك لأجل أنه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله، فلا أقلمنالشك،كيف؟وقدادعيالإجماع على عدم جوازه، فضلا عن نفي الخلاف عنه، وهو كاف في عدم الجواز، كما لا يخفى. وأما إذا لم يكن العام كذلك؛ كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في السنةأهلالمحاورات،فلاشبهةفيأنالسيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص".[1]

        حاصل هذا الكلام أن العام على قسمين: تارة يكون العام في معرِض التخصيص؛ كما هو الحال في عمومات الكتاب الكريم والسنة الشريفة؛ إذ نجد أن عادة الشارع ذِكر العام وتأجيل المخصِّص؛ إما لمفسدة في تعجيله، أو لمصلحة في تأجيله كمصلحة التدرج في تبليغ الأحكام. فهنا لا يجوز العمل بالعموم قبل الفحص عن المخصِّص؛ لأن مدرك حجية العموم وسائر الظهورات هو بناء العقلاء، وهي غير شاملة قطعا لهذه الصورة؛ أي فيما لو كان العام في معرِِض التخصيص، بل حتى لو فرضنا الشك في شمول السيرة لها، فبما أن السيرة دليل لبي، فينبغي الاقتصار فيما قامت عليه على القدر المتيقَّن، وهو العمل بالعمومات بعد الفحص.
        وأخرى لا يكون العام في معرِض التخصيص؛ كما في المحاورات بين العقلاء، وبين المولى وخادمه، وبين الوكيل وموكِّله، فهنا يجوز العمل بالعمومات قبل الفحص
عن المخصِّصات؛ وذلك لقيام السيرة على العمل بها قبل الفحص في هذه الصورة.
        هذا هو تمام الكلام في وجوه وجوب الفحص عن المخصِّصات قبل العمل بالعمومات، والإنصاف هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أن منشأ وجوبه هو كون العام في معرِض التخصيص، كما هو حال عمومات القرآن الكريم والسنة الشريفة.

مقدار الفحص:

        قال صاحب الكفاية: "وقد ظهر لك بذلك أن مقدار الفحص اللازمما به يخرج عن المعرضية له، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها من العلم الاجمالي به أو حصول الظن بما هو التكليف، أو غير ذلك رعايتها، فتختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى".

بعد أن ثبت اشتراط حجية العام بوجوب الفحص عن المخصِّصات، وأن وجه وجوبه هو كون العام في معرِض التخصيص، انتقل صاحب الكفاية إلى بيان مقدار ما يجب فحصه. وقد أجاب بأن ذلك بحسب الوجه المختار من الوجوه الأربعة.

أما بناء على الوجه الأول، وهو أن منشأ وجوب الفحص هو تحصيل الظـن الشخصيبكون العموم مرادا واقعا للمتكلم، فالفحص مغيَّى بحصول الظن الشخصي بإرادة المتكلم للعموم.

وأما بناء على الوجه الثاني، وهو أن منشأ وجوب الفحص هو تحصيل القدر المتيقَّن من الظن المطلق الثابت اعتباره بدليل الانسداد، فالفحص مغيَّى بقيام الإجماع على الحجية.

وأما بناء على الوجه الثالث، وهو أن منشأ وجوب الفحص هو العلم الإجمالي بوجود مخصِّصات، فالفحص مغيَّى بانحلاله.

وأما بناء على الوجه المختار، وهو أن منشأ وجوب الفحص هو كون العام  
في معرِض التخصيص، فالفحص مغيَّى بحصول الاطمئنان بعدم التخصيص، وهو حجة عقلائية يكفي لحصوله الفحص في الأبواب المناسبة لموضوع العام؛ فلو كان موضوعه الطهارة، فيكفي البحث في كتابها. ولا يجب تحصيل العلم الوجداني بعدم التخصيص من خلال الفحص عن المخصِّصات في كل باب؛ للزومه تعسر استنباط الأحكام، خصوصا وأن الأعلام من أصحاب مجامع الحديث قدأتعبوا أنفسهم الشريفةفي تقطيع الأحاديث وإيراد كل جزء منها في الباب المناسب له؛ حيث كثيرا ما جعلوا صدر الحديث في باب وذيله في باب آخر؛ إذ قد يكون ذيل الخبر قرينة على المراد من صدره، فلو اعتبرنا العلم واليقين، للزم الضيق والعسر الشديد في الاستنباط.

وأما بالنسبة إلى مصادر الأخبار، فلا إشكال في كفاية مراجعة كتاب الوسائل، وكتاب الحدائق، وكتاب الجواهر، فإن الفقيه بعد مراجعة هذه الكتب الثلاث، إن لم يعثر على المخصِّص في الباب المناسب للحالة، يطمئن بعدم المخصِّص حينئذ.

التفريق بين المخصِّص والمنفصل والمتصل:

        قال صاحب الكفاية: "ثمإن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل باحتمال أنه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا، ولو قبل الفحص عنها، كما لا يخفى".

        حاصل كلامه: إن ما تقدم من أن العمل بالعام متوقف على الفحص عن المخصِّص، خاص فيما إذا احتملنا المخصِّص المنفصل، أما المخصِّص المتصل فلا يتوقف العمل بالعام على الفحص عنه فيما إذا احتملنا سقوطه لسبب ما، فإن حاله حال احتمال قرينة المجاز؛ فكما أنه لو قيل مثلا: (رأيت أسدا)، فاحتمل أنه لا يريد من (الأسد) معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس، وإنما يريد به الرجل الشجاع مجازا، وقد سقطت القرينة على إرادة المجاز لسبب، فكما أنه في هذه الصورة يصح حمل اللفظ على معناه الحقيقي مباشرة قبل الفحص عن قرينة المجاز المحتملة، فكذلك الحال في العام فيما لو احتملنا مخصِّصا متصلا؛ حيث يصح العمل به دون الفحص.
        وفيه: أولا: إنه لا عبرة بالاتفاق في أمثال المقام ما لم يرجع إلى بيان ما عليه سيرة أهل اللسان.
        ثانيا: إنه بالاعتماد على الوجه المختار في وجوب الفحص عن المخصِّص، وهو أن يكون العام في معرِض التخصيص، فلا فرق بين المخصِّص المتصل والمنفصل طالما هذا المناط متحقِّق؛ أي كون العام في معرِض التخصيص.

ثم إن أصالة العموم من الظهورات التي منشأ حجيتها بناء العقلاء الذين قامت سيرتهم على الفحص في حال احتمال المخصِّص المتصل والمنفصل على حد سواء فيما لو كان العام في معرض التخصيص. وعليه، فما ذهب إليه صاحب الكفاية من التفريق بينهما لم يكتب له التوفيق.

التفريق بين الأصول اللفظية والعملية العقلية والشرعية:

        قال صاحب الكفاية: "إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص ها هنا، وبينه في الأصول العملية؛ حيث إنه ها هنا عما يزاحم الحجة، بخلافه هناك، فإنه بدونه لا حجة؛ ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان، والنقل وإن دل على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقا، إلا أن الاجماع بقسميه على تقييده به، فافهم".

        حاصل هذا الإيقاظ: لا يخفى أنه كما يجب الفحص عن المخصِّص قبل العمل بظهور العام الذي هو من الأصول اللفظية، كذلك يجب الفحص عن الدليل الاجتهادي قبل إجراء الأصول العملية؛ فلو شككنا مثلا بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فلا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص عن الدليل الاجتهادي، فإن لم نظفر به أجريناها.
نعم، تختلف الأصول اللفظية عن الأصول العملية من جهة أن الفحص في الأولى؛ كالفحص عن المخصِّص، فحص عما يزاحم العام في الحجية؛ فإن العام حجة من أول الأمر، إلا أنه لا يجوز العمل به قبل الفحص عن مخصِّص محتمل يزاحمه في حجيته. وهذا بخلاف الفحص عن الدليل الاجتهادي في الأصول العملية، فإن الفحص فيها فحص عن مقتضي الحجية؛ فإن البراءة مثلا لا حجية لها قبل البحث عن الدليل الاجتهادي، وبفحصنا عنه نفحص عما يقتضي حجيتها.

إن قلت: ولكن هذا الكلام يتم في البراءة العقلية؛ لأن موضوعها عدم البيان، وهو متوقف على الفحص عما يحتمل كونه بيانا، وهو من وظائف العباد بعد قيام النبي  والأئمة  بوظيفتهم الإلهية، وهي تبليغ الأحكام على النحو المتعارف، وكذا الكلام في التخيير العقلي. ولكنه لا يتم في البراءة الشرعية والاستصحاب؛ لأن دليل الأول، وهو قوله: "رُفِعَعن أمتيمالايعلمون"[2]، مطلق؛ أي سواء فحص المكلف أم لا، وليس مقيدا بما بعد الفحص، وكذا بالنسبة لدليل الاستصحاب، وهو قول الباقر  في صحيحة زرارة: "ولا تنقض اليقين أبدا بالشك"[3]، فهو مطلق أيضا، وليس مقيدا وخاصا بما بعد الفحص.

قلت:أجمع الأعلام على تقييد إطلاق كل من دليل البراءة الشرعية والاستصحاب
بما بعد الفحص؛ بحيث تصبح النتيجة بالنسبة إلى البراءة: (بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي وعدم الظفر به، فقد رُفِعَ عن أمتي ما لا يعلمون)، وتصبح بالنسبة إلى الاستصحاب: (بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي وعدم الظفر به، فلا تنقض اليقين أبدا بالشك).
وعليه، فالفحص عن الدليل الاجتهادي مقتضٍ لحجيتهما، فلا فرق حينئذ بين الأصول العقلية والأصول الشرعية.


[1] کفايه الاصول، الاخوند الخراساني، ج1، ص226.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج15، ص369، أبواب جهاد النفس، باب56، ح1، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص245، ابواب نواقض الوضوء، باب1، ح1، ط آل البیت.