الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/02/22

بسم الله الرحمن الرحیم

المبحث الثامن: اشتراط حجية العام بالفحص عن المخصِّص
قال صاحب الكفاية: "فصل: هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصِّص؟ فيه خلاف، وربما نفي الخلاف عن عدم جوازه، بل ادعي الإجماع عليه، والذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام، أنه هل يكون أصالة العموم متَّبعة مطلقا؟ أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة من باب الظن النوعي للمشافَه وغيره، ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا، وعليه فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص واليأس".[1]
        حاصل هذا المبحث أنه إذا ورد عام سواء من الكتاب أم السنة، فهل يجوز العمل به قبل الفحص عن المخصِّص، أم لا يجوز إلا بعد الفحص؟
        وقبل الخوض في خضم هذا المبحث لا بد من التنبيه على أن هذه المسألة لا تختص بالعام والخاص، بل هي شاملة لكل الظهورات؛ كالمطلق والمقيد، وأصالة الحقيقة، وخبر الواحد وغيرها من الظهورات التي نشأت حجيتها من بناء العقلاء على العمل بها؛ وإن كان سيأتي من صاحب الكفاية التصريح بخروج أصالة الحقيقة عن محل النـزاع؛ بدعوى أن احتمال قرينة المجاز مما اتفقت كلمات الأعلام على عدم الاعتناء به ولو قبل الفحص. 
ومهما يكن، فالسؤال يعم الجميع، وهو أنه هل يجوز العمل بالظهورات قبل الفحص عن معارض لها، أم لا يجوز إلا بعد الفحص؟
        يجيب صاحب الكفاية فيما يخص العام، بأنه ربما نفي الخلاف عن عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص، بل ادعي الإجماع عليه. وكذلك ذكر الشيخ الأنصاري في التقريرات: "الحق كما عليه المحققون عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص عن المخصِّص،وربمانفي الخلاف فيه؛ كما عن الغزّالي والآمدي، بل ادعي عليه الإجماع؛ كما عن النهاية، وحكى عن ظاهر التهذيب اختيار الجواز، وتبعه العميدي والمدقق الشيرواني وجماعة من الأخبارية منهم صاحب الوافية وشارحها، ومال إليه بعض الأفاضل في المناهج"[2].
        إذًا اتفق أكثر الأعلام على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصِّص، إلا أنهم اختلفوا في وجه عدم الجواز:
        الوجهالأول:
وهو أنه لما كانت حجية العام من باب إفادته الظن الشخصي، ومع احتمال المخصِّصلا يحصل الظن الشخصي بدون الفحص عنه، فوجب الفحص عنه لتحصيل الظن الشخصي بكون العموم مرادا واقعا للمتكلم.
        وفيه: إن العام بل كل ظهور حجة من باب إفادته الظن النوعي وإن لم يفد الظن الشخصي، بل هو حجة حتى مع قيام الظن الشخصي على الخلاف؛ إذ العقلاء يعملون بالظهورات لإفادتها الظن غالبا. وعليه، فهذا الوجه باطل لأنه بني على باطل. أضف إلى ذلك أن المدعى وجوب الفحص وإن حصل ظن شخصي بالوفاق، وبناء على هذا الوجه يسقط الفحص بحصول الظن.  
        الوجه الثاني:
        وقد ذهب إليه المحقق القمي، وقد يقرر هذا الوجه بأحد أمرين:
        - الأول: إن خطابات الكتاب والسنة خاصة بالمشافَهين، فلا تعم غيرهم من الغائبين والمعدومين. وعليه، فلا يمكن لغير المشافَهين بالخطاب أن يتمسكوا بتلك العمومات، وإنما يثبت الحكم في حق غير المشافَهين بقاعدة الاشتراك في التكليف، والتمسك بهذه القاعدة يتوقف على تعيين حكم المشافَهين من تلك الخطابات، وأنه عام أو خاص. ومن المعلوم أن تعيّنه منها يتوقف على الفحص، ومن هنا يجب الفحص على غير المشافَهين.
        وفيه: سنذكر قريبا إن شاء الله تعالى أن الخطابات غير مختصة بالمشافَهين والحاضرين في مجلس الخطاب، بل تعم غيرهم من الغائبين والمعدومين أيضا.
        - الثاني: إن خطابات الكتاب والسنة خاصة بالمشافَهين، وأما الغائبون عن مجلس الخطاب والمعدومون في ذلك الوقت، فهي حجة عليهم من باب الظن المطلق الثابت اعتباره بدليل الانسداد، والقدر المتيقَّن من اعتباره هو الظن الحاصل بعد الفحص واليأس.
        وفيه: تقدم أنه سيأتي أن الخطابات غير مختصة بالمشافَهين، وأنها تعم الغائبين والمعدومين، كما سيأتي أيضا بطلان القول بالانسداد الكبير؛ لانفتاح باب العلمي بحمد الله تعالى وإن انسد علينا باب العلم غالبا.
        الوجه الثالث:
        وقد ذهب إليه أغلب الأعلام ومنهم الشيخ الأنصاري ؛ حيث قال: "إن العلم الإجمالي بورود معارضات كثيرة بين الأمارات الشرعية التي بأيدينا اليوم حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهية، واستشعر اختلاف الأخبار، والمنكر إنما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان بذلك، ولا يمكن إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي كما قررنا في محله، فيسقط العمومات عن الحجية للعلم بتخصيصها إجمالا عندعدم الفحص، وأما بعد الفحص فيستكشف الواقع ويعلم أطراف الشبهة تفصيلا بواسطة الفحص"[3].
        حاصل هذا الوجه: إنا نعلم إجمالا بورود مخصِّصات كثيرة على العمومات، حتى قيل: "ما من عام إلا وقد خُصَّ"، وبعد هذا العلم الإجمالي لا يجوز العمل بالعمومات قبل الفحص واليأس من الظفر بمخصِّصات لها؛ لما في ذلك من مخالفة للعلم الإجمالي.
        وقد يشكل في جعل المدرك لوجوب الفحص هو العلم الإجمالي، وحاصل الإشكال: إن العلم الإجمالي بوجود مخصَّصات فيما بأيدينا من الكتب، وإن اقتضى عدم جريان أصالة العموم قبل الفحص، إلا أنه بعد الفحص والعثور على القدر المتيقَّن من المخصِّصات الذي يوجب انحلال العلم الإجمالي؛ كما هو الحال في كل علم إجمالي ترددت أطرافه بين الأقل والأكثر، فإنه بالعثور على المقدار المتيقَّن الذي هو الأقل، ينحل العلم الإجمالي، ويكون الأكثر شبهة بدوية، فيجري فيه الأصل؛ كما لو علم أن في هذا القطيع غنما موطوءة، وتردد بين أن تكون عشرة أو عشرين، فإنه بالعثور على العشرة ينحل العلم الإجمالي لا محالة.
        وفي المقام لا بد أن يكون مقدار متيقَّن للعلم الإجمالي بالمخصِّصات الواقعة في الكتب؛ إذ لا يمكن أن لا يكون له مقدار متيقَّن، فإنه لو سئل عن مقدار معلومه الإجمالي، فلا بد أن يصل إلى حد وعدد يكون الزائد عليه مشكوكا. ويجيب بأنه لا علم لي بأزيد من ذلك. ومقتضى ذلك أنه لو عثر على ذلك المقدار المتيقَّن ينحل العلم الإجمالي، ولا يجب الفحص في سائر الشبهات، بل ينبغي أن تجري فيها أصالة العموم بلا فحص، مع أنهم لا يقولون بذلك، ولا قال به أحد؛ لإيجابهم الفحص عند احتمال المخصِّص، ولا يلتفتون إلى انحلال العلم الإجمالي. وعليه، فلا بد أن يكون المدرك لوجوب الفحص غير العلم الإجمالي.


[1]کفايه الاصول، الاخوند الخراساني، ج1، ص226.
[2]عناية الأصول في شرح كفاية الأصول، سید مرتضی فیروزآبادی، ج2، ص287.
[3]عناية الأصول في شرح كفاية الأصول، سید مرتضی فیروزآبادی، ج2، ص288.