الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/01/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الدليل الثاني: (الشك في المانعية)
        اعتمد هذا الدليل على قاعدة المقتضي والمانع؛ بدعوى أن العام هو المقتضي لثبوت الحكم لكل أفراده، والخاص هو المانع عن حجية العام فيما يشمل الخاص، وهو العالم الفاسق، فلو شككنا في تحقق المانعية بالنسبة إلى الفرد المشتبه؛ أي لو شككنا في أن زيدا العالم فاسق أم لا، فالأصل عدم المانعية، وبالتالي يبقى المقتضي مؤثرا أثره، وهو ثبوت حكم العام لكل أفراده، ومنهم الفرد المشبته، وهو زيد. وعليه، يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
        وفيه: أما كبرويا، فإن قاعدة المقتضي والمانع غير ثابتة أصلا حتى يعوَّل عليها. وأما صغرويا، فإنما يصح هذا الكلام فيما لو ثبت أن العام هو تمام المقتضي لثبوت الحكم لكل أفراده، وهذا غير ثابت؛ إذ قد يكون لنقيض الخاص، دخالة في الاقتضاء. فالإنصاف أن هذا الدليل في غاية الوهن.

الدليل الثالث: (القياس)
        اعتمد هذا الدليل على المقايسة بين الأصول العملية كأصالة الطهارة والحل؛ حيث يتم التمسك بعموماتها في صورة الشبهة المصداقية، وبين ما نحن فيه.
وتوضيحه: في عموم أصالة الطهارة (كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه نجس)، إذا شككنا في مائع ما هل هو نجس ليخرج من تحت العام، أم لا؟ فكان المورد من موارد الشبهة المصداقية، فقد ذهب جميع الأعلام إلى التمسك بالعام، وبالتالي الحكم بطهارة مشتبه النجاسة. وكذا الحال بالنسبة لأصالة الحلية؛ فلو شككنا في مانع ما هل هو خمر أم لا؟ نتمسك بأصالة الحل. وليكن ما نحن فيه كذلك، فنتمسك بالعام في الشبهات المصداقية.
وفيه: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الأصول العملية مجعولة في مرتبة عدم الوصول إلى الواقع واليأس منه، بخلاف الأصول اللفظية، فإنها واقعة في طريق إحراز الواقع والوصول إليه واستخراج المراد النفس الأمري منها، والمفروض أنه قد أحرز المراد الواقعي من العام، وهو العالم غير الفاسق، وأما كون زيد عالما غير فاسق، فهو أجنبي عن المراد الواقعي حتى نجري فيه أصالة العموم.
فالخلاصة إل هنا أنه لا يصح التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، سواء أكان المخصِّص متصلا أم منفصلا.
إذا عرفت ذلك، نرجع إلى بعض فتاوى الأعلام التي كانت منشأ لأن ينسب إليهم القول بصحة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية في صورة المخصِّص المنفصل؛ بدعوى أنه لا يمكن تصحيح هذه الفتاوى إلا من خلال هذا القول.
قال صاحب العروة: "إذا علم كون الدم أقل من الدرهم، وشك في أنه من المستثنيات أم لا، يبني على العفو. وأما إذا شك في أنه بقدر الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو"[1].
نقول: بعد ورود العمومات بعدم صحة الصلاة بالثوب المتنجس سواء بالدم أم بغيره، وردت تخصيصات باستثناء ما قل عن مقدار الدرهم البغلي[2][3]، ثم ورد تخصيص آخر على هذه التخصيصات باستثناء الدماء الثلاثة؛ أي الحيض والاستحاضة والنفاس[4] [5]. وقد طرح صاحب العروة في كلامه مسألتين: الأولى: أنه إن علم المكلف أن الدم أقل من مقدار الدرهم البغلي، إلا أنه شك في كونه من الدماء الثلاثة المستثناة من حكم العفو أم لا، فيبني على العفو. والثانية: أنه إن شك المكلف في كون الدم أقل من مقدار الدرهم أم لا، فالأحوط عدم العفو.
        إذا عرفت ذلك، فقد نسب لصاحب العروة قوله بصحة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية في صورة المخصِّص المنفصل، بناء على فتوييه في المسألة الأولى والثانية؛ بدعوى أنه لا يمكن تصحيحهما إلا على هذا القول.
        أما المسألة الأولى: فالعام هو (كل دم أقل من الدرهم البغلي معفو عنه في الصلاة)؛ كما هو مقتضى حسنة ابن مسلم وصحيحة ابن أبي يعفور وصحيحة الجعفي المتقدمة وغيرها من الروايات الواردة في المسألة، والخاص (لا يُعْفَ عن الدماء الثلاثة وإن كانت أقل من الدرهم البغلي)؛ كما هو مقتضى رواية أبي بصير، وقد علمنا أن دما أقل من مقدار الدرهم، وشككنا في كونه من الدماء الثلاثة أم لا، فهنا بنى صاحب العروة على العفو تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.
        وفيه: أولا: إن تصحيح الفتوى في هذه المسألة لا يتوقف على القول بصحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ قد يحتمل أن البناء على العفو من باب إحراز موضوعه، فإن موضوعه مركب من كون الدم أقل من درهم، وأنه من غير الدماء الثلاثة، والأول محرز وجدانا، والثاني محرز باستصحاب العدم الأزلي؛ أي استصحاب عدم اتصاف الدم بالأوصاف الثلاثة. كما يحتمل أن يكون العفو من باب الشك في كون هذا الدم مانعا من صحة الصلاة أم لا، فيرجع إلى أصالة عدم المانعية بعد سقوط الأصل اللفظي.
        ثانيا: قد صدر من صاحب العروة نفسه ما يؤيد عدم ذهابه إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهو قوله: "إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة المحصورة، وجب الاجتناب عن الجميع، وكذا بالنسبة إلى من يجب التستر عنه ومن لا يجب. وإن كانت الشبهة غير محصورة أو بدوية، فإن شك في كونه مماثلا أو لا؟ أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا؟ فالظاهر وجوب الاجتناب؛ لأن الظاهر من آية وجوب الغض أن جواز النظر مشروط بأمر وجودي، وهو كونه مماثلا أو من المحارم، فمع الشك يعمل بمقتضى العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك"[6]. وهو واضح في كونه ليس من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. نعم، هناك كلام في تمسكه بعموم آية وجوب الغض، إلا أن محله ليس هنا.
        وأما المسألة الثانية: فالعام هو ما دل من الروايات الكثيرة على عدم صحة الصلاة في الثوب المتنجس بالدم أو غيره من النجاسات، والخاص (يُعفى عن الدم الأقل من الدرهم البغلي) - كما هو مقتضى الروايات المشار إليها سابقا - وشككنا في كون الدم أقل من الدرهم أم لا، فهنا احتاط صاحب العروة بعدم العفو تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.
        وفيه: إنه يحتمل أن يكون وجه احتياطه بعدم العفو من باب أن موضوع الخاص أمر وجودي، وهو (الأقل من درهم)، والفرض أننا نشك في تحققه، فالأصل عدمه، فيدخل الفرد المشبته تحت العام من هذا الباب لا من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
        وعليه، لم تصح نسبة القول بصحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إلى صاحب العروة.
        بقي شيء، وهو أنه تقدم معنا في الصورة الأولى من صور الشبهة المفهومية، صحة التمسك بالعام في صورة المخصِّص المنفصل فيما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر؛ لأنه بعد خروج الأقل من تحت العام لكونه القدر المتيقَّن من الخاص، يكون الشك في خروج الأكثر شكا في التخصيص الزائد، فنتمسك بأصالة العموم. وعليه، إن فرضنا الإجمال في سعة الدرهم؛ حيث اختلف في تحديده؛ إذ في كلام ابن إدريس أنه ما يقرب من سعة أخمص الراحة، ولدى ابن الجنيد أنه بسعة عقد الإبهام الأعلى، وحدده بعضهم بعقد الوسطى، وحدده آخرون بعقد السبابة. وبما أنه لا يوجد دليل معتبر عندنا على شيء من هذه التحديدات، فيكون قدر الدرهم دائرا بين السعة والضيق، والتي أضيقها عقد السبابة، ومقتضى القاعدة في هذه الصورة؛ أي عند إجمال الخاص المنفصل المردد بين الأقل والأكثر، هو الاقتصار على الأقل، والرجوع في الباقي إلى عموم العام. وتطبيقه هنا أنه قد ورد ما ظاهره العموم بوجوب الاجتناب عن الدم أو مطلق النجاسات، ثم خصِّص هذا العموم بالمخصِّص المنفصل بما دل على العفو عن الدم الأقل من الدرهم، وبما أن الخاص المنفصل مجمل مردد بين الأقل والأكثر، فيقتصر على القدر المتيقن، وهو الأقل، ويرجع في الباقي إلى أصالة العموم؛ حيث يكون الشك فيما زاد عن عقد السبابة شكا في التخصيص الزائد، فتكون النتيجة أن المعفو عنه هو ما كان بسعة عقد السبابة.


[1] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج1، ص217، م3.
[2]وسائل الشيعة، شیخ حر عاملی، ج3، ص431، أبواب النجاسات، باب20، ح6، ط آل البیت. مما دل على ذلك حسنة محمد بن مسلم قال: "قلت له: الدم يكون في الثوب علي وأنا في الصلاة، قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء، رأيته قبل أو لم تره ...".
[3]وسائل الشيعة، شیخ حر عاملی، ج3، ص430، أبواب النجاسات، باب20، ح2، ط آل البیت.
[4] واستدل عليه بمثل خبر وسائل الشيعة، شیخ حر عاملی، ج3، ص432، أبواب النجاسات، باب21، ح1، ط آل البیت.
[5] مسالك النفوس ج6، ص215. وألحقوا دم الاستحاضة والنفاس بدم الحيض.وقد ذكرنا في مبحث الطهارة من كتابنا مسالك النفوس إلى مدارك الدروس أن هذه الرواية ضعيفة السند؛ لعدم وثاقة أبي سعيد المكاري، ومن هنا قلنا أن دم الحيض كغيره من الدماء معفو عنه في الصلاة فيما إذا كان أقل من مقدار الدرهم. ثم لما سلمنا بعدم العفو عنه، فلا يكون دم الاستحاضة والنفاس لاحقا به.
[6] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص491.