الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/07/07

بسم الله الرحمن الرحیم

القسم الرابع: (النهي عن وصف العبادة المقارن)
ثم انتقل صاحب الكفاية للكلام عن القسم الرابع من أقسام النهي وهو النهي عن الوصف المقارن للعبادة، فقال: "وأما القسم الرابع، فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها؛ لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها، مع كون الجهر بها منهيا عنه فعلا، كما لا يخفى".
حاصل الكلام في النهي عن الوصف المقارن عُرِف مما تقدم؛ فإن النهي عن الوصف المقارن؛ كالنهي عن الجهر في الظهرين والنهي عن الإخفات في العشاءين، يقتضي الفساد؛ لاتحاد الوصف والموصوف في الخارج؛ إذ لا يوجد في الخارج جهر أو إخفات من دون قراءة وإن تعددت مراتبهما بتفاوتهما شدة وضعفا. وإذا ثبت اتحاد الوصف والموصوف خارجا، فلا يمكن للشارع أن يأمر بأحدهما وينهى عن الآخر، وإلا لزم أن يكون شيء واحد مأمورا به ومنهيا عنه في آن واحد، وهو محال.
وعليه، فإن النهي عن الوصف المقارن نهي عن الموصوف، فإن كان الموصوف عبادة، اقتضى النهي عنه فساده.

القسم الخامس: (النهي عن وصف العبادة المفارق)
هذا فيما يخص الوصف المقارن، أما بالنسبة إلى الوصف المفارق، فيقول: "وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقا، كما في القسم الخامس، فإن النهي عنه لا يسري إلى الموصوف، إلا فيما إذا اتحد معه وجودا، بناء على امتناع الاجتماع، وأما بناء على الجواز فلا يسري إليه، كما عرفت في المسألة السابقة".
يقول: إن الكلام في هذا القسم يرجع إلى الكلام في مسألة الاجتماع، فإن النهي عن الوصف المفارق للعبادة؛ كالنهي عن الأكوان الغصبية التي قد تقارن الصلاة؛ فإن قلنا بالامتناع هناك، بأن كان المجمع واحدا، فإن النهي حينئذ يسري من متعلقه إلى متعلق الأمر، فتدخل المسألة حينئذ في باب التعارض، فإن قدمنا جانب النهي فتفسد الصلاة؛ إذ النهي عن العبادة يوجب فسادها. وأما إن قدمنا جانب الأمر، أو قلنا بالجواز لتعدد المجمع وعدم سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر، فلا موجب للفساد حينئذ؛ إذ العبادة ليست منهيا عنها.

المقام الثاني: النهي عن المعاملات
بعد الفراغ من الكلام في المقام الأول، وهو النهي عن العبادات بأقسامها الخمسة، انتقل صاحب الكفاية للكلام عن المقام الثاني، وهو النهي عن المعاملات، فقال: "المقام الثاني في المعاملات: ونخبة القول، أن النهي الدال على حرمتها لا يقتضي الفساد؛ لعدم الملازمة فيها - لغة ولا عرفا - بين حرمتها وفسادها أصلا، كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة، أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبب بها إليه، وإن لم يكن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام، وإنما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها؛ مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع أو بيع شيء".
إن النهي عن المعاملات، وهي عبارة هنا عن العقود والإيقاعات، تارة يكون عن سبب المعاملة؛ كالنهي عن البيع وقت النداء إلى صلاة الجمعة؛ فإن المبغوضية قائمة في نفس الإيجاب والقبول لا في التملك. وأخرى يكون النهي عن المسبَّب؛ كالنهي عن بيع المصحف والعبد المسلم لغير المسلم؛ فإن المبغوضية قائمة في تملك غير المسلم للمصحف؛ لما قد يترتب عن ذلك من هتك ونحوه، وفي تملك غير المسلم للعبد المسلم؛ للزومه تسلطه عليه، وقد قال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. [1] وثالثا يكون النهي عن التسبُّب إلى المسبَّب بسبب خاص؛ كالنهي عن تملك الكلب بخصوص البيع، وإلا فإن تملكه بالهبة مثلا لا إشكال فيه.
هذه أقسام النهي عن المعاملات، وقبل بيان أي من هذه الأقسام يقتضي النهي عنه الفساد، نقدم أمرين: أولا: قد ذكرنا سابقا أنه إذا شككنا في صحة المعاملة المنهي عنها، وكان من جهة الشبهة الحكمية لا من جهة الشبهة المصداقية، فتشملها العمومات أو الإطلاقات الواردة في الشريعة الإسلامية؛ مثل قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[2]، أو وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [3]، أو تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ [4]، أو قوله: "النكاح من سنتي"[5]. نعم، لو فرضنا عدم وجود هذه العمومات أو الإطلاقات، كان مقتضى الأصل هو الفساد؛ فلو شككنا في صحة بيع المنابذة أو بيع الملامسة أو بيع الحصاة، كان مقتضى الأصل هو الفساد فيما لو فرض عدم وجود إطلاق أو عموم يدل على الصحة.
ثانيا: إن النهي الذي نشك في اقتضائه الفساد هو النهي المولوي، أما النهي الإرشادي فهو خارج عن محل النـزاع؛ لأنه يقتضي الفساد حتما؛ كقول أبي عبد الله  عن النبي  في خبر المناهي: "ونهى عن بيع ما ليس عندك"[6]، فإنه إرشاد إلى أنه يشترط في صحة البيع أن يكون المبيع مملوكا للبائع أو لموكله، فمن باع ما لا يملك وما لم يوكله المالك ببيعه، فبيعه فاسد حتما.
ثم اعلم أن أغلب النواهي الواردة في المعاملات سواء العقود أم الإيقاعات هي نواه إرشادية، من هنا يكون البحث في هذه المسألة قليل الجدوى. وقد ذكرنا في بعض المناسبات كيفية التمييز بين النهي الإرشادي والنهي المولوي. نعم، مع الشك في ذلك، فالأصل كون النهي مولويا. وقد تأتي فرصة لمزيد من التوضيح إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن المشهور بين الأعلام أن النهي المولوي عن المعاملة لا يقتضي فسادها، سواء كان النهي عن سببها أم مسببها أم عن التسبُّب إلى المسبَّب بسبب خاص ونحوها، إلا أنهم استثنوا من ذلك صورة واحدة، وهي فيما لو كان النهي عن الثمن أو المثمن؛ كالنهي عن ثمن العذرة؛ كما جاء في خبر يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله: "ثمن العذرة من السحت"[7]، فإنه دال على فساد المعاملة.
هذا هو مشهور الأعلام، وسيتضح لك أن النهي عن الثمن والمثمن خارج عن محل الكلام؛ لأنه نهي إرشادي، وهو دال على الفساد كما عرفت.
وقد ذهب الميرزا النائيني  إلى أن النهي عن السبب لا يدل على الفساد، بينما يدل عليه النهي عن المعاملة، خلافا لأبي حنيفة والشيباني اللذين ذهبا إلى أن النهي عن المسبب يدل على الصحة، وقد وافقهم صاحب الكفاية في خصوص النهي عن المسبب أو التسبيب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.



[1] نساء/سوره4، آیه141.
[2] مائده/سوره5، آیه1.
[3] بقره/سوره2، آیه275.
[4] نساء/سوره4، آیه29.
[5]  عوالي اللآلئ باب النكاح ج2، ص261، ح3.
[6]  وسائل الشيعة باب 12 من أبواب البيع ج17، ص357، ح12.
[7]  وسائل الشيعة باب 40 من أبواب ما يكتسب به ج17، ص175، ح1.