الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/06/30

بسم الله الرحمن الرحیم

الأمر السابع: الأصل العملي
        قال صاحب الكفاية: "لا يخفى أنه لا أصل في المسألة يعوَّل عليه، لو شك في دلالة النهي على الفساد. نعم، كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد، لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة. وأما العبادة فكذلك، لعدم الأمر بها مع النهي عنها، كما لا يخفى".
حاصل هذا الأمر أنه مع عدم الدليل الاجتهادي على اقتضاء النهي الفساد، فهل من أصل عملي يمكن الركون إليه؟
        أما في المسألة الأصولية، فالمعروف بين الأعلام أنه لا أصل معيِّن للفساد أو عدمه؛ لأن الكلام إما في الملازمة بين النهي عن الشيء وفساده، أو في دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته عليه، ولا أصل في الصورتين؛ إذ لو كان الكلام في الملازمة، فإما أن تكون الملازمة حاصلة من حين وجود النهي أم لا، فلا شك في بقاء الفساد بعد العلم بتحققه ليتعين القول بأصالة الفساد. ولو كان الكلام في الدلالة، فكذلك لا أصل يعين الفساد في الدلالة أو عدمه بحال الشك.
نعم، ذهب بعض الأعلام إلى أنه لما كانت الدلالة كالعلم الوجداني الذي لا يشوبه شك، فيمتنع الشك في الحجية أيضا مضافا إلى أنه لو جرت أصالة عدم الدلالة على الفساد، لم تصلح لإثبات الصحة؛ إذ الصحة ليست من اللوازم الشرعية لعدم الدلالة.
وفيه: إن الدلالة تنشأ من الظهور، والظهور ينشأ من الوضع أو الإطلاق أو العموم أو القرينة، وكل ذلك قد يحدث فيه الشك فيصير الكلام مجملا. وعليه، فدعوى كون الدلالة كالعلم من الأمور الوجدانية التي لا تقبل الشك في غير محله، إلا أن يكون مرادهم المساوقة من حيث الحجية؛ بمعنى أن الشك في حجية الدلالة إنشاءً يساوق القطع بعدم حجيتها فعلا، فإن ذلك صحيح.
        والنتيجة: إنه لا أصل في المسألة الأصولية يعين الفساد أو عدمه مع غياب الدليل الاجتهادي على أحدهما، سواء في العبادات أم المعاملات.
        أما في المسألة الفرعية، فقد اتفق الأعلام على أن الأصل هو الفساد بالنسبة إلى المعاملات؛ فلو أوجد زيد بيعا في الخارج قد نهى عنه الشارع، والفرض أنه لا دليل على صحته وفساده، فالأصل فيه هو الفساد؛ لأن الأصل عدم ترتب الأثر من النقل والانتقال، بل هذا الأصل جار لمجرد حصول الشبهة الحكمية في صحة المعاملة حتى لو لم يرد نهي عنها.
        وتنبغي الإشارة إلى أن هذا الكلام كله مبني على فرض عدم وجود الدليل الاجتهادي على صحة المعاملة حتى مع ورود النهي عنها، وإلا فقد ورد الدليل على صحتها كإطلاق >أَوْفُوا بِالْعُقُودِ<، >تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ<[1]، فتكون هذه الإطلاقات شاملة لكل معاملة مشكوكة الصحة من حيث الشبهة الحكمية دائما أو غالبا. أما دائما، فبناء على من ذهب من الأعلام إلى أن الشارع أمضى بهذه الإطلاقات كل معاملة لدى العرف؛ سواء أكانت موجودة في زمن التشريع أم بعده. وأما غالبا، فبناء على أن الشارع أمضى خصوص المعاملات الموجودة في ذلك الوقت. فعلى القول الأول يلزم تصحيح كل معاملة مستحدثة لكونها مشمولة بهذه الإطلاقات؛ كعقد التأمين على النفس، وعلى الثاني لا يمكن تصحيحها إلا إن أرجعناها إلى إحدى المعاملات التي كانت موجودة وقد أمضاها الشارع؛ كالإجارة أو الصلح أو الهبة المعوضة ونحوها.
        هذا بالنسبة إلى المعاملات، أما العبادات، فلو فرضنا أيضا أنه لا يوجد دليل اجتهادي على فساد العبادة المنهي عنها، وشككنا في فسادها، فالأصل المتعين هو الفساد؛ لأن ورود النهي عنها يعني سقوط الأمر بها؛ إذ لا يعقل اجتماعهما على شيء واحد، وإلا لزم التكليف المحال، فهنا لا يمكن تصحيح العبادة مطلقا. لا من جهة قصد امتثال الأمر، ولا من جهة الملاك. أما على الامتثال، فواضح؛ إذ لا أمر ليقصد امتثاله. وأما بناء على صحة العبادة بقصد ملاكها - باعتبار أن الملاك باق حتى بعد سقوط الأمر؛ لعدم تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية، كما ذهب إليه الميرزا النائيني - فأيضا لا يمكن تصحيح العبادة؛ لأننا إن سلمنا بوجود الملاك، إلا أنه ملاك مغلوب بملاك النهي، فلا يمكن أن يكون مؤثرا في الصحة.
ثم إن العبادة التي يشترط فيها أن تكون راجحة ومحبوبة للمولى حبا خالصا من أية مبغضوية وحزازة، لا يعقل أن تصح حال كونها مرجوحة مهما كان حال الملاك مع فرض النهي عنها؛ لما فيه من المبغوضية والحزازة.
وبالجملة، فإن الشارع المقدس إذا لم يصحح الشيء المرجوح في غير العبادات، فكيف بها حينئذ؛ كما في مسألة اليمين الذي يكفي في متعلقه الإباحة، فلو كانت اليمين على شيء مساوية أو راجحة ابتداء، ثم صار متعلقها مرجوحا - أي صارت المخالفة أولى – انحلت اليمين، ولا كفارة؛ كما في صحيحة سعيد الأعرج قال: "سألت أبا عبد الله  عن الرجل يحلف على اليمين، فيرى أن تركها أفضل، وإن لم يتركها خشي أن يأثم، أيتركها؟ قال: أما سمعت قول رسول الله 6: إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها؟!"([2]).
        وعليه، إن الأصل في المسألة الفرعية هو الفساد، سواء في المعاملات أم العبادات.
        أما الميرزا النائيني، فقد وافق على أن الأصل في المعاملات في المسألة الفرعية هي الفساد، أما في العبادات، فيقول: إن الشك - في أن النهي عن العبادة يقتضي فسادها أم لا - يرجع إلى الشك في المانعية؛ أي الشك في أن المنهي عنه مانع من صحة العبادة أم لا؟ والشك في المانعية صغرى للشك في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، فإن قلنا هناك بالبراءة صحت العبادة هنا، وإن قلنا بالاشتغال فسدت.
        هذا تمام ما قاله الميرزا، وقد علق عليه المقرر بأن هذا الكلام غير تام على إطلاقه؛ وإنما يتم فيما لو كان النهي عن جزء العبادة أو شرطها أو وصف ملازم لها؛ حيث يكون للشك في اقتضاء النهي عن العبادة يقتضي فسادها أم لا مكان، فنرجع حينئذ إلى ما قلناه في الأقل والأكثر الارتباطيين، أما لو كان النهي عن نفس العبادة؛ كالنهي عن صلاة الحائض أو صوم العيدين، فلا يتم هذا الكلام إذ ليس هناك شيء وراء العبادة تعلق النهي به يشك في مانعيته حتى يُنفى بالأصل. ومهما يكن، فقد عرفت ما هو الإنصاف في المسألة، فلا حاجة للإعادة.



[1] نساء/سوره4، آیه29.
[2]  وسائل الشيعة باب 18 من كتاب الأيمان ج23، ص240، ح1.