الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/06/09

بسم الله الرحمن الرحیم

المرجح الثاني: قال صاحب الكفاية: "ومنها: إن دفع المفسدة أولى منجلبالمنفعة. وقد أورد عليه في القوانين، بأنه مطلقا ممنوع؛ لأن في ترك الواجبأيضامفسدة إذاتعين. ولا يخفى ما فيه، فإن الواجب ولو كان معينا، ليس إلا لأجل أن في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة،كماأن الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه. ولكن يرد عليه أن الأولوية مطلقا ممنوعة، بل ربما يكون العكس أولى".
حاصل هذا المرجح أنه إن دار الأمر في مسألة اجتماع الأمر والنهي بين دفع المفسدة القائمة في متعلق النهي، وجلب المنفعة القائمة في متعلق الأمر، فيقدم دفع المفسدة لأولويته؛ أي يقدم جانب النهي على جانب الأمر.
وفيه: أولا: ذكرنا في أكثر من مورد أن الأحكام الشرعية - على ما عليه العدلية - تابعة للمصالح والمفاسد القائمة في متعلقاتها، وليست تابعة للمنافع والمضار؛ إذ قد يشتمل متعلق الواجب على ضرر؛ كاشتمال الخمس والزكاة الواجبين على نقص في مال المكلف مع أن في الخمس والزكاة مصلحة ملزمة، وكذا الحال في الجهاد، فبالرغم من اشتماله على مصلحة إلزامية إلا أنه قد يكون فيه ضرر بدني؛ كذهاب العين أو قطع اليد ونحوهما، كما قد يشتمل متعلق النهي على منفعة؛ كاشتمال الخمر والميسر على منفعة معينة؛ قال: >يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا<[1]، مع أن في متعلقهما مفسدة ملزمة.
ثانيا: إنه مع التسليم كبرويا بهذه القاعدة المدعاة (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة)، إلا أن موردنا لا يصلح صغرى لها؛ لأن موردها إما المتزاحمان، أو الأمر الذي يدور الأمر بين وجوبه وحرمته. ومثال الأول تزاحم وجوب الإنقاذ مع حرمة التصرف بأرض الغير بدون إذنه مع فرض استلزم الإنقاذ هذا التصرف المحرم؛ حيث لا يمكن جلب مصلحة الإنقاذ مع دفع مفسدة التصرف، فمع فقدان المرجح لأحدهما يمكن الرجوع إلى هذه القاعدة.
ومثال الثاني صلاة الجمعة التي يدور أمرها بين كونها واجبة أو محرمة في عصر الغيبة؛ حيث ذهب جماعة إلى وجوبها بينما ذهب بعض إلى حرمتها، ولا يمكن جلب مصلحة الإتيان بها مع دفع مفسدة الإتيان بها، فهنا يمكن الرجوع إلى القاعدة أيضا؛ حيث يقدم دفع المفسدة بترك صلاة الجمعة على جلب المصلحة بإتيانها.
أما موردنا فهو اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع ووحدة المجمع؛ فإن المسألة بناء على ذلك داخلة في باب التعارض؛ حيث يدور الأمر بين أن يكون لدينا مصلحة بتقديم جانب الوجوب أو مفسدة بتقديم جانب النهي، فلا تزاحم بين مصلحة ومفسدة.
ثم إن صاحب القوانين المحقق القمي  ذهب إلى أن هذه القاعدة مطلقا ممنوعة؛ إذ كما أن في فعل الحرام مفسدة، فكذلك في ترك الواجب المعين مفسدة أيضا، وعليه حينما يدور الأمر مثلا بين وجوب الصلاة في الدار المغصوبة وحرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه، لا يدور الأمر بين جلب مصلحة ودفع مفسدة، بل يدور الأمر بين دفع مفسدتين، هما: مفسدة التصرف في مال الغير، ومفسدة ترك الصلاة الواجبة.
وفيه: إنه من المعلوم الذي لا ينبغي الشك فيه أن المصلحة قائمة في متعلق الواجب، ومن هنا يلزم من تركه تفويت هذه المصلحة فحسب، لا أنه يلزم وقوع مفسدة ما من ترك الواجب، وإلا للزم أن يعاقب تارك الصلاة مثلا عقابين: عقاب على تفويت المصلحة، وعقاب على وقوعه في المفسدة، وهذا باطل. وعليه، فالعجب كل العجب من صدور هكذا كلام عن مثل المحقق القمي.
نعم، يرد على هذه القاعدة أن الأولوية مطلقا ممنوعة، بل ربما يكون العكس أولى؛ لأننا وجدنا في بعض الموارد أن جلب المصلحة أولى من دفع المفسدة، وحسبك فيما لو دار الأمر بين جلب مصلحة حفظ بيضة الإسلام التي لا يزاحمها في الأهمية شيء، وبين دفع مفسدة التصرف في مال الغير أو أية مفسدة أخرى، فإنه لا ينبغي النـزاع حينئذ على أن جلب المصلحة في هذا المورد مقدم على دفع المفسدة مطلقا، وكذا غيره؛ كبعض الواجبات التي بني عليها الإسلام؛ كالصلاة والحج والصوم والزكاة ونحوها، فإن لا إشكال في تقدمها على غيرها من المحرمات في حال المزاحمة.
        إذًا هذه القاعدة ليست على إطلاقها، ثم إن أولوية دفع المفسدة المدعاة ليست إلا أولوية ظنية ناشئة عن استحسانات عقلية لا ترقى إلى الحجية، بل حتى لو سلمنا بأنها قطعية، إلا أنها لا تجري إلا في حال عدم إمكان جريان الأصول العملية؛ كما لو شك المكلف في أنه هل حلف على ترك وطء الزوجة ليلة الجمعة أو حلف على وطئها، فيدور الأمر بين وجوب الوطء وحرمته، فهنا لا محل للبراءة والاشتغال؛ للعلم بالإلزام وعدم إمكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية، وإنما يكون المكلف مخيرا عقلا، فتجري القاعدة حينئذ بناء على ثبوتها؛ حيث يقدم دفع المفسدة، فيتعين عليه ترك الوطء.


[1] بقره/سوره2، آیه219.