الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/06/08

بسم الله الرحمن الرحیم

        هذه خلاصة معنى الإطلاق الشمولي والبدلي، وقد أورد صاحب الكفاية  على دعوى تقديم الإطلاق الشمولي قائلا: "وقد أورد عليه بأن ذلك فيه من جهة إطلاق متعلقه بقرينة الحكمة، كدلالة الأمر على الاجتزاء بأي فرد كان".
        حاصل ما أورده صاحب الكفاية هو أنه لما كان كل من الإطلاق الشمولي والبدلي مستفادا من مقدمات الحكمة، وبالتالي ظهورهما في مرتبة واحدة، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.
        ثم أورَد على هذا إيراده قائلا: "وقد أورد عليه بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالإطلاق بمقدمات الحكمة، وغير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام، لكان استعمالمثل(لا تغصب)فيبعضأفرادالغصب حقيقة، وهذا واضح الفساد، فتكوندلالتهعلىالعموممنجهةأن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي، يقتضي عقلاسريانالحكمإلىجميعالأفراد؛ ضرورةعدمالانتهاءعنها أو انتفائها، إلا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه".
        يقول: لو صح أن الشمول والاستيعاب لكل أفراد الغصب في مثل (لا تغصب) مستفادا من مقدمات الحكمة وليس من الوضع، لكان استعمال هذه العبارة في بعض أفراد الغصب استعمالا حقيقيا، وهذا باطل. فالحق أن الشمول من (لا) الناهية مستفاد من الوضع، غايته أنها تدل بالمطابقة على النهي عن الطبيعة، وتدل بالملازمة على النهي عن كل أفراد الطبيعة؛ لأن الطبيعة موجودة في كل أفرادها، فلا يمكن الانتهاء عنها إلا بترك كل أفرادها.
        وعليه، إذا كانت دلالة النهي على الشمول بالوضع، ودلالة الأمر بالإطلاق، فيقدم النهي؛ لأن الوضع حجية العام الوضعي تنجيزية بينما الإطلاق متوقف على مقدمات الحكمة والتي من جملتها عدم نصب قرينة على الخلاف، و(لا تغصب) قرينة تمنع من انعقاد الإطلاق في مورد الاجتماع.
        هذا هو حاصل الإيراد على الإيراد، وقد أجاب صاحب الكفاية  قائلا: "قلت: دلالتها على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر، لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك، إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما، فيختلف سعة وضيقا، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الأفراد، إلا إذا أريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد".
        يقول: إنا لا ننكر دلالة (لا) على الشمول بالوضع، إلا أنها تدل على شمول الأفراد المرادة من مدخولها الذي قد يكون المراد منه نصف الأفراد أو أكثر أو أقل، وإنما تدل على شمول كل أفراد المدخول إذا كان المدخول مطلقا، فترجع الحاجة إلى مقدمات الحكمة من جديد لتكون دلالة النهي على الشمول بالإطلاق؛ أي بإطلاق مدخول (لا)، فيكون ظهوره في مرتبة ظهور الأمر، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر حينئذ. اللهم إلا أن يقال بأن (لا) مثل (كل) في دلالتها على الشمول بالوضع بلا حاجة إلى إطلاق في مدخولها؛ حيث يقدم النهي الشمولي على الإطلاق البدلي.
        ولا يخفى عليه أنه  في مبحث العام والخاص ذهب إلى أن لفظة (كل) مثل (لا) الناهية في أنها تحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مدخولها. نعم، هناك فرق بينهما ذكره هناك، وسنذكره إن شاء الله تعالى في مبحث العام والخاص.
        والإنصاف هو ما ذهبنا إليه من أن (لا) إنما تدل على النسبة السلبية فحسب، وإنما يستفاد الشمول من قرينة خارجية؛ كالقرينة العقلية على أن الانتهاء عن الطبيعة لا يكون إلا بترك كل أفرادها.
        وعليه، ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أن (لا) موضوعة للشمول في غير محله، وكذا ما ذهب إليه من أنه حتى لو قلنا بأنها موضوعة للشمول، إلا أن دلالتها على شمولها لكل أفراد مدخولها يحتاج إلى الإطلاق فيه، فهذا في غير محله أيضا؛ لأنه بعد الاعتراف بأن (لا) موضوعة للشمول، فتكون بنفسها كافية للدلالة عليه بلا حاجة إلى الإطلاق في مدخولها، وإلا لم يكن لدلالتها بنفسها على الشمول معنى، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في مبحث العام والخاص، والله العالم.
أما ما ذكره من أنه حتى مع القول بأن (لا تغصب) دالة على الشمول بالوضع، فيكون استعمالها في البعض ليس مجازيا، فهو في محله؛ لأن استفادة البعض من قرينة خارجية وهي تعدد الدال والمدلول؛ مثلا لو قال الشارع: (أكرم العلماء العدول)؛ فإن إرادة خصوص العالم العادل من العلماء بقرينة العدول لا تكون بنحو المجاز؛ لتعدد الدال والمدلول؛ حيث إن كلا من العلماء والعدول قد استعمل في معناه الحقيقي، فلا يلزم المجاز لا في أداة العموم؛ حيث إنها مستعملة في عموم ما أريد من المتعلق، ولا في متلوها؛ لاستعماله في معناه الحقيقي، وهو الطبيعة المهملة.
ثم نأتي إلى ما استدل به كل من الشيخ الأنصاري والميرزا النائيني  على تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي:
الدليل الأول: إن معنى الإطلاق الشمولي في النهي أنه لكل فرد من أفراد الطبيعة المنهي عنها حكم خاص، ومعنى الإطلاق البدلي في الأمر أنه لدينا حكم واحد وهو وجوب صرف وجود الطبيعة، إلا أن المكلف مرخص في تطبيق هذا الحكم على أحد أفرادها. وعليه، يلزم من تقديم الأمر على النهي؛ مثلا تقديم (صلِّ) وبالتالي تقييد (لا تغصب) بغير هذا الفرد الواجب، التصرف في حكم النهي وتضييق دائرته، بينما غاية ما يلزم من تقديم النهي على الأمر هو تضييق دائرة أفراد حكم الوجوب، والتصرف في الأفراد أولى من التصرف في الحكم، ومن هنا يقدم الإطلاق الشمولي على البدلي.
وفيه:أولا: لا دليل شرعي على أولوية التصرف في الأفراد بدل التصرف في الحكم، بل الفرض أن لكل منهما إطلاقا، وبالتالي يكون ظهورهما في رتبة واحدة، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر إلا الاستحسان، وهو غير حجة.
ثانيا: ذكرنا في مبحث (تردد القيد بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة) ما أشكل به السيد الخوئي  على الميرزا النائيني من أن التصرف في الحكم حاصل حتى في حال تقديم الإطلاق البدلي. وتوضيحه: في الإطلاق البدلي كما في (أكرم عالما) لدينا حكم واحد إلزامي، وهو الوجوب، ولكن بما أن الشارع قد أطلق الحكم ولم يقيده بفرد خاص من أفراد الطبيعة، فيلزم عقلا ثبوت حكم ترخيصي شرعي في تطبيقها على أي فرد من أفرادها شاءه المكلف. وعليه، فرفع اليد عن الإطلاق البدلي أيضا يستلزم رفع اليد عن الحكم والتصرف فيه، فلا أولوية إذن لتقديم الإطلاق الشمولي بعدما ثبت أن بتقديم أي منهما يلزم التصرف في الحكم.
هذه خلاصة ما أورده السيد الخوئي على أستاذه في تقديم الإطلاق الشمولي، وقد رددنا ذلك في محله أيضا بأنه في غير محله؛ لأن التخيير في تطبيق الطبيعة على أي فرد من أفرادها هو تخيير عقلي لا شرعي، وعليه فهذا الترخيص الشرعي في التطبيق يكون إرشادا لحكم العقل بذلك، وقد عرفت سابقا أن الملاك في الحكم الإرشادي هو كون وجود الأمر وعدمه سيان، وفي المقام كذلك؛ لأنه بعد حكم العقل بالتخيير في التطبيق على أي فرد من أفراد الطبيعة يكون الترخيص الشرعي في التطبيق مستغنَيا عنه.
الدليل الثاني: صحيح أن كل من النهي (لا تغصب) والأمر (صلِّ) يحتاجان إلى مقدمات الحكمة، إلا أنها تختلف من مورد إلى آخر، ففي الإطلاق الشمولي يكفي فيها أن يكون المتكلم في مقام البيان، وأن لا ينصب قرينة على الخلاف، وأن يكون اللفظ مقسما، بينما في الإطلاق البدلي نحتاج إلى مقدمة رابعة، وهي إحراز كون كل الأفراد متساوية الأقدام في الوفاء بغرض المولى، فإذا احتملنا أن بعضها غير وافية بغرضه، فلا يستقيم الإطلاق.
وتوضيحه: في الإطلاق الشمولي يكون الحكم شاملا لكل الأفراد حتى لو كان الملاك في بعض الأفراد أشد منه في البعض الآخر؛ مثلا: (لا تقتل) هنا الحكم شامل لكل أفراد القتل مع أن الملاك في قتل النبي أشد بكثير من الملاك في حرمة قتل زيد.
أما في الإطلاق البدلي، فالحكم يشمل خصوص الأفراد المتساوية في الوفاء بغرض المولى، وإلا لو شككنا أن بعضها غير واف بغرضه، فلا يكون إتيانه مجزيا؛ مثلا: (صلِّ)، هنا الحكم شامل لكل أفراد الصلاة الطولية والعرضية على البدلية، فلما ورد النهي عن المولى فقال: (لا تغصب)، احتملت أن الصلاة في المكان المغصوب ليست وافية بغرض المولى، فحينئذ لا تكون مجزية، ولا يكفي الإطلاق في إحراز الوفاء، إنما نحرز كونها وافية به من خلال القرينة الخارجية.
وعليه، لو دار الأمر بين الإطلاق الشمولي الذي يحتاج إلى ثلاث مقدمات فحسب، وبين الإطلاق البدلي الذي يحتاج إلى مقدمة إضافية لا بد من إحرازها، فيقدم الإطلاق الشمولي؛ لاحتمال أن يكون (لا تغصب) قرينة على عدم وفاء الصلاة في الأرض المغصوبة بغرض المولى.
وفيه: إن كلا من الإطلاق الشمولي والبدلي لا يحتاجان إلى أكثر من المقدمات الثلاث، ولا حاجة إلى قرينة خارجية لإحراز كون جميع أفراد الطبيعة المأمور بها وافية بغرض المولى في الإطلاق البدلي، بل الإطلاق نفسه كاف في إحراز ذلك بعد ترك المولى لتقييد الطبيعة؛ فإذا قال المولى: (أكرم عالما)، واحتملت أن العالم غير المجاهد قد لا يكون وافيا بغرض المولى، فهذا الاحتمال لا يضر بإطلاق المولى؛ لأنه لو أراد خصوص العالم المجاهد لقيّد، وبما أنه لم يقيد فيبقى الإطلاق على إطلاقه نافيا لاحتمال التقييد، ومن هنا كان ديدن العلماء التمسك بالإطلاق في حال الشك في شموله لبعض الأفراد.
وعليه، فالإنصاف أن هذا الترجيح الأول، وهو أن النهي يقدم على الأمر؛ لأن النهي شمولي والأمر بدلي، والإطلاق الشمولي يقدم على الإطلاق البدلي، لم يكتب له التوفيق، والله العالم.